العروي منظرا وكاتبا مسرحيا.. “رجل الذكرى” أو تراجيديا الوصل والقطيعة (2)

العروي منظرا وكاتبا مسرحيا.. “رجل الذكرى” أو تراجيديا الوصل والقطيعة (2)

محمد بهجاجي

“رجل الذكرى”، بناء دراماتورجي طليعي

  إذا كان عبد الله العروي يعتبر أن “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” هي أساس مشروعه الفكري، كما تصوره في مقتبل حياته، وتحديدا في فترة استكمال تكوينه الجامعي ونضجه السياسي، فإنه يعتبر “رجل الذكرى”، في المقابل، نصا مؤسسا حيث يكتب “ما شجعني على نشره، رغم عيوبه الجلية والكثيرة، هو أنه يتضمن نواة كل ما ألفت في ما بعد، أكان إبداعا أو نقدا ثقافيا”. وهو ما يعني أننا إزاء نص يقترح مداخل ومقاربات مختلفة من بينها الانطلاق مثلا من اعتبار النص تمثلا فعليا لوحدة أعمال العروي الفكرية. ومن ثم مباشرة مقارنات تضع “رجل الذكرى” في مواجهة فكر العروي كما أسسه على مستوى التحليل ونقد المفاهيم. ومن المداخل كذلك اعتبار النص نواة إبداعية لما ورد في إنتاج العروي الأدبي الذي تزامن مع تاريخ كتابة “رجل الذكرى” أو مع ما تلاه. ثم هناك المدخل الذي يتجه نحو دراسة هذا النص كعمل إبداعي أساسا انطلاقا من كيانه المسرحي المستقل حيث يتوسل إلى المسرحة في تكوين الأفكار، وهذا هو الاختيار الذي اعتمدناه في هذه الدراسة دون أن يمنعنا ذلك من العودة، من حين لآخر، إلى أعمال العروي الإبداعية أو الفكرية.

 تطالعنا بهذا الخصوص إشارتان تتصدران هذا العمل: تفيد الأولى بأنه صياغة جديدة لما تم نشره في مجلة “أقلام” سنة 1964. وقد عملت شخصيا على مقارنة العمل بين صيغته الأولى لسنة 1964 وصيغتيه الجديدتين سنتي 2014 و2018، فتبين لي أن النص لم يتغير في الجوهر على امتداد سنوات النشر المتعاقب. ما تغير هو تعديلات بسيطة في بعض العبارات والكلمات. 

أما الإشارة الثانية فتفيد أن المؤلف كان قد عرَّف النص، يوم نشره الأول، وفي الطبعات اللاحقة، كـ”حوار تلفزيوني”. وذلك ما يطرح مشكلا على قارئ النص. فهل كانت الفروق بين الأجناس تلتبس عند المؤلف على اعتبار أن بعض مجايليه مثلا لا يزال، إلى اليوم، يسمي المسرحية رواية؟ 

وهذا افتراض مستبعد بالنظر إلى الحساسية الفنية للعروي الذي نظّر للمسرح في “الايديولوجيا العربية المعاصرة” كما أشرنا إلى ذلك من قبل. كما أن المؤلف يؤكد، في ثنايا النص، وعيه بأن الأمور تجري على مسرح. بل إنه يقترح خطاطة أولية لتحرك الممثلين على الخشبة بدقة، من ذلك مثلا ما ورد في مشهد الافتتاح كنموذج:

 (يدخل من جهة اليسار عمر، (ص 13). يتباعدان ثم يعودان إلى مكانهما، (ص 14). تغادر سونيا المسرح، يتثاءب عمر، (ص 16). يغادر عمر المسرح. ثم يرفع الستار على المشهد الأول، (ص 17).

 الجواب في تقديري هو أن العروي كان قد اختار صفة “الحوار التلفزيوني” بدل “النص المسرحي” حتى لا يخالف أطروحته حول العرب والأجناس كما وضحناها سابقا، والتي تفيد عجز العرب عن كتابة المسرح والرواية. ومن نفس المنطلق أصر على تسمية “الغربة”، زمنَ الإصدار الأول، قصة لا رواية لأنه كان يرى أن القصة هي الجنس الأدبي الذي يتلاءم مع طبيعتنا كعرب، وكسياق تاريخي وكوضع سوسيو ثقافي . 

إذا انتقلنا إلى بنية النص فسنجد المؤلف قد اعتمد هيكلا معماريا يتوزع إلى ما سماه “الافتتاح”، وهو الاستهلال الذي يتصدر ثلاثة مشاهد تجري في فضاءين خلال المرحلة التي سبقت الإعلان عن استقلال المغرب:  

الأول بيت مغربي يقيم على هامش المدينة، والثاني شقة طالبة في عاصمة أجنبية، والثالث بنفس فضاء المشهد الأول. 

في “الافتتاح” يظهر عمر (شاب في الرابعة والعشرين من عمره) في مواجهة سونيا (في الواحدة والعشرين). 

الاختيار الدراماتورجي يجعلنا نفترض كما لو أن الواحد منهما لا يعلم بوجود الآخر. نعرف كذلك أنهما التقيا، من قبل، في أمكنة متعددة، في حدائق المدينة وملاهيها، نهارا وليلا، إلى أن حصل الفراق بعد أن تأكد أن لا أحد يشبه الآخر، أو يثق فيه ويتفهمه، ولذلك يعجزان عن الحسم في موضوع استمرار العلاقة بينهما فيقررا الفراق حيث “لكل وجهته” لينغلق الافتتاح على فكرة أن عمر واع بأنه رجل “يبحث عن ذاته”، بل إنه يسخر من كلمة البحث عن الذات. يجري المشهد الأول في خضم إعداد حسون (عم عمر) لحفل زفاف كريمته حليمة ليتبين أن الشخصيتين اللتين توجهان دفة الحدث هما عمر (الشخصية الرئيسية) وحليمة: 

نتعرف على الأول بعد أن عاد من الخارج مثقلا بخيبة الأمل، وبمشاعر الإحساس بخذلان ما، والثانية شريكته في مرحلة سابقة تتقاسم معه هي الأخرى نفس مشاعر الخيبة: تسأله غاضبة ثائرة: 

– “لماذا رحلتَ؟ ولماذا عدتَ؟ تخاذلتَ أولا وثانيا. كان في وسعك أن تقول نعم فقلت لا. واليوم إذ واجبك أن تنسحب ها أنت تتطفل”، (ص 30). 

يجيب عمر:

 – جئت لندشن معا عهد الفراق كما عشنا عهد الوفاق، فنجعل من العهدين فترة متصلة مكتملة”، (ص 31).

 ثم يضيف:

 – لكن.. ما كان كان. تفرقت السبل، وهنت العزائم وخبت العواطف. يا ابنة عم، اخرجي الآن من دائرة الضوء، واسكني ظل الذكرى، (ص 32). 

يبدو لي أن هذا المقطع هو بؤرة النص الأولى إذ لأول مرة نستشف أن لعمر منظورا خاصا للعلاقة بين الرجل والمرأة، ولمعاني العلاقة والفراق والوفاق حين يرى بأن العلاقات الإنسانية لا تقوم على قطيعة بين زمن اللقاء وزمن الفراق. بل إنه يطالب بأن يصبح الزمنين زمنا واحدا، فترة متصلة مكتملة. 

(يتبع)

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد بهجاجي

ناقد وكاتب مسرحي مغربي