العروي منظرا وكاتبا مسرحيا “رجل الذكرى” أو تراجيديا الوصل والقطيعة (3)
محمد بهجاجي
أما الشخصية الأخرى المؤثرة فهي “حمود” الذي يقدمه النص باعتباره “قاصا”، المفردة التي تعني، لدى العروي، تقديم الوعظ في المساجد. وتحضر هذه الشخصية في النص استجابة لدعوة حسون بتوجيه الموعظة للمدعوين إلى حفل الزفاف:
– ” شكرا لك يا حمود. الكلمة لك. سنستمع إلى وعظك بقلب متلهف…”، (ص 39).
يعود بنا المشهد الثاني، وفق آلية التعاقب، إلى المدينة الأوربية حيث يستمر جدل اللقاء والفراق بين عمر وسونيا بسبب فشل الإقامة المشتركة في الخارج، وعدم القدرة على صياغة فهم موحد لمعاني الحياة والغربة والسعادة، وذلك لاختلاف مرجعيات التفكير في الذات والآخر.
يقول عمر:
– “علام نتخاصم يا سونيا؟ الخصام شكل من أشكال الوفاق. ترفضين هذه الحقيقة لأن في مجتمعك الخصام خصام والوفاق وفاق. على هذه القاعدة نشأتِ، وعليها تعيشين”، (ص 47).
ولذلك يتفق الاثنان على أن يتركا الحكم للقدر، (ص 62).
المثير أن لا أحد يقبل بهذا المنطق المرفوض من طرف كل من حليمة (سيدة الداخل) ومن سونيا (سيدة الخارج). هما معا تريدان أن تقوم العلاقة ضمن زمن بلا قطيعة. أما المشهد الثالث فيعود بنا إلى فضاء المشهد الأول حيث “المدينة كلها تفور كالقدر”، (ص 73).
عمر يبرئ حليمة من كل ما يلحق بها من سوء من المحيط، لكنه لا يتردد في الإعراب عن خيبته من القاص “الذي غذى الأمل في القلوب” بعد أن رأى فيه الناس دليلا على علو الشأن وجلالة القدر، وعن الخيبة كذلك من ادعاءات قرب الصحوة والنهضة والانطلاق:
– “يا لها من خيبة! قلتَ لنا: لا تغتروا بما يبدو لكم ركودا. عن قريب الصحوة. عن قريب النهضة والانطلاقة… اتخذناك إماما مرشدا وتبعناك. ثم وصلنا إلى الميعاد. فتح الباب فما وجدنا؟ وجدنا أن ريحا عاتية قد هبت، فعادت الأشجار المثمرة المورقة عروشا خاوية”، (ص 75).
بل إنه يثور ضد القاص، ناعتا إياه بالمغرور والأبله. ثم يطرده:
– “لا ذكر هنا بعد اليوم ولا وعظ. الوعظ لا يؤثر والذكر لا يقع”، (ص 77).
في هذه اللحظة من تطور الأحداث يبدو المشهد الثالث كما لو ينفلق عن نواة مشهد مستقل يصلح، من حيث الهيكلة، ليكون بمثابة مشهد “الاختتام” حيث يظهر عمر، بعد طرد حمود القاص، وحيدا في مواجهة الجمهور. التخلص من حمود يعني الخروج من حالة التردد والاتكال. يتبين من ذلك أن ما عرض علينا في المشاهد السابقة هي استعادات كانت تصل إلينا من داخل مخيلة عمر الذي يصرح بأن الأمر يتعلق بـ”مشاهد متناثرة نزعتها نزعا من ذهني لأضعها تحت نظري، وأفحصها بعناية”، (ص 79).
