أدب السجون اليساري نرجسيات والتاريخ نَسْيٌ مَنْسِيّ (2)

أدب السجون اليساري نرجسيات والتاريخ نَسْيٌ مَنْسِيّ (2)

المصطفى مفتاح

 تذكير

           كما كتبت في المقال السابق، هو امتحانٌ صعبٌ أن تحاول مساءلة إنتاج من شاركتهم وشاركوك تجربة مهمة كبيرة القسوة والعطاء، وحافلة بالمواجهة والانكسار والانتصار، عن تلك التجربة المزدوجة أو الثنائية: تجربة الاعتقال والنضال في حركة سياسية.

لأنها تجربة وإن كانت مشتركة فإنها أيضا خاصة. ولأن ذاكرة الفرد وإن احتفظت بنصيبها الخاص إلا أنها وبالضرورة والبديهة، تسرق أو تمسخ أو تزين وتترك قدرا من المزيج المشترك. لأنه مزيج، ولو أننا كنا أفرادا منفردين متفردين، لكننا كنا نتنفس نفس الهواء وننتجه.

والأمر أصعب حين يختلط المعيش ولسنوات مع حياة التزام وتنظيمات وفصائل ومجموعات اختارت نفسها أو اختارها أصدقاؤها أو خصومها أو حتى الذين لا يبالون.

والأمر أصعب أيضاً حين تختلط الذكريات وتتوهن الذاكرة.

ولكن الهدف هو كتابة التاريخ الفعلي وتفسير الأحداث، وتسطير الآثار التي تركتها هذه التجربة لدى الأجيال اللاحقة، وفي التقدم أو التأخر في تحقيق توقنا العميق لتحقيق مواطنتنا وكرامتنا وتقدم البلاد، وجوهر ما تأسست من أجله الحركة الماركسية اللينينية المغربية وتحملت مناضلاتها وتحمل مناضلوها أهوال التنكيل وسنوات الاعتقال.

سأحاول في هذه المساهمة أن أبسط عنصري الموضوع الأساسيين: أدب السجون اليساري من جهة وتجربة الحركة في السجن، من جهة ثانية على أن أواصل الجوانب الأخرى في الموضوع، في حلقة أو حلقات أخرى. وحبذا لو انبرى معنيون آخرون للإدلاء برؤاهم وتحليلاتهم وخلاصاتهم.

 أدب السجون اليساري والبداية من شجني النرجسي

      سأغامر بالتصريح بأن أدب السجون اليساري المرتبط بمجموعة محاكمة 1977 بدأ بنقش بيت شعر على صابونة، وطرز مطلع أغنية لفيروز على عصابة في مسلخ درب مولاي الشريف. ثم استمر في الرسائل التي أرسلها سجناء “اغبيلة” و”عين البرجة” بعد ذلك لعائلاتهم في تلك المطبوعات السجنية المتميزة ذات اللون الشاحب، ورقات مطوية تشمل الظرف والرسالة في ورقة واحدة.

لم تكن الرسائل عادية، رغم أنها كانت لا تخرج للمرسلة إليهم، إلا بعد رقابة إدارة السجن ومن معها، تتفحص وتبحث عن الأسرار الخبيئة التي قد تحملها الرسائل. أما السجين فيحاول، كل حسب مزاجه وشخصيته، أن يحمل الكلمات والجمل أقصى ما يمكن أن تحمله من الرسائل الواضحة والملمحة حول الصحة والمعنوية والثبات ورجاحة العقل والقدرة على تجاوز العذاب أثناء التحقيق والتعذيب، وذلك المرتبط بشروط السجن.

وحين تكون إمكانية بعث رسالة خلف أعين الرقيب، يغامر الباعث أكثر وقد يسرب معلومات حول العسف الذي مضى والعسف الذي ما زال قائما، وتنفتح الآمال في بلوغ شيء من الخبر إلى آخرين والعالم.

ثم أتصور أنه كانت هناك كتابات أو محاولات شعرية أو نثرية، وصفية أو خواطر، تقريرية وغيرها وربما كانت متداولة في مجموعات ضيقة قليلا أو كثيرا أو مخبأة بعناية.

بعد ذلك، حسب ما أتذكر تم نشر مساهمات بالفرنسية ثم اتسع الأمر بعد استقرار الأوضاع في حيي “ألف 1″، و”ألف 2″، وظهرت “مجلات” مثل: “الساحة” و”الطريف”، وقبلهما تم تداول “دفتر” بين المعتقلين، باستثناء أولئك الذين صنفتهم جهة ما في خانة “المحرومين من الاطلاع”، وقد اشتهر الدفتر بقصيدة لـ”عبد القادر الشاوي” عنوانها “البحر”، انبرى لها بعض القياديين وغير القياديين من منظمة أخرى ووصلتنا شفوياً أصداء “لهب النقد الثوري” وردود عبد القادر الشاوي و تشبيهات ونعوت في فورة من الهجاء المتبادل، كانت في حقيقة الأمر، إعلانا عن تحول في العلاقات السياسية بين مكونات المجموعة في المركزي.

