سورية.. أول ديمقراطية عربية
جورج الراسي
نصف قرن وسورية ينهشها آكلوا لحوم البشر، بما لم يشهد له التاريخ الحديث مثيلا، وقد عانى هذا الشعب العريق بالحضارات والثقافات ما يكفي لقتل كل رغبة بالحياة وكل امل بغد أفضل.
مع ذلك أخرج رأسه من بين الركام، وبدأ يبتسم لمستقبل كاد يختفي من قاموسه…
وما لا يعرفه الكثيرون أن سورية الحديثة كانت مهد أول تجربة ديموقراطية في العالم العربي، كاد أن يكتب لها النجاح لولا أطماع الاستعمار وصلفه ونواياه…
نعم.. إنه عهد الملك فيصل…
في البيان الأول للأمير فيصل في 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1918، بعد دخوله دمشق واندحار العثمانيين، أكد على أن الحكومة العربية الجديدة “تقوم على المساواة بين جميع الناطقين بالضاد على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، ولا تفريق بالحقوق بين المسلم والمسيحي والموسوي”…
لقد انطلقت الحياة التشريعية في سورية في عشرينيات القرن الماضي، وعلى وجه التحديد في 12 -11- 1919، مع انعقاد المؤتمر السوري الأول في دمشق، بحضور ممثلين عن مختلف المناطق والطوائف والتوجهات…
لقد ضم المؤتمر 85 عضوا من مختلف مدن سورية من طرطوس شمالا، حتى خليج العقبة جنوبا، ومن البحر الأبيض المتوسط غربا، حتى نهاية حدود البادية شرقا…
صدرت عنه مقررات بتاريخ 2 تموز/ يوليو 1919 تطالب بالاستقلال السياسي التام “للبلاد السورية”، وأن تكون الحكومة مدنية نيابية تتبع نظام اللامركزية، وتحفظ حقوق الأقليات، ويكون ملكها الأمير فيصل…
كم كانت نواياهم حسنة – وأكاد أقول ساذجة – حين تمنوا على الرئيس الأميركي ولسون الوفاء بوعوده “بالقضاء على الاستعمار” في جلسة 12 -11 – 1919، التي انعقدت في بهو “النادي العربي”، ألقى عوني عبد الهادي الكاتب الخاص للملك فيصل، وبالنيابة عنه، كلمة ملؤها التفاؤل بمستقبل سورية، بعد تراجع تركيا، وهزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية…
وتشكلت هيئة مكتب المؤتمر السوري المتتخب بتارخ 5 آذار/ مارس 1920 من هاشم الأتاسي رئيسا، ومرعي باشا للرئاسة الثانية، ويوسف الحكيم للرئاسة الثالثة، وعزة دروزة وصلاح الدين الحاج يوسف وسعيد طليع ومراد غلمية كتبة، وتيودور أنطاكي وعبد الرحمن رشيدات وسعد الله الجابري وحكمة الحراكي.. هيئة إدارية.
ومن الملاحظ منتهى الذكاء في تمثيل مختلف المدن والمناطق والطوائف… والأقليات.
إعلان سورية دولة عربية ديموقراطية
لقد التأم “المؤتمر السوري” الأول في دمشق في أجواء حماسية لإعلان سورية “دولة عربية مستقلة “.
واعتبر ذلك المؤتمر بمثابة أول مجلس تشريعي في بلاد الشام، وخطوة جبارة لبناء مستقبل واعد، بعد زوال الحكم العثماني، وقبيل بدء مرحلة الانتداب الفرنسي تنفيذا لاتفاق سايكس – بيكو.
وفي الثامن من آذار/ مارس 1920 (شتان ما بين 8 و8!)، أعلن المؤتمر استقلال سورية بحدودها الطبيعية، نزولا عند إرادة الشعب، وصدرت عنه قرارات بصفته التمثيلية لمختلف مناطق البلاد، دعت إلى الاعتراف بسورية دولة موحدة، ورفض اتفاقية سايس- بيكو، ووعد بلفور.. ونبذ كل المشاريع “التقسيمية”، وطلب صداقة الدول شرط ألا تؤثر على الوحدة الوطنية… “ورفض أية معونة فرنسية مهما كان شكلها”!
عقدت آخر جلسة في 17 – 7 – 1920 تم خلالها إنجاز الدستور الذي سماه المؤتمر “القانون الأساسي”.
دين رئيس الدولة الإسلام
تجدر الإشارة إلى نقاش جرى في 7 آذار/ مارس 1920 بخصوص إعداد قرار استقلال سورية، حين اقترح بعض الأعضاء من غير المسلمين على أن ينص قرار المؤتمر على أن “حكومة سورية لا دينية – علمانية”، فوافق بعض المسلمين على هذا النص، في حين اقترح آخرون قيام “حكومة إسلامية – عربية دينها الرسمي الإسلام”. حينها تدخل الشيخ رضا لفض الخلاف، فوافق أغلبية الأعضاء على أن يكون دين رئيس الدولة الإسلام …
وبعد إعلان استقلال سورية في اليوم التالي 8 آذار/ مارس 1920 ناقش المجلس مواد مشروع الدسنور الجديد، وجاء في المادة الأولى التي تتعلق بنظام الحكم: “إن حكومة المملكة السورية العربية حكومة مدنية نيابية، عاصمتها دمشق الشام، ودين ملكها الإسلام”، أي أن العلاقة بين الدولة والدين انحصرت في ديانة الملك فقط . وتكررت مرات عديدة خلال حكم فيصل الإشارة إلى العروبة وعلاقتها مع الإسلام.
نذكر على سبيل المثال الحفلة التكريمية التي أقامها النادي العربي في دمشق للجنرال اللنبي وزوجته، عندمآ زارا العاصمة في شباط/ فبراير 1919، حين طغت على كلمات الخطباء كلمة مطران السريان أفرام برصوم الذي أعلن اعتناقه مذهب الوحدة العربية رغم مسيحيته، ومن الملاحظ أن عدد النواب المسيحيين كان أكثر من نسبتهم العددية عندما تشكل “المؤتمر السوري “…
الغزو الأجنبي
لم تكتمل فرحة السوريين آنذاك. فخلال مناقشة مواد الدستور تعرضت دمشق إلى غزو استعماري قاده الجنرال غورو، وجرت معركة ميسلون في 24 تموز/ يوليو 1920 تلك التي استشهد فيها وزير الحربية يوسف العظمة عن سابق تصور وتصميم، لأنه كان يعرف تماما أن ميزان القوى ليس لصالحه. ودخلت الجيوش الفرنسية دمشق على إثر تلك المعركة… واحتلت دمشق..
انتهى بذلك الحكم الفيصلي القصير جدا، والواعد جدا لسورية، فاِضطروه إلى مغادرة سورية مع حاشيته في 28 تموز/ يوليو 1920 لتفتح صفحة جديدة في تاريخ سورية نعيش تداعياتها حتى اليوم..
لقد سعى الملك فيصل إلى إيجاد نوع من التوازن بين مختلف مناطق “سورية الكبرى”، وكان “المؤتمر العام” المحاولة الأولى لإرساء الديموقراطية في المنطقة….
والواقع أن ما حققه الملك فيصل خلال عامين عجزت عهود كثيرة عن تحقيقه، إن لجهة العدالة الاجتماعية والمساواة بين كل مكونات المجتمع، أو لجهة احترام التعددية وحقوق الأقليات، أو لجهة الإنماء، أو في ميادين الثقافة والمعرفة…
لقد أبى الاستعمار إلا أن يمنع نهضة هذه البلاد، ووحدتها، ورفاهية شعبها…
كم أتمنى على القيادة الجديدة في سورية أن تتخذ من تلك التجربة نموذجا للم شمل شعب عانى الكثير من الظلم والاضطهاد…
لقد ضحت سورية كثيرا من اجل الآخرين …
آن الأوان لكي تلملم جراح شعبها، وتهتم بنفسها قليلا..