يشكل هذا المشهد، الذي تصورناه مستقلا، بؤرة النص الثانية من حيث البناء الدراماتورجي إذ يتبين أن العروي كان يشيد، منذ الكلمة الأولى في النص، مسرحيته أمامنا ليصرح، في الأخير، بأن ما عرضه كان مرتبا في مخيلة المؤلف. وفي سبيل ذلك لم يعتمد البنية التقليدية القائمة على التطور الخطي للاحداث. بل إنه أسس متنه وفق خطين متوازين يتطوران عبر مبدإ التناوب: خط عمر وسونيا في “الافتتاح”، وخط عمر وحليمة وأسرتها في المشهد الأول، ثم العودة إلى الخط الأول مع سونيا في المشهد الثاني، فالعودة في المشهد الأخير إلى البدء حيث بيت حليمة. يضعنا هذا الاختيار أمام معطيين أساسيين يفيدان في فهم إبداع العروي بشكل عام: – الأول: سعي المؤلف في هذا النص إلى بناء تجريبي سيميز إبداعاته الأدبية كما في “الغربة” التي كتبها في نفس الفترة، وكما في الأعمال الموالية لصدور “رجل الذكرى” حيث يشهد النقد العربي على خروجها مبكرا عن خط التقليد لفائدة نص سردي مختلف بناء ولغة وأفكارا.
– الثاني: تناغم “رجل الذكرى” من حيث الاختيار الدراماتورجي مع تيارات التجديد التي شهدتها أوروبا، خاصة مع بروز التأثير البريشتي، وما زامن ذلك من تجارب صدّعت المسرح التقليدي، وجعلت من القلق والحيرة ومساءلات الوجود الإنساني موضوعات أثيرة على الخشبات. للاقتراب من صيغ تجسيد ذلك الوعي الطليعي، خاصة من خلال استثمار بعض من الجماليات البريشتية ، نسجل توظيف البعد التغريبي من خلال الاحتكام إلى الجمهور مباشرة، ودعوته إلى اتخاذ موقف نقدي بخصوص علاقة عمر مع كل من حليمة وسوريا. النص لا يقدم الفكرة جاهزة،. بل يدفع القارىء، أو المشاهد المفترض، إلى تبني روح النقد عبر توسل الأسلوب الجدالي. يبرز ذلك في مشهد “الافتتاح”، وفي المقطع الأخير من المشهد الثالث الذي يمكن أن يشكل “الاختتام” حيث يخرج عمر من عمر ليقوم الممثل بما يضطلع به الرواة، أو أعضاء الجوقة حيث يتم التوجه، بجنوح صوفي، نحو عمر في ما يشبه “الخواتم” التي ينهي بها بريشت أعماله:
-“قم أيها النائم الحالم ودع آمالك الخادعة أمامك حاجز وراءك هوة ما يحيط بك قف في المفارقة. تأمل ثم استأنف السير. (يخف النور) لا دواء لهذا القلق سوى النسيان. وضمن النسيان الهمة والطموح. ( يسدل الستار) وأنت أيها الملك الجبار، أيها الزمن العاتي، ألطف بنا. اجعل من سؤالنا ثرثرة لا تحفظ ولغوا لا يتجدد. (يعم الظلام )”، (ص 80).
في هذا الإطار يتم توظيف تقنية الشاشة كنص مواز ضَمَّنه المؤلف مقطعا بالدارجة المغربية، بهدف التعليق على المشاهد السابقة:
– “هذه الجنان باد، باد وغملوا عتاليه لعل ربي يجود ويلقحوا دواليه”، (ص 76).
ضمن نفس السياق المرتبط ببناء الشخصيات ندرك أن المؤلف لم يكن يترك هذه الأخيرة تتصرف وفق منطق بناء الشخصية التقليدية. بل هو من يتحكم فيها: – “لم ينطق القاص إلا بما أوحيتُ له به”، (ص 79.)
– “لكنني أنطقته بلساني. لقنته جوابي”، (ص 80).
وهذا يعبر عن تقنية مفكر فيها سنراها في بعض أعماله كما في “اليتيم” أو “الغربة” حيث يوضح العروي معنى صنع الشخصيات حين يكشف، في حوار مع عبد الله ساعف، بعض عناصر استراتيجيته في الكتابة.
يقول العروي:
– “لو لم أفتح المجال لشعيب ليقول كل ما يريد بكامل الحرية، لما شعرت بالطمأنينة، إذا كانت هناك طمأنينة. أريد أن يستوفي التقليد كل حظوظ الدفاع عن ذاته، ولا أريد أن أنزعه نزعا من نفسي، لأن ذلك يكون بترا لا مبرر له في ميدان التعبير الأدبي، وإن كان مرغوباً فيه، أو مفروضا في مستوى الاختيار السياسي والاجتماعي. بقدر ما أصل عادة إلى نقطة الحسم في ميدان النقد والتحليل بقدر ما أترك الأمور معلقة في الميدان الإبداعي. لأن هذا هو المطلوب”.
