أنورا: فيلم سياسي بنكهة كوميدية

رضا الأعرجي
تعيش أنورا ميخيفا (مايكي ماديسون) التي تفضل أن تُنادى باسم “آني” في منطقة برايتون بيتش، في نيويورك حيث يقيم معظم المهاجرين من الاتحاد السوفييتي وروسيا، وتعمل كراقصة تعري في ناد ليلي زبائنه في الغالب رجال من كبار السن.
حدث ذات ليلة أن جذبت انتباه فانيا “إيفان” زاخاروف (مارك إيدلشتاين) الشاب الروسي المتهور البالغ من العمر 18 عاماً، وابن أحد رجال الأعمال الروس ذوي النفوذ الذي أرسله إلى أمريكا للحصول على التعليم، لكنه بفضل قضاء أوقاته في النوادي الليلية والكازينوهات. لقد أحب “آني” كثيراً، واختارها لتكون “نجمة” حفلاته الباذخة، وكان يدفع لها بسخاء مقابل خدماتها.
ظل العاشقان يلتقيان على انفراد، مراراً، وفي لحظة انسجام عرض فانيا على آني أن تصبح صديقته لمدة أسبوع، كنوع من الاستئجار قيمته 15 ألف دولار. وبطبيعة الحال، وافقت آني على هذا العرض الذي سيتطور سريعاً إلى رحلة، على متن طائرة خاصة، إلى لاس فيغاس. وهناك، يطلب فانيا المذهول بحبيبته الجميلة أن تصبح زوجته، إذ تشتهر المدينة بإمكانية الزواج فيها على الفور تقريباً، دون أية إجراءات رسمية مسبقة.
من الطبيعي أن تشعر عائلة زاخاروف بالرعب عندما تعلم أن ابنها تزوج من “عاهرة”، وستستخدم كل ما لديها من نفوذ، خصوصاً والدة فانيا الغاضبة، لإجبار العاشقين على إلغاء الزواج. وهكذا تبدأ المغامرات التي سيلعب فيها موظفو العائلة (إيغور وغارنيك وطوروس) الذين أُرسلوا إلى أمريكا لتصحيح الوضع، وإقناع ايفان بإلغاء الزواج.
تحاول آني بعدما تخلت عن عملها أن تستمتع بدورها كزوجة مخلصة ومهتمة، لكن الأشخاص الذين أرسلهم الملياردير زاخاروف يغزون القصر الذي تقيم فيه مع زوجها، ويمارسون تهديداتهم عليهما. لا يستطيع فانيا الجبان تحمل الأمر فيهرب، في حين تظل آني تتعامل مع الوضع بمفردها، في مشاهد هي الأكثر تسلية في الفيلم. في هذا الوقت، كان والدا إيفان (أليكسي سيريبرياكوف وداريا إيكاماسوفا) يبدآن في تشغيل طائرتهما والاقلاع بها من موسكو إلى نيويورك ليعودا بإيفان إلى البلاد.
السياسة قبل كل شئ
ينبغي أن لا ننخدع بالبريق المبهج لهذه الحكاية أو تصرفنا عن حقيقة أن الفيلم أمريكي، ويأتي انتاجه وسط لهيب الحرب المشتعلة بين أمريكا وروسيا عبر الساحة الأوكرانية.
كان السؤال يلح عليّ وأنا أشاهد الفيلم: لماذا الشخصية الرئيسة روسية وليست أمريكية أو إيطالية مثلاً؟ وهل سيتغير مساره لو كانت هذه الشخصية من جنسية أخرى مادامت “الثيمة” تركز على “منح الأمل للفتيات اللواتي سلكن الطريق الخطأ”؟
يبدو لي أن شون بيكر، المخرج وكاتب السيناريو، كان ينوي عمداً رسم مقارنة بين أمريكا وروسيا وهما يخوضان حرباً باردة جديدة، وقد استبدل موضوعة “الستار الحديدي” الذي دأبت هوليوود على تناولها طوال حقبة “الحرب الباردة” بـ “الأوليغارشية الروسية” التي تربحت على الثروة بسرعة من خلال سياسة “الخصخصة” في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي، باعتبارها حليفة بوتين في نظر واشنطن.