ثم صدر تباعاً مؤلفان فارقان في مساهمة المجموعة في “أدب السجون اليساري”، هما “كان وأخواتها” لعبد القادر الشاوي، و”تحت ظلال لالا شافية” لإدريس بويسف الركاب، وتتابعت الكتابات بعد إطلاق سراح موجات متتالية من المعتقلين. اشتهر منها “الغرفة السوداء” لجواد امديدش، و”حديث العتمة أو قصة امرأة اسمها رشيد” لفاطنة البيه، التي ارتبط اسمها بمجموعتنا، رغم أنها كانت من مجموعة مكناس.

ليس الغرض هو التأريخ لكتابات “المركزي”، لكني سقت هذه المؤلفات الأولى إما لتوقيت كتابتها أو نشرها أو للجوانب التي تناولتها.

 الحركة الماركسية – اللينينية المغربية في السجن:

       سأركز هنا على المجموعة التي عرفت بمحاكمة 1977، توبع من هذه المجموعة في حالة اعتقال 244 رفيقة ورفيقا، أطلق سراح 105 منهم من عند قاضي التحقيق ومر الباقي بين سجني “اغبيلة” و”عين البرجة” بالدار البيضاء، والمركزي بالقنيطرة (لم أحتسب كل الذين اعتقلوا ومروا من مراكز البوليس ومن مركز درب مولاي الشريف على وجه الخصوص ولا أعرف عددهم).

كان أغلب المعتقلين ينتسبون أو يحسبون على تنظيمات “23 مارس” و”إلى الأمام” و”لنخدم الشعب”، تأثروا في تعاملهم ورد فعلهم على صدمة الاعتقال والتحقيق والأساليب التي استعملت في حقهم، وبالمقابل كان لسلوكهم أمام القمع آثار على تنظيماتهم.

وبالموازاة مع هذا وذاك، أثروا في بعضهم البعض وتأثروا، وكانت لكل هذا نتائج كبرى على مقامهم طيلة سنوات السجن قبل وبعد صدور الأحكام في حقهم وأثروا أيضا على تنظيماتهم داخل السجن وخارجه.

من الأكيد أن مختلف المؤلفات المعنية تعرضت بطريقة ضمنية أو واضحة وبأشكال أكثر أو أقل اكتمالا لتجربة الفصائل والمجموعات في السجن. وبهذا المعنى فإن أدب السجون اليساري مهم جدا لتوثيق التاريخ الفعلي لهذه التجربة، سواء في شقها المتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، أو شقها المتعلق بالتنظيمات الماركسية اللينينية المغربية.

لا أملك معلومات كافية حول التاريخ، ولكنني أعتبر أن مساءلة النصوص المنشورة في إطار أدب السجون اليساري في هذه الأبعاد مهمة جدا.

وحسب اطلاعي فإنه وباستثناء مؤلف واحد أدلى بتقييمه العام على أبعاد آثار حملة الاعتقالات التي ابتدأت في نونبر 1974 وتوجت بمحاكمة 1977 الشهيرة وبعض المؤلفات التي تناولت سلوك فصيل أو فصيلين داخل السجن وفي تدبير المحاكمة ثم الإضراب عن الطعام فإن الإشارات إلى أوضاع التنظيمات إن حصلت فلم تكن واضحة أو شمولية. وعلى أية حال أعتقد أن نقاشها بكل هدوء وتسامح، ضروري لرفع بعض الضيم لدى العديد من المعتقلين، والعودة إلى نقاش ما جرى في مركز درب مولاي الشريف وما بعده، بالنظر إلى قضايا مثل الصمود والانهيار والهزيمة والخط السديد، وذلك الذي ليس سديدا أو غير “ثوري”، ومعنى المقاومة عند الأفراد والفصائل المعنية ومجموعتنا ومن معها من عائلات وأمهات رائعات، كان لهن أكبر الأثر وأعظمه من كل ما تركه لدينا كتاب “ما الذي يجب أن يعرفه كل ثوري عن القمع” لكاتبه “فيكتور سيرج”.

قبل ختم هذا المقال، أرى ضروريا الاعتراف بأننا رغم أننا عشنا تجربة مشتركة، كان جلها يدور أمام أعيننا جميعا، مع اليقين إن أمورا ونقاشات ومعلومات كانت غير متاحة للجميع ومحصورة في أوساط ضيقة مفهومة، لكننا وحتى فيما يتعلق بما راج أمامنا نحتفظ في ذاكراتنا عنه بالأحداث والوقائع، بشكل مختلف وغير مكتمل. وسنرى في مناسبة قادمة بعض الأمثلة عما كان معروفا بشكل جزئي او مختلف أو غير معروف، مع العلم أن أغلب الذين كتبوا لم يكن هاجس التأريخ والتوثيق همهم الرئيسي، بل كان الغرض هو الشهادة والاعتزاز بالذات والفضح والتعريف.

Visited 7 times, 7 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى مفتاح

ناشط سياسي وجمعوي