أقصوصة: لذة الانتظار!

أقصوصة: لذة الانتظار!

محمد امباركي

   لما ضربت له موعدا ليلا، انتابته موجة من الأحاسيس المضطربة كأن عاصفة هوجاء هاجمت كل تضاريس جسده النحيل وروحه التي تحلق عاليا عشقا للحياة… هو يكره الموت حتى قال عنها ذات زمن شبابي “الموت ممارسة للحياة بطريقة أخرى تنتفي فيها كل الطقوس الجنائزية الباردة!”… هكذا ادعى “عوتو” فقط ليحصل لديه شعور القبول بالنهايات..

فكر مترددا أن يعتذر عن الدعوة وهو الرجل ما فوق الخمسيني الذي من فرط عشق النساء له فقد الكثير من مقومات الصمود وحس المغامرة بين دروب وصفها عبد الرحمان المجدوب “بالسوق المطيار”… السوق النسائية سوق متحركة لا تقبل السكون ولا تعشق البرودة… لكن هل النساء سوق؟…

هكذا تساءل ثم خاطب نفسه: ما المانع من تلبية الدعوة وصاحبتها ملاك من ملائكة الله والسوق فضاء للحثالة والدنس؟… لما خلق الله الوجود كأفق منسجم حتى في نزاع مخلوقاته كان صفاء الروح والقوام الممشوق وظلم ذوي القربى من قدر نساء الحسن والجمال… كيف لا يستجيب للدعوة وهي صاحبة الدعوة التي هاجمته ووضعته في الزاوية الضيقة لذكورية منهزمة في كل المعارك إلى معركة الاستعلاء على النساء في عالم غير قادر على عنفوان النساء؟… عالم أصله نساء وصناعته نسائية… هي قصة لا تشبه باقي القصص… هي مغامرة متأخرة رغم إصرار البطلة على ضرورة خوضها لأن الحب لا يقبل الجبن… قصة تتسبب في أرق لذيذ وانتظار ألذ… “هل هو يفوق مكانة وشأنا الكلب الوفي “هاتشي”؟… تساءل وهو يستحضر شريط الفيلم السينمائي الذي ظل مشدوها إليه ذات ليلة شتوية من ليالي يناير التي تتوزع بين برودة شتاء قارس وسخونة مناخ اجتماعي لا يقبل التسويات… ثم عاود مشاهدته مرات ومرات وهو يتتبع الصبر الأيوبي لـ”هاتشي” أمام محطة القطار ليلا ونهارا، خلال كل فصول السنة امتدت على عشرات السنين، منتظرا صديقه “باركر” الذي احتضنه باكرا، الأستاذ الجامعي في مادة الموسيقى، لعل وعسى يخرج من المحطة… ظل “هاتشي” يمارس طقوس الانتظار ويثير انتباه  وشفقة الساكنة المجاورة لمحطة القطار الذين ظل جزء منهم شاهدا على جدلية اللذة والالم إلى أن مرت سنوات طوال … الشيخوخة احتلت خريطة “هاتشي” جسدا وملامحا وصديقه لم  يعد لأنه توفي منذ عشر سنوات نتيجة نزيف دماغي بالجامعة… هاتشي لا يعرف هذه الحقيقة أو ربما يعرفها ولا يريد أن يصدقها…الشريط السينمائي لا يجيب عن هذا اللغز التي تفطن إليه  “عوتو” المصاب ب “فوبيا الانتظار” وهو لا يفهم في النقد السينمائي إلا لماما…

لما تأهب “عوتو” للذهاب الى الموعد استخرج المعطر القديم الذي كان يتباهى به وهو المقتنى من متاجر الحظوة والتميز آنذاك حيث الغلاء والندرة … لكن العودة إلى العطر القديم كان فقط مبررا كي تنبعث من كينونته المنسية تلك المنطقة الهامدة من المشاعر…فكر مليا كي تحصل لديه القناعة أنه ميت طالما أن مشاعره ميتة… فقط المسألة تقتضي إقامة مراسيم الدفن والعزاء… فجأة انبعث عاشقا ولهانا لا يفقه في الحياة غير لغة العشق والغرام… غمر البطلة بحب دفين حاول إخفاء سكناته وحركاته لكن بدون جدوى…كادت سماعة الهاتف تسقط من يديه التي ترتعدان شوقا… ظل عاجزا عن ستر مكنوناته حتى قال لها “الحب تضحية… أحبك أيتها الشقية!”… كان مستعدا أن يضحي بماضيه التليد ومركزه الاجتماعي والرمزي من أجل عيون البطلة التي جعلته يكتشف متأخرا أنه نسي العشق والعشق نسيه!…  تمنى لو كانت البطلة ممتطية  قطار الحياة وهو في انتظارها بمحطة الوصول، ثم تاه القطار… كانت حالته تشبه الانتظار اليائس والعذب لـ”هاتشي” رغم وعيه أن قدرته على التحمل لا تضاهي قدرة الكلب الوفي “هاتشي” في ظل زمن مركزية الإنسان ودمار الطبيعة وقلق الوصول..

لما هاتفته وقالت له أن موعد اللقاء سيتأخر لبعض ساعات حتى يفرغ الحي السكني حيث تقطن البطلة من مناوشات شباب الحي، لم ينبس بشفة… أحس ان لذة الانتظار تسكن جسده النحيل وروحه التي تحلق عاليا عشقا للحياة… لم ينشغل بمناوشات وحروب شباب “مرفوع ” ويائس قتلته واجهات الاستهلاك في الداخل والخارج حتى تحول إلى عبد لها فزادت من عبوديته أقراص الهلوسة والأحلام الوردية وفتاوي حور العين.. تمنى لو تحول حي سكناها الى محطة قطار كي يستلذ بطقوس “هاتشي” الذي كان شاهدا حيا على حركة القطارات جيئة وذهابا.. ظل يستمتع بالانتظار وهو مستلق على سريره الخشبي المهترئ حتى نام وتخلف عن الموعد.. لما استيقظ لم يندم على تفويت اللقاء.. ولم يندم على أن “هاتشي” كان أقدر منه وظل يقظا حتى من داخل زمن الموت واللاعودة… لأن الأهم بالنسبة له أنها هاتفته… فواصل  الاستمتاع بطقوس الانتظار!..

السعيدية. شتنبر 2021

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة