الإعلام وترامب أمام الرأي العام

جمال المحافظ
زلزال هائل في المشهد الصحفي في بلاد العم سام، ذاك الذي أحدثه إعلان البيت الأبيض، بأنه سيتولى اختيار المنابر الإعلامية والصحفيين للتغطيات الرئاسية بدل هيئة مستقلة، وهو ما يشكل تغييرا لتقليد جرى العمل به منذ عام 1914، والذي تتمتع به رابطة مراسلي البيت الأبيض المخولة لها سلطة كاملة على تشكيل الفرق المكلفة بهذه التغطية الصحفية.
فهذه الرابطة هي التي عادة ما تتولى، مهام اختيار الصحفيين لتمثيل المراسلين المعتمدين في المناسبات التي تتطلب عددا محدودا من الحضور، وبناء على ذلك، يقوم الصحفيون المختارون بنقل المعلومات والتصريحات التي يتم جمعها إلى بقية الصحفيين من زملائهم المعتمدين. ” لكن هذا لن يستمر بعد، وأن فريق الإعلام في البيت الأبيض..، هو من سيحدد من سيحظى بالامتياز المحدود بالدخول إلى أماكن مثل الطائرة الرئاسية والمكتب البيضاوي”، وفق ما صرحت به المتحدثة باسم ترامب، في حين قالت رابطة مراسلي البيت الأبيض في معرض تعقيبها على هذا القرار ” في بلد حر ، لا يختار القادة وسائل الاعلام”.
المصادر المجهولة
ويأتي هذا القرار الغير مسبوق في الحياة الإعلامية الأمريكية، بعد منع صحافيي وكالة أنباء “أسوشيتد برس”، من تغطية الأحداث الرئاسية، نتيجة رفضها تعويض “خليج المكسيك” بتسمية “خليج أميركا” في نشراتها الخبرية بناء على قرار تنفيذي أصدره مؤخرا ترامب . ولم تكتف الإدارة الأمريكية الجديدة، بذلك بل لوح رئيسها بمتابعة الصحفيين قضائيا حال اعتمادهم على مصادر مجهولة في نشر الأخبار .
وإن كانت علاقة ترامب مع وسائل الاعلام، طالما تميزت بالتوتر والصراع، فإن الإجراءات الجديدة، شكلت تغييرا جذريا، ووصف بأنه تقييدا لحرية الصحافة، وتراجعا خطيرا عن تقليد يجرى العمل به منذ قرن من الزمن. لكن علاقة ترامب مع الصحافة، تتأرجح دوما ما بين الحب والكراهية في آن واحد، فهو وإن كان في مواجهة مستمرة مع وسائل الاعلام خاصة التقليدية منها فإنه بالمقابل يسمح للكاميرات والميكروفونات بأن تظل مركزة عليه طوال الوقت حتى يبقى حاضرا، للتوجه للرأي العام الأمريكي لتمرير رسائله ومواقفه وقراراته حول مختلف القضايا الدولية الراهنة، بدون المرور على المؤسسات الدستورية.
وإن كان من البديهي، القول بأن مهمة الصحافة ليس “إنقاذ الولايات المتحدة من ترامب”، فإنه بالمقابل يقع على عاتقها “مقاومة خطر وقوع الديمقراطية فريسة للاستبداد والديماغوجية.. من قبل القادة المنتخبين والمسؤولين الحكوميين” كما كان يردد كارل بيرنستاين الصحافي والكاتب الأميركي الذي كان وراء كشف قضية “ووترغيت” التي أدت في النهاية إلى استقالة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، وذلك من أجل الحفاظ على الموضوعية وقواعد أخلاقيات المهنة، وقول الحقيقة، بدون خوف.
فصراع ساكن البيت الأبيض، مع الصحافة، ليس بالأمر الجديد، إذ منذ الإعلان عن فوزه في الانتخابات الرئاسية سنة 2016، وهو ما شكل آنذاك مفاجئة كبرى خالفت غالبية التوقعات خاصة وسائل الاعلام. إلا أن فشله في انتخابات الإعادة الرئاسية في نوفمبر 2020، جعله في أعقاب نشر صحيفة ” واشنطن بوست” الذائعة الصيت تصريحات منسوبة إليه، اعتبرت بأنها مسيئة للمرأة، يصف الصحافة بأنها ” عدو الشعب “. كما أن جائحة كوفيد 19 التي ضربت الولايات المتحدة بقوة، ساهمت في توسيع فجوة الخلاف بينه وبين الإعلام، خاصة بعد اتهام وسائل الاعلام، إدارة ترامب بالتقصير والعجز عن التصدي لانتشار هذه الجائحة.
حرب مقدسة
وتكرست العلاقة المتشنجة بين الصحافة والرئيس ترامب الذي عادة ما يتهم اليسار ببسط سيطرته على وسائل الإعلام الأمريكية، بعدما رفض سنة 2017، حضور حفل مراسلي البيت الأبيض، وبذلك أصبح أول رئيس منتخب يقاطع هذا الحفل مع الصحافيين. وعلى الرغم من فوزه الساحق على منافسته الديمقراطية كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية الأخيرة سنة 2024، يواصل ترامب “حربه المقدسة” على الاعلام الذي استهان سنة 2016 بقراره الترشح للرئاسة مرشحا عن الحزب الجمهوري.
لكن على الرغم من أن ترامب لا يخفى معاداته لوسائل الاعلام التقليدية، على خلاف ما كان سائدا مع سابقيه من الرؤساء الذين غالبا ما وصفت علاقاتهم بالصحافة ب” الجيدة”، فانه اهتدى إلى الاستفادة من وسائط الاعلام الجديد، بكثافة، في تواصله المباشر مع الرأي العام المحلى والدولي، لتسويق آراءه ومواقفه، حول مختلف القضايا الداخلية والخارجية.
فترامب، تمكن من جهة أخرى بفوزه في الانتخابات دحض فكرة السائدة بأن أي مرشح، لن يكون بمقدوره الفوز بالانتخابات الرئاسية، ما لم يحظ بدعم ومساندة وسائل الاعلام، التي عادة ما تكون السباقة الى الإعلان عن فوز المرشح في الاستحقاقات الانتخابية قبل الإعلان عليها رسميا.
حماية الديمقراطية
لكن على الرغم من هكذا وضع فإن وسائل الإعلام وإن كانت تلعب دورا كبيرا وحاسما في حماية الديمقراطية، والرقابة على الشأن العام ومحاسبة المسؤولين ونشر الأخبار وتعميم المعلومات والبحث عن الحقيقة، فإنها عندما تتخلى في بعض الأحيان عن مهنيتها واستقلاليتها، تفقد مصداقيتها وبالتالي قدرتها على التأثير في الرأي العام، وأصبح بذلك من البديهيات القول بأنه لا ديمقراطية بدون ضمان حرية الصحافة والاعلام.
ونتيجة المتغيرات المتتالية محليا ودوليا، فإن العديد من الملاحظين يشيرون – استنادا لاستطلاعات للرأي – إلى أن الصحافة الامريكية، تمر حاليا بمرحلة عصيبة ، مع فقدان الاحترام للصحفيين . إلا أن عدم رضى هذا، لا يرتبط بقدرات الصحفيين المهنية، بل عن تدنى التقيد بأخلاقيات المهنة من جهة وبمستوى الوعي بأهمية دور الاعلام في المجتمع من جهة أخرى.
وتتباين ثقة الحزبين الرئيسين الجمهوري والديمقراطي بوسائل الإعلام بالولايات المتحدة، حيث عبر 72 في المائة من الديمقراطيين عن ثقتهم بالصحافة، فيما يتعلق بـ”نشر الأخبار بشكل كامل وبدقة ونزاهة”، في حين كانت ثقة الجمهوريين أقل بكثير بنسبة 14 في المائة، في الوقت الذى بلغت ثقة الأمريكيين نسبة 41 في المائة، حسب ما جاء في إحدى استطلاعات الرأي .
حرية الصحافة
لكن أن يكون الصحافي معارضا مخلصا من أجل إشاعة الحقيقة ومنع الفساد، فهو لا يمكن أن يكون عدوّا للشعب، “ذلك ما لا يريد أن يدركه ترامب وهو يعيش مرحلة مستمرة من اللعب السياسي المسكون بالشغف العبثي وهذا النوع من المعارضة الصحية، هو ما يُبقي الديمقراطية على قيد الحياة، ويشكل في فحواه واحدة من المسؤوليات الجوهرية للصحافة الحرة”، وفق تعبير الكاتب الأميركي نوح فليدمان أستاذ القانون في كلية هارفاد. كما يظل قائما بأنه لا ديمقراطية بدون ضمان حرية الصحافة والإعلام، باعتبارهما، سلطة مضادة ومستقلة ورقابة، تحمى المواطنين من تدخل السلطة في ممارسة حرياتهم الفردية، مما يجعل العلاقة بين الإعلام والدولة، غالبا ما تتسم بالتعقيد التوتر، في الوقت الذي يبقى من الضروري لتحرر أي مجتمع، أن تظل سلطات الدولة موضع مساءلة.
وبالنسبة للعلاقة بين الإعلام والديمقراطية، يلاحظ كثير من الباحثين أن قدرة ميديا الاعلام على تعزيز الديمقراطية مازالت جد محدودة، بغض النظر عن من يعتبر بأن وسائل الاعلام مسؤولة عن السلبيات التي تعاني منها الديمقراطيات الناشئة أو تلك التي تعرف انتقالا ديمقراطيا. بغض النظر عن من يعتبر بأن وسائل الاعلام مسؤولة عن السلبيات التي تعاني منها الديمقراطيات الناشئة أو تلك التي تعرف انتقالا ديمقراطيا.
ويبدو أن الصراع ما بين وسائل الاعلام خاصة العريقة والرئيس الأمريكي، لن يكون من أجل تقاسم السلطة ما بين جهاز تنفيذي وسلطة رابعة في زمن التحولات التكنولوجية، بل هو “سباق المسافات الطويلة “من أجل كسب ود الرأي العام وإعادة تشكيله، بناء على المتغيرات السياسية والمجتمعية الراهنة، ببلاد العم سام والعالم.