محكيات: مطاع صفدي في الدار البيضاء يحرم من أكل السمك.. ومحمد عابد الجابري لا يحب نشر صورت

عبد الرحيم التوراني
سجلت سنة 1982 أولى الزيارات، ولعلها آخرها، تلك التي قام بها إلى المغرب أحد أشهر أعلام الفكر الفلسفي العربي المعاصر، الروائي السوري مطاع صفدي (1929- 2016).
زيارة المغرب كانت مسجلة دائما على أجندة مطاع صفدي، لكنها تأجلت أكثر من مرة، إلى أن أسس صفدي مجلة “الفكر العربي المعاصر” عام 1979، وكانت تصل بانتظام إلى المغرب، بصفة دورية كل شهر، أما الشركة العربية الإفريقية للنشر والتوزيع، المشهورة باسمها المختصر: “سبريس”، فهي التي كانت مكلفة بتوزيعها في بلادنا. لذلك وجد مطاع صفدي نفسه ملزما بالسفر إلى المغرب الأقصى، بهدف تحقيق غايتين:
– الأولى: ترجمة أمنيته في التعرف على مراكش وأهلها عن قرب، و”مراكش” هو الاسم العتيق الذي يعرف به قدماء المشارقة أرض المغرب الأقصى.
– والثاني: من أجل تفقد سير انتشار مجلته، خاصة وأنها كانت تلقى إقبالا محترما من لدن القراء في المغرب، كما أن من كتابها كتاب وأدباء ومفكرون مغاربة. بينهم محمد عابد الجابري، ومحمد سبيلا، وكمال عبد اللطيف، وصدوق نور الدين…
***
في ربيع عام 1982 وصل مطاع صفدي على متن رحلة تابعة للخطوط المغربية (لارام)، قادما من العاصمة الفرنسية باريس التي كان يقيم بها، وبرفقته السيدة زوجته.
وجد صفدي في استقباله بالمطار مبعوثا من شركة التوزيع “سبريس”، حيث عمل مديرها، صديقنا محمد عبد الرحمان برادة، على توفير الظروف الملائمة لإقامة صفدي في المغرب، بدءا من حجز إقامة فاخرة في فندق من خمس نجوم، بـ “أوتيل كازبلانكا”، الكائن وسط ساحة محمد الخامس، (قبل أن يستبدل اليوم اسمها إلى ساحة الأمم المتحدة). وخصص له سيارة فارهة مستأجرة بسائق، من نوع “فولفو”، لا زلت أتذكر لونها الأحمر.
كما كلف برادة صديقنا الصحفي اللامع حسن عمر العلوي بمرافقة الضيف السوري الكبير خلال مدة إقامته القصيرة في الدار البيضاء.
غير أن حسن العلوي اقترحني لمصاحبته في هذه المهمة، حيث وجدتني أعمل إلى جانبه كمرشدين سياحيين، عملنا قدر المستطاع القيام بتعريف مطاع صفدي على أبرز وأهم معالم المدينة وبعض أخبارها القديمة والحديثة.
***
في إحدى المرات طلب مطاع صفدي منَّا أن نأخذه إلى مطعم يقدم وجبات سمك، وقال كلاما شهيا في فواكه البحر. فذهبنا إلى restaurant du port، “مطعم الميناء”، الكائن بالقرب من محطة القطار “كازا بور”، وسط “الديكي”، أي سوق السمك بالجملة، قبل نقله إلى منطقة سيدي عثمان.
و”مطعم الميناء” ذو شهرة واسعة، يقدم أطباقا متنوعة من السمك اللذيذ، أما صاحبه فهو عبد الرحمان بلمحجوب (1929- 2011)، أسطورة كرة القدم في الخمسينيات والستينيات من الألفية الماضية، لعب في فترة الحماية الفرنسية مع منتخب “الديكة”.. فرنسا، وشارك تحت ألوانه في مونديال 1954، وبعد استقلال المغرب حمل قميص وطنه آبائه وأجداده.
