هل مات الأدب الروسي “تحت مطرقة البلشفيك”؟!
د. خالد العزي
من الإصدارات الجديدة للكاتب العراقي الكردي جودت هوشيار، كتاب عن مجموعة من الكتاب الروس، هو عبارة عن مقالات سبق نشرها بأوقات مختلفة وتم تجميعها في كتاب يحتوي على 21 مقالا مميزا لأبرز الكتاب الروس، وفقا لتسلسل تاريخي أيام روسيا القيصرية، حيث تعتبر الكتابة في هذه الفترة الزمنية قمة الإنتاج الأدبي والثقافي، ولا تزال تتفاعل حتى اليوم في الحياة بمختلف أنحاء العالم.
توقف الكاتب في هذه المقالات أمام معاناة الكتاب من الحقبة البلشفية، مما ساهم بوضع عنوان جديد للكتاب “الكتاب الروس تحت المطرقة البلشفية”.
هنا تكمن أهمية العرض الذي حاول الكاتب الإبداع في تقديمه ونشره بقراءة واقعية لكل كاتب، من خلال اللغة الروسية التي أتقنها المؤلف وكتب فيها وترجم منها، حيث إن الموهبة الإبداعية لجودت هوشيار في الترجمة من الروسية إلى العربية، تركت له القدرة والهامش الرفيع على نقلها إلى المتلقي العربي.
أظهر الكاتب قدرته في نقل المحتوى وتحليله بطريقة سلسة ذات المضمون العالي، حيث تضمن هذه النوعية من المقالات المعروضة التي تم تجميعها ونشرتها “دار سائر المشرق” (2022)، طابعا مختلفا في تناول سيرة وإنتاج الأدباء الروس ومراحلهم التاريخية.
عند اطلاعي على مقالات صديقي جودت هوشيار، والتي أستمتع دائما بالاطلاع عليها وقراءتها، لما تحمله من نفحات خاصة في أسلوب وطريقة عرضه للموضوع. ومن باب الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والأدبية واللغوية، حيث نرى أن المضمون يحمل عرضا واضحا، ويدخل في أبواب لا يمكن للقراء معرفتها بحال إذ لم يكن من المتابعين للثقافة الأدبية وإشكالياتها بشكل عام، مما يساهم بتدعيم المادة أو بالإشارة إلى شيء جديد في عرض المغزى أو النص المخفي.
لقد أعادتني كتابة جودت هوشيار بالعودة إلى أيام الدراسة الجامعية في سانت بطرسبورغ بكلية الإعلام، وكيف كنا نتلقى محاضرات مادة الأدب الروسي، حيث كانت مادة ملزمة وإجبارية في الكلية في كل مراحل الدراسة، لكنها كانت موزعة على مراحل بحسب فصول السنوات الدراسية.
وأتذكر قصة حدثت معي في امتحان مادة الأدب الروسي في الفصل الأول من السنة الثانية، بالرغم من كوني محب للقراءة بشكل عام، وللأدب الروسي بشكل خاص، فالأدب الروسي سهل بطبيعة سردياته الطويلة وانتمائه إلى المدرسة الواقعية، لذلك كانت قراءته تجري بطريقة ممتعة. وساهمت الدراسة بإجباري على متابعة كل الأدباء الذين كان يشار إليهم أثناء الفصل، لمطالعة وتحليل رواياتهم وأعمالهم، وكانوا كثرا، فالقراءة الإجبارية عملية متعبة بسبب تحصيلنا المتواضع في اللغة الروسية، وتأثير المواد الأخرى، لكن زملاءنا من الطلاب الروس كانوا يساعدوننا في فهم المادة، وفي المقابل كنا نساعدهم في الإلمام بمواد الأدب الاجنبي.
طبعا، ذهبت إلى الامتحان وأنا واثق من نفسي، كوني اطلعت على تسعين بالمئة من المادة، ولكن للأسف وقعت في الامتحان بسؤال يتناول موضوعا لم يكن يخطر على بال أحد من الطلاب أنه قد نمتحن فيه. كان السؤال يخص أحد الأدباء الروس يدعى إيفان غونتشاروف (Иван Александрович Гончаров)، وحتى اليوم لا زلت أتذكر اسمه وأحفظه، ويعرف بأنه صاحب ثلاثة روايات لم ينتج غيرها، وجميعها تبدأ بحرف (أو)”O”.