فليس من قبيل المصادفة أن يقدم بيكر الشاب الروسي المدلل إيفان الذي يعيش حياة الإسراف والبذخ الجنوني في قصره الأمريكي فيما تضطر الصبية أنورا لكسب قوتها بالعمل راقصة تعري. ولكي يجعل الفكرة مقنعة ومقبولة وحقيقية أصيلة مثل الكثر من القصص في الماضي، يعلمنا أن أنورا تتكلم اللغة الروسية قليلاً بفضل جدتها الأوزبكية، التي هاجرت ذات يوم إلى أمريكا من الاتحاد السوفييتي.
ومن خلال التعمق في هذه الفكرة الذي تدور في اطار من الكوميديا والدراما الاجتماعية يكرر بيكر وصفة سهلة من وصفاته لشخصية تعيش على هامش الحلم الأمريكي مع رموزه الخاصة، وأخلاقه الخاصة، وأوهامه الخاصة. ففي فيلمه أنورا Anora 2024 الذي يقلب أسطورة سندريلا، ويسلط الضوء على جغرافيته البشرية، لا يتم تقديم العاهرة الصريحة كشخصية إيجابية فحسب، بل هناك دعاية لحالات أخرى مثار تساؤل كالسُكر والعربدة وتناول المخدرات، والجشع، والغرور، وما إلى ذلك.
الجنس وليس سوى الجنس
علينا أن نتذكر أن بيكر بعد حصوله على “جائزة السعفة الذهبية” في “مهرجان كان” في مايو 2024 قبل أن يفوز ليلة أمس بالأوسكار، أهدى الجائزة لـ “جميع العاملين في مجال الجنس، في الماضي والحاضر والمستقبل”.
أقول ذلك ليس من زاوية أخلاقية ولكن من منطلق متابعتي لما يجري في مهرجانات السينما ، في الوقت الحاضر. فقط تلك الأفلام التي تساهم في تدهور ذائقة المشاهدين تحظى بالجوائز الدولية الكبرى.
يميل شون بيكر إلى تناول مواضيع الجنس بما في ذلك استغلال جسد الأنثى، وشخصيتها بشكل عام، والتركيز على سرد قصص العاملين في مجال الجنس وما يتعرضون له ، وما يوصمون به، وقد استكشف عالم المهاجرين والعاملين في مجال الجنس لفترة طويلة وبدقة شديدة (من فيلم إلى آخر) ليكشف عن الحساسية التي تأتي من العمل مع الأشخاص الذين تتحدث عنهم أفلامه.
في عام 2015 قدم بيكر فيلم اليوسفي أو المندرين (Mandarin) الذي صوره بكاميرا هاتف آيفون. وتدور أحداثه عشية عيد الميلاد في مدينة لوس أنجلوس، وبطلته عاملة جنس متحولة جنسياً تكتشف أنه أثناء الشهر الذي قضته في السجن، كان حاميها يخونها مع امرأة شقراء. وبمساعدة أحد زملائها، تبدأ في البحث عنهما في كل مكان، مما يثير غضب فتيات الشوارع، والقوادين، والعاهرات وكل من يعيش تحت الأرض في هوليوود.
منذ ذلك الحين، تخلى بيكر عن كاميرا الهاتف والتقط كاميرا سينمائية، وأصبح واحداً من أبرز مخرجي السينما الأمريكية المستقلة، أولاً مع “مشروع فلوريدا”The Florida Project 2017) ) ثم مع “الصاروخ الأحمر” Red Rocket 2021)). ولم يبتعد في “أنورا” عن عالمه السينمائي بعد أن وضع عاملة جنس أخرى أمام كاميرته تتبعها في أسلوب بسيط لكن لا يخلو من متعة وتسلية.
_______________________________________
الفيلم لا يصلح للمشاهدة العائلية.
مشاهدة ممتعة: https://archive.org/details/anora-2024