بالرغم من صالات المطعم الكبيرة، لم نكن محظوظين، إذ لم نتمكن من الحصول على مائدة خاصة لأربعة أشخاص. لقد كان يوم عطلة سبت، يومٌ يتجاوز فيه عادة إقبال الزبائن سعة المكان.
التفت حسن إلى الضيف، وقال له إن هناك مطاعم عديدة تقدم وجبات السمك، غير أنه لا يضمن جودة وطراوة السمك الذي تقدمه لزبائنها، كما هو الحال مع مطعم بلمحجوب..
خصوصا وقد سبقت حكاية تسمم عبد الحليم حافظ بعد تناوله سمكا بمطعم شعبي في الرباط، أخذه إليه المطرب أحمد الغرباوي.
عدنا أدراجنا إلى ساحة “مرس السلطان”، وأخذنا أماكننا في ركن من مطعم “لابارك”، أي مطعم “الثكنة”، وهو مطعم من إرث مرحلة الحماية الفرنسية، حمل هذه التسمية لقربه من “ثكنة هود”، التي ظلت موقعا عسكريا لتزويد القوات المساعدة بالعتاد، وقامت الثكنة بمهمتها القمعية في هذا الصدد خلال الأحداث الدامية لانتفاضة الدار البيضاء (20 جوان 1981). وبعد هدم الثكنة شيدت مكانها ساحة “نيفادا”، المطلة على شارعي الراشيدي والحسن الثاني، وتشتهر اليوم بروادها من ممارسي رياضة “السكيت بوردينغ” وبالمربض الكبير الخاص بالسيارات المبني تحتها أرضها.
لا يزال هذا المطعم يقدم وجباته الرئيسية من ملذات المطبخ الفرنسي، لكنه اسمه تغير وأصبح يحمل اسم مطعم L’entrecôte ، والكلمة تعني “مطعم شريحة اللحم”.
هكذا اضطر “الكوبل صفدي” تناول غذاء بشرائح من لحم البقر، بدل سمك المحيط…
طبعا حضر “حديث المائدة”، خاصة ونحن أمام مفكر وفيلسوف وأديب من طينة الكبار.
كان مطاع صفدي يتكلم أكثر من زوجته، وربما هي ظلت صامتة لا تتدخل، بل إنها اكتفت بمتابعة ما يجري ويحصل أمامها بكامل الهدوء… بينما كنا، حسن وأنا، نتولى الدردشة والإجابة عن بعض أسئلة صاحب”جيل القدر”، أسئلة تهم بعض مظاهر الحياة والمجتمع والتاريخ المغربي.
أتذكر أن مطاع صفدي سألنا أكثر من مرة عن السينما.. عن عدد القاعات السينمائية بالدار البيضاء، ونوعية الأفلام السينمائية التي تعرضها على الجمهور.. كما سأل عن الإنتاج السينمائي الوطني المغربي… وكان ينوي التفرج على فيلم مغربي. لكنه لم يكن وقتها أي إنتاج سينمائي وطني يعرض… كما سأل عن المسرح، والمسرحيات التي تعرضها المسارح وقتها..
فأخبره حسن أنه موجود حاليا في الدار البيضاء وليس في القاهرة أو باريس,,,
لكن مطاع صفدي لم يسأل البتة عن المجلات المغربية أو دور النشر المحلية وثمرات المطابع، أو عن الكتاب المغاربة.
***
في اليوم التالي من إقامته المغربية، حوالي الساعة الخامسة مساء، ذهبنا، حسن العلوي وأنا، إلى فندق الدار البيضاء للقاء بضيفنا. وجلسنا في البهو ندردش ونشرب القهوة، ثم جاء محمد عابد الجابري، الذي كان على موعد مع صديقه السوري.
فجأة ظهر أمامنا السيد محمد امجيد (1916- 2014)، رجل الأعمال ورئيس الفيدرالية الملكية المغربية لرياضة التنس، والرئيس بالنيابة للجنة الأولمبية المغربية أيامها، وكان أيضا هو المندوب الفخري للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بالمغرب…
وما أن شاهد امجيد صاحبه عابد الجابري حتى اتجه للسلام عليه وعانقه متبادلا معه التحيات.
