طفولة قريبة على بعد

طفولة قريبة على بعد

أحمد بنمميون

“الكتابة هي، أكثر من أي وقت كان، 

مناسبة لإعطاء القاريء هبة من  ذات الكاتب”

 فيليب رامي في تقديم حواره مع بول أوستر 

 إلى أي حد يصح اعتبار الجسد قناعاً للروح أو النفس أو الذات أو الأنا، وقميصاً نرتديه حتى نُرى من خلاله، ويكون هناك داخل ذاتي، وخارج موضوعي نتحرك على مستوياته الملموسة؟ وإلى أي حد يمكن أن تتواءم حقيقتنا الداخلية التي لا يعايشها بعمق غيرنا، مع صورتنا التي يرانا عليها الآخرون؟ 

 فكم من فنان كان في علاقة تنافر مع صورته الخارجية التي أسهمت في تكوين ملامحها أحداث حياته، فبدا للناس بملامح قاسية وهو الوديع الطيب في دواخله.. وقد لا يكون غريباً أن تكون صورته الداخلية هي نفسها صورته التي نراه عليها في الغالب: براءة وطهارة ونقاء سريرة، وبياضا خلاباً كالنور في صباح جديد، لمّا تلوِّثها صدامات او وقائع الدنيا. 

لكن الأمر يختلف مع تقدمنا على طريق الحياة، حيث نعتقد أن صورنا الخارجية هي عكس ما نظهر، أو ما نحب أن نظهر عليه. لنقتحم معترك نضال ندافع على حلبته من أجل إثبات صورتنا التي نحب، فمنا ولا شك من يفضل أن يكون بريئا في كل لحظة وزمان، ومنا من تخذله صورته التي لا يراها الناس إلا استعاذوا منها، وإن كان في أعماقه الخير والطهر كامنين، لكن تخذلهما ملامح قاسية أو خادعة.  وقد أصبحت منذ فقدت طفولتي بحكم السن، أعاني من هذه المفارقة العسيرة إذ كيف يستطيع من كان جوهره مختلفاً عن مظهره أن يدافع عن وجوده كما يحسه هو لا كما يراه غيره، حتى وإن ادعى أن ذلك الطفل الذي كانه، لم يغادره بعد. وأستطيع الدفاع عن قليل من أصدقائي أنهم من النقاء والطهارة الداخلية أطفال بالفعل، وإن شاب بعض مواقفهم غرور غير مفهوم أو شقاوة يصعب تقديرها، من لا يعرف حقيقتهم من الداخل، وكم يكون بليغاً نعت بعض مبدعينا بأنهم أطفال، فإن كثيرين ممن ليسوا بفنانين، وإنما بشر عاديون هم بدورهم  أطفال أنقياء السريرة، وينجحون في البقاء كذلك أطفالاً طوالَ حياتهم، وإن أوقعهم ذلك ضحايا مكر الآخرين، فإذا صح اعتبار الطفل نفسياً رجلا صغيراً، فإن بعض أصدقائي الشيوخ الجميلين هم أطفال من الداخل، بكل ما تعنيه الطفولة من نقاء وطهر وبياض صحيفة. 

   ***

 فرْقٌ بين طفل يُولد ويُنشّأ على المعرفة ومحبة الاكتشاف، والانفتاح على آفاق الفن، وبين طفل يكبر على الأمية والجهل. فالأولُ يمكن أن يفقد إيمانه ببعض ما يشبُّ على الإعجاب به والانبهار أمام صوره، لكنه يظل يصر على تجميل العالم ، حتى إذا هو رآه ينهار قد ينتقم من نفسه لكن دون أن يلحق أي أذى بالآخرين.  أما الطفل الثاني: فيشب على الحرمان، وينتهي غير مؤمن بشيء، بل ويؤمن إن الكذب هو أساس المعاملات، فيكون منه الانتهازي الذي لا يتورع عن ركوب أدنإ الحيل وكل طرق الدم والقتل، مادام قد امتلأ قلبه ونفسه قسوة ً وفظاظة ً.

  أما أنا فأشهد أنن قد نشأتُ في عالم ٍ كبارُه يزدرون الطفولة، ويشككون الطفل في ما يمكن أن يأتي به، مهما كان ما يبدو عليه من أمارات الذكاء والنبوغ، فكنت اضحك ساخراً أحياناً متعجباً أحايين أخرى، من قول كان يتردد على مسامعنا فوق مقاعد الدرس من أن الأطفال هم رجال الغد، فأقول : هل هذا صحيح؟  إن في داخلي لحد الآن بقية أو ظل من مرارات كانت تملآ نفسي الصغيرة، ورغم ما يمكن أن أبديه من تسامح أوغفران، فإنني لن أسامح من كانوا يزدروننا، ونحن اطفال، في الحي، في وقت كانت نفوسنا الغضة تفرح بأقل عبارات التقدير نحرص على الظفر بها مع تلك الجوائز البسيطة، التي كان يحظى بها في كل قسم الثلاثة الأوائل. فما أعظم تأثير ما كان يملأ عيون معلمينا وآبائنا من مشاعر اعتزاز وعواطف دافئة، تترك في أعماقنا تحفيزها الذي يظل يدفعنا على مدى أيام حتى ننغمر في دروس سنة أخرى. وكم كنتُ أدرك ما يملأ من الحسرة نفوس أقراني الذين يظلمهم الاقتصار على ثلاثة من كل قسم، فيحرمون من منسوب ذلك التشجيع الذي تضخه فينا تلك الجائزة، على بساطة ما كانت تتضمنه.