لكني لم أستطع الإجابة الصحيحة، لأني ابتدأت بأن هذا الكاتب من الحقبة القيصرية، وإبداعاته تعود لتلك المرحلة.
هنا فوجئت بصراخ البروفيسور في وجهي بالقول:
– “إن الثورة البلشفية اعتبرت هذه الأعمال مكملة للثورة، وأن حزبنا الشيوعي عمل على تطويرها… أنت لا تستحق الامتحان، واجب عليك أن تعيد دراسة المرحلة من جديد”.
طبعا، أزعجني هذا الرد الغاضب، ولم أستطع إجابة البروفيسور بما كان يدور في خلدي بصدد الموضوع، إلى أن أتت مقالات جودت هوشيار لتؤكد لي ما كانت أفكر به منذ أكثر من ثلاثين عاما على مقاعد دراستي الجامعية، على الرغم من أن أستاذي في كلية بطرسبورغ كان يحاول أن يحافظ على لغته الروسية والأدبية بطلاقة وبصورة عالية، لكنه لم يقنعني بأن الأدب الروسي السابق هو تابع لنفس المرحلة التي ظهرت فيها الإنتاجات الأدبية ومنعت لاحقا الأدب الروسي من التطور.
لقد تفاجأت من غضب البروفيسور الموقر، الذي يحاول أن يتكلم بلغة الأدباء ويعلِّم طلابا أجانب الثقافة الروسية بهذه الطريقة الخشنة التي تعامل بها مع رأيي الذي لم يتحمله، بالرغم من كوني قد أشرت للمرحلة التاريخية التي أنتجت فيها أعمال الكاتب، وهي الحقبة القيصرية التي وقعت تحت سطوة البلشفية والحزب الشيوعي الذي أعدم القيصر وعائلته، وهدم الكنائس، وهجر الجميع وأرسل الروس إلى منافي معسكرات الاعتقال “الغولاك” حتى مضت الشعوب الروسية، والتي تم إجبارها للدخول في هذا الفلك تحت الصقيع السيبيري، دون معرفة آثارها، أو حتى مجرد ذكرها من قبل أهلها.
لم يكتب لي الحظ بسبب صراحتي، ورحلت المادة معي بعد إنهائي البكالوريوس وأصبحت على همة التخرج. عندها ذهبت إلى رئيس القسم وقلت له:
– لا يزال لدي امتحان الأدب الروسي، هو الوحيد الذي ينقصني حتى أتخرج، وأنا أستعد للسفر إلى بلدي…
عندها حدد لي رئيس القسم موعدا اجتزت خلاله الامتحان بطريقة مميزة، حيث كنت محظوظا بالسؤال نفسه الذي طرح علي، لكني تعاملت معه بطريقة مختلفة جدا.
يحاول الكاتب هوشيار عرض المضمون بالرسالة الموجهة للمتلقي من خلال طرحه لسؤال مميز جدا على النخب والمطلعين والمثقفين والمتابعين للأدب الروسي، بقوله هل مات الأدب الروسي حقا؟
وكأنه يعبر عن أفكاري أثناء الدراسة في طرح هذه الفرضية، من خلال نقطتين يحاول الكاتب السير بهما، معتمدا على طريقته الرائعة بالمعالجة، لأن فورة الإنتاج الأدبي في فترة القياصرة انتهت، ولم تستطع الثورة البلشفية، ولا الحقبة السوفياتية تعويضها، ولا حتى الحقبة البوتينية بعد الانهيار الشامل لكل مسالك الحياة السوفياتية.
أما النقطة الثانية التي يتوقف أمامها الكاتب، فهي قلة الترجمة للأدب الروسي الذي لم يتعد سوى ثلاثة بالمئة من الإنتاج الأدبي الروسي، فإذا كانت المرحلة السوفياتية السابقة قامت بترجمة الكتب إلى كل اللغات السوفياتية، بل وإلى اللغة العربية ضمن منشورات “دار التقدم” السوفياتية و”دار رادوغا” (قوس قزح). فإن الإنتاج الأدبي الروسي لم يعد على سجيته السابقة، خاصة بظل التغيير في المفاهيم والتوجهات، وقلة الأعمال المتصدرة اليوم للمشهد الأدبي الروسي، بعد تدنى مستوى الحركة الأدبية إلى حد لا يمكن تصوره، بغياب المدرسة الأدبية المنتجة لهذه القيمة الثقافية، حيث بات الإنتاج يعتمد على ما يطلبه السوق، بخلاف ما كانت عليه الحال في العهد السابق.