في تلك الجلسة كان برفقتنا المصور عبد السلام الزهوي، الذي كان يملك محل استوديو “فيكا” للتصوير الفوتوغرافي بشارع محمد الخامس، بالقرب من مقهى مارينيون، ورثه من معلمه الفرنسي الذي كان من مصوري “صحافة ماس” الاستعمارية…
في إحدى اللحظات أشهر عبد السلام الزهوي كاميرته مستعدا لتخليد ذلك اللقاء بعدسته، لكننا سنفاجأ برفض محمد عابد الجابري الظهور في اللقطة، إذ لم يكن يرغب في صورة تجمعه مع امجيد.
قال م.ع. الجابري لمطاع صفدي عن امجيد أنه “كان معنا وذهب”..
ففي بداية الستينيات انتمى محمد امجيد إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
وأخبر الجابري صديقه السوري بأن من سلم عليه هو رجل أعمال كان اتحاديا، قبل أن يصبح نائبا في البرلمان باسم حزب التجمع الوطني للأحرار الذي أسسه صهر الملك الحسن الثاني.
لكن عابد الجابري لم يشر إلى أن محمد مجيد لما كان طالبا بليسي غورو في العاصمة الرباط (ثانوية مولاي يوسف اليوم) تقاسم الطاولة مع المهدي بنبركة، الزعيم التاريخي لليسار المغربي.
أتذكر أن مطاع صفدي لم يعلق بكلمة على ما أخبره به محمد عابد الجابري عن رئيس فيدرالية التنس…
مطاع صفدي كان عضوا في حزب البعث العربي، لكنه ابتعد عنه، وتحول إلى واحد من أشد منتقديه، وفي سنة 1964 نشر كتابا في الموضوع، تحت عنوان: “حزب البعث.. مأساة المولد ومأساة النهاية”، ومما سطره في ذلك الكتاب، إنه اكتشف أن حزب البعث “لم يكن يخدم الأهداف الحضارية العربية”.
***
رجوعًا إلى مسألة الصورة ومحمد عابد الجابري..
في صيف عام 1995 شهد المغرب تمهيدا لقبول عبد الرحمان اليوسفي رئاسة حكومة التناوب التوافقي، عودة المعارض التاريخي الفقيه محمد البصري إلى المغرب، بعد قضائه مدة اقتربت من 30 عامًا في المنفى.
كنت أصدرت بالمناسبة عددا خاصا من مجلة “السؤال/الملف”، كل صفحاته الـ 160 مخصصة لحدث عودة الفقيه..
ذات مرة، في بيت عبد الرحمان اليوسفي، برقم 4 من زنقة “بوان دو جور”، في السنة المذكورة نفسها (1995) صادف أن التقيت بمحمد عابد الجابري عند اليوسفي. التفت إلي صاحب “العقل العربي” وخاطبني متسائلا بما يشبه الاستنكار:
– لماذا نشرت صورتي؟ (في عدد السؤال/الملف) المكرس لعودة الفقيه البصري… حيث ظهر الجابري في إحدى الصور وهو ينظر إلى ساعة معصمه، وبجانبه اليوسفي والسيدة سعاد غزالة زوجة الفقيه البصري. كانت صورة تم التقاطها بمطار محمد الخامس وهم ينتظرون مع الجموع الغفيرة التي حجت لاستقبال هبوط طائرة الفقيه البصري.
لا أخفي أني فوجئت بسؤال م. ع. الجابري، ووجدتني أرد عليه بأن العدد في طريقه كي تنفد كل نسخه، وأننا في الطبعة الثانية سنحذف صورته.
هنا انتفض الجابري ورد علي:
– لا.. لا .. اتركوها… لا تقوموا بحذفها.. حتى لا يقع هناك أي سوء فهم أو تأويل أو تفسير مغرض.
Visited 5 times, 5 visit(s) today