بخصوص منطق بناء الحوارات نلاحظ أن ثمة تنويعا يجعل تلك الحوارات تتوزع إلى ثلاثة أصناف: – صنف ذو طابع جدالي يتم فيه بلورة وجهات نظر متضاربة، – صنف ذو طابع تأملي أحيانا، واستنكاري أحيانا أخرى، – صنف ذو طابع إقناعي موجه أساسا إلى جمهور المسرح. إن ما يعزز الاقتناع بوجود هذا الوعي الطليعي المبكر لدى العروي هو ما ورد كذلك في تقديمه لمسرحية “شيخ الجماعة” حيث أكد بأنه يعي بوجوده إزاء أسلوب “كلاسيكي، تقليدي، خطابي، منمق مضخم إلى حد التشدق، مليء بالمفردات والتعابير المستوحاة من كتاب القرن السابع عشر ذوي النزعة الدينية المتشددة”.
وأضاف بخصوص التقنية المسرحية الموظفة في ذلك النص: إنها “تقليدية هي الأخرى، بعيدة عن التجارب المعاصرة التي أتذوقها”.
نحن إذن أمام نص مغربي ينخرط ضمن سياقات الكتابة المسرحية لمغرب نهاية الخمسينيات زمنَ إنتاج “رجل الذكرى” حيث كان النص المسرحي المغربي الحديث لا يزال قيد التشكل. ينبغي أن نستحضر هنا نوعين من أنماط الكتابة التي كان يرسي معالمها مجايلو العروي منذ مرحلة الحماية إلى السنوات الأولى للاستقلال:
ـ الأول بتوجه تقليدي يتبنى إنتاج الحكاية وفق بناء خطي بهدف الترفيه انطلاقا من تناول بسيط لموضوعات من الحياة الاجتماعية، أو بهدف الاطلاع على قضايا وشخصيات من التراث العربي الإسلامي. وتندرج في هذا الإطار مسرحيات عبد الله شقرون التي ألفها وأخرجها من خلال فرقة التمثيل العربي للإذاعة المغربية التي كانت تنشط منذ سنة 1949، وكان القصد تأليف نص يذاع على أثير الإذاعة، أو يعرض على الخشبات.
في نفس الإطار تندرج فرقة البشير العلج التي كانت تتميز، على الخصوص، بتقديم “اسكيتشات” تتقابل عبرها شخصيات مختلفة من جغرافيا المغرب لتبني حكاية فطرية وفق خطاطة مهيأة بهدف الإضحاك أساسا.
2ـ النمط الثاني تم في إطار “فرقة التمثيل المغربي”، ثم استمر عبر امتدادات مختلفة، سواء من خلال “فرقة المعمورة”، أو من خلال التجارب الخاصة، وأهمها آنذاك تجربة الطيب الصديقي في المسرح العمالي، ثم في الفرق الخاصة التي أنشأها باسمه الشخصي (فرقة الصديقي)، أو بالأسماء الأخرى لتجربته (فرقة “المسرح البلدي” و”مسرح الناس” و”المسرح الجوال”).
المشترك في النمط الثاني هو انفتاحه على الريبرتوار العربي والعالمي، وتجرؤه على طرح الموضوعة الاجتماعية في بعدها النقدي. كما تميزت نصوص هذا النمط في مراودة مسرح الطليعة عبر المغامرة بتقديم أعمال تمتح جوهرها من مسرح العبث أو من غيره. نذكر بهذا الخصوص بعض اقتباسات الصديقي: “الجنس اللطيف” عن أريستوفان، “النقشة” عن غوغول، “في انتظار مبروك” عن بيكيت و”مومو بوخرصة” عن يونيسكو. علما بأن مسرح الهواة كان الأقدم زمنيا بالنسبة إلى التجربتين السابقتين، وعلى خشباته كان النمطان يتجاوران في نفس الوقت. ومن المحقق أننا إذا وضعنا “رجل الذكرى” ضمن هذا السياق فسنجد العروي منخرطا في النمط الثاني بوعي أكثر حدة
بضرورة التجديد في الفكرة، وفي البناء. (انتهى)