 *** 

في طفولتي كانت قدمايَ الصغيرتان تهربان بي في كل الاتجاهات المفتوحة لا يخيفهما شوك، ولا يردعهما طول مسافة، ولا تكادان  تفكران مع أول الطريق في زاد أو ماء. رغم انهما قلما ارتدَتا خُفًّاً أو حذاءً. كانت أحلامنا كبيرة، رغم أن حكايات أمي عن طائرات قصفت مدينتنا الصغيرة وقرانا كانت تملأ مناماتي بكوابيس القصف ورؤى الدمار والخراب.

 ولذلك لم تكن وسائل النقل التي أتمنى ركوبها أكثر من حافلات صغيرة، بطيئة السير على طرقات حرص المستعمر على إبقائها غير مسفلتة، وبلا علامات ترشد السائق أو المسافر الراجل التائه، لذلك كثيراً ما كانت للسفر على الأقدام طرقات خاصة تحرق المراحل، وتسير كأنها في حلم أو سحاب، مولية ظهرها لحافلات لم تكن لعامة الناس.   

  ***

 إطلالاتي الأولى على العالم في دهشة من “باب السوق ” لأرى المقاهي الصغيرة، ومحطة البنزين البدائية المكونة مما رئتين مكشوفتين، ما تمتلئ أحداهما حتى تفرغ الثانية محتواها في خزان السيارة المنتظرة، والمستخدم المغربي الذي يشغلها باليد لا يتوقف عن تحريك آلته بما يشبه حركة رقاص الساعة. يشجعني على الاقتراب النسبي من مشاهدة محطة البنزين هذه، أنها كانت تقع على جانب طريقي إلى “الجامع ” الذي علمني رسم الكلمات الأولى، ولم يحَفِّظني غير قصار الصور، في اتفاق سريٍّ  بين فقيه المسيد ووالدي، فلم أكن أخشى لسعات قضيب، أو لوم أحدٍ في البيت أن أكون قد حفظت شيئاً أم لم أفعل. لم أكن أنزعج أو يضايقني إلا بردُ ساعات الصباح الأولى، وألوان شمس تتأخر في إرسال أشعتها إلينا ونحن في باحة “المسيد” مستعجلين دفئها في أيام الشتاء شديدة البرودة. كانت دراستي في المسيد خالية من أي ضغط. من الأسرة أو مما نلقن في هذه الحجرة التي كانت مستقلة عن بنايات المدينة، كان للبناية باب خلفي، كنا نتجسس عليه من خصاص فيه فنرى أدوات غسل الموتى ، فلا يعني ذلك عندي شيئاً لأن مكاناً آخر لحفظ نفس الأدوات كان على مقربة من بيتنا داخل الحي، وكنا نراه يفتح عادة في مناسبات جنائز لأخذ كراسيه المستطيلة منه أو أدوات يستعملها حفارون معروفون.

 ربما لأن سني كانت من الصغر بحيث لم أكن أتحمل، أنا في البيت أو الحي أو في “الجامع ” ثقل مسئولية ما، فالعالم كان بكل ما يعج فيه طبيعيا، على غرابة شخوصه من تجار وعسكر وجنود إسبان كان يؤتى بهم من اسبانيا لقضاء فترة التجنيد العسكري، في مرحلة لم يكن فيها في إسبانيا رأي عام يناقش جنرالاً مستبداً فيها بكل السلطات، ورجال حرس مدني بلباس رسمي، ولا نرى في الشارع إلا بغايا ماخور كان قريبا من بيتنا، وكانت مومساته إذا صعدن إلى سطوح البيوت التي كن يمارسن بها بيع الهوى المبذول، أسمع النساء من حولي وهنَّ يسارعن بالنزول لوذاً بحجرات البيت، صائحات: 

 ـ الشيخات… الشيخات. 

  وهي تسمية مؤدبة حتى لا يجهرن بالاسم الفاحش لصفتهن المرتبطة بأقدم مهنة في التاريخ. الساحة  أمام  باب الحي كانت سوقاً في جانب منها، تعرف أيضاً حركة صاخبة خلال يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، وكنت أسحرُ فيهما بمشاهد قرويين يأتون، نساء ورجالاً للتسوق على بغال وحمير في العادة، وقد حملوا أثقالاً من نتاج أشجارهم وحظائرهم ومما يزرعون.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة