الطفل الذي يقع داخلي يبحث عن ظله

الطفل الذي يقع داخلي يبحث عن ظله

عزالدين الماعزي

طلب مني الصديق، الأديب “جبران أبو مروان” مشكورا، أن أكتب عن طفولتي في لقاء سيجمعنا (1)، قريبا.. ابتسمت له وحاصرتني الأسئلة المقلقة:

بماذا أجيب؟ وكيف.. وهل أستطيع أن أعبر أكثر في الكتابة..؟

أن تكتب عن الطفولة يعني أن تستعيد لحظات النوستالجيا الجميلة؛ أن تستعيد ذاكرة الطفل الذي كنته وما زال عالقا بي، حاضرا في حياتي وأنا الآن في العقد السادس من كوة الضوء. كلما ازددنا فيها حكمة ازْددنا مغامرة في الطيش.

ليست طفولة الماضي ماضيا فقط، بل هي الحياة في عمق تجلياتها، هي الخميرة لإعادة البناء والطبخ الجيد، يتداخل فيها كل شيء ولها تأثير على القادم من الأيام.

إن الكتابة عن الطفولة حلمٌ يراود كل واحد منا؛ حلمٌ يُجدد نفسه بأشكال متعددة وكأني أستعيد بذلك كتابة سيرة جديدة لم تكتب بعد، بل هي سيرتي التي لن تتكرر أبدا في ( يوميات معلم في الجبل)، مستعيدًا لها لوحات جميلة من صفحة معاناة مشتركة مع المئات والآلاف الذين أودى بهم الفراغ الأيقوني إلى التجنيد الإجباري. في تعيينات مستعجلة ومنفى سحيق بأشكال العذاب والألم والبؤس والجوع.. بعيدًا عن الأهل، والأسرة وعن كل متطلبات الحياة، وإعادة ترتيب البيت بمصالحة مغرب جديد وفق رؤيا وصيغ متعددة..

طفولتي؛ طفولةٌ مشرعة على اللعب والمرح والجد والمعرفة والسفر في التدفق اللانهائي للطبيعة والفضاء المحيط، خصوصا، وأنا ابن البادية، أعيش وأعشق حريتي وانطلاقتي في أجوائها وعالمها المتسع الكبير.

كنت ذاك الهادئ، المهذب، في نظرهم، وفي نظر الآخر، النجيب، المجتهد، الضعيف، النحيل،.. الذي انْسلّ من حقيبته بتعبير المرحوم عمي حين أقلقه بأسئلة الوجود والله والخلق والبحر..

أحبّ القراءة والرسم والركض خلف فراشات البساتين والمروج الخضراء.. الطفل الذكيّ الذي يقبع في الداخل، يبحث عن ظله الذي يترسخ في الحاضر والمستقبل رغم قسوة الحياة والظروف.

الطفل الأكبر من سنّه الذي يعشق المطر وبلل حباته على الشّعر والابتسامة البريئة وخبز أمه، وبيض دجاجها المسلوق وحليب بقرتها الحمراء والشمس لم تشرق بعد من جهة الصدر..

الطفل الذي كنته، يقودني إلى عمق ابتسامة أولى من براءة وفرح ممزوج بالعسل، وكأس شاي حلو وقطعة حرشه…

الطفل الذي كنته؛ يقطع عشر كيلومترات يوميا جيئة وذهابا من البيت إلى المدرسة، حاملا محفظة من (الميكا) فيها: قراءة وقرآن ودفاتر من نوع (صومابا) لتمارين وملخصات الدروس مع قلم رصاص وممحاة، قلم بيك أزرق ولوحة وقطعة خبز شعير وقنينة شاي أحمر بائت..

الطفل الذي كنته يحصل على الشهادة الابتدائية بسرعة البرق وينتقل من عالم القرية إلى عالم المدينة، يركب أول مرة كار (ولد الكَزار)، يرمق البحر مندهشا والشاطئ الرملي الأصفر، يجمع الأصداف، يطارد النوارس كلما طارت زاحمته في تسكعه حول الميناء…

الطفل  الذي قال له الأستاذ مستفسرا : أنت مين؟

أجاب بلهفة وحدود فرحة الدنيا لا تسعه : من زاوية سيدي اسماعين..؟!

ضحك القسم وأشاد الأستاذ بدرجاته بالتميز في حصص الإنشاء واللغة والتاريخ.. ركب التحدي وتسجيل اسمه..

في المدينة اكتشف عالم القصص والروايات؛ قصص عطية الابراشي وزامبلا وروديو وطرزان وأرسين لوبين وعبير وألف ليلة وليلة .. وروايات جورجي زيدان التاريخية وكتابات جبران خليل جبران الذي ساح به أقصى درجات عزلة الخيال والتأمل وعالم الأندية والجمعيات الثقافية والسياسية ومجلات الاعدادية والثانوية وعوالم الرسم والكاريكاتير..

أستعيد طفولتي بكتابة القصة للطفل، فيها راحة واستراحة، سفر طويل في هوامش الطفل والتجليات.. استعادة لحظة ضائعة منه وانفلات لخيبات متكررة …

هو ذاك الطفل الذي كنته والذي لا يفارقني (منكمشًا) في الجهة اليسرى..

الأمر صعبٌ والصعوبة تكمن في لذة الكتابة التي تحدث عنها رولان بارت. هي المطالعة وقراءة (أيام) طه حسين، و(الجبل) لفتحي غانم، و(الطفولة) لعبد المجيد بن جلون، و(الخبز الحافي) لشكري، و(محاولة عيش) لزفزاف، وسلامة موسى والمازني…. والاستماع إلى الراديو وتتبع إيقاع الموسيقى..

القصة هروبٌ من كثافة العالم؛ مخاض ووجع رهيب، هي الحلم الذي نبحث عنه..

القصة هي حكاية ما حدث وما لم يحدث؛ هي القدرة على طرح مشاكل العالم في لحظة وومضة، هي القبض على المنفلت.. عن الديناصور الذي.. لم يستيقظ بعد..

هي تلخيص العالم في جملة على مقاس السنتمتر،

هي قصة الحلم التي اختارتني أمينا لسر طفولتها

هي خيمة العالم، هي التي تسعى كالحية وتعصى عن التعبير

هي الرصاصة التي تنطلق من البندقية وتكون فيها الهدف..

قصة الطفولة هي البحث في نغمة الفقد، في القصة التي لم تكتبني بعد. وفي السفر لكتابة قصة طويلة جدا.. “كلمته ابنته عن سرّ غيابه الطويل عن البيت.. قال :

_ إنه في ندوة ثقافية، يشارك بقراءات قصصية سيعود بعد ثلاثة أيام. قالت :

_كل هذه الأيام  وأنت تقرأ القصص القصيرة جدا..؟؟” (2)

هامش:

  • ألقيت في لقاء الاحتفاء ب\ت” الطفولة والابداع” بالمركب الثقافي القادري، الجديدة بتاريخ 22/2/ 2025
  • من نصوص المجموعة القصصية القصيرة جدا “حب على طريقة الكبار” مطبعة وليلي، 
Visited 6 times, 6 visit(s) today
شارك الموضوع

عز الدين الماعزي

قاص مغربي