حكايتي مع قبّعتي هل هي كُولُومبيّة أم بَنَميّة أم إكواتُوريّة؟

حكايتي مع قبّعتي هل هي كُولُومبيّة أم بَنَميّة أم إكواتُوريّة؟

د. السّفير محمّد مَحمّد خطّابي

هذه القبّعة تُنسَب طوراً لبنما، ويُرْجِعُون مصدرَها الأصلي تارةً للإكوادور، وأحياناً أخرى يردّون أصلها لكولومبيا، هذه القبّعة سبق أن أهداني إيّاها خلال عملي على رأس سفارتنا بهذا البلد الجميل من 2003 الى 208 أحدُ الرؤساء الكولومبييّن النبلاء خلال إحدى الرّحلات الإستكشافية والإستجماميّة داخل أدغال كولومبيا السّاحرة الفيحاء! ونظراً لكوني أعرف حقّ المعرفة مدى تطلّع، وتوْق صفوة من الأصدقاء النبلاء وفضولهم المَعرفي الحميد إلى التأكّد من أصل موطن هذه القبّعة التي لم تعد تفارقني فى حَلّي وتِرْحالي، وسَفَرياتي وتِجْوَالي منذ عودتي من بلدان القارّة الأمريكية الجنوبيّة التي عشتُ بين بلدانها ومناكبها سنوات طويلة ، ولقد جرّنا الحديث  مع هؤلاء الخلاّن الاصفياء  ذاتَ ليلةٍ مُقمرةٍ عن هذا الموضوع خلال جَلسَةٍ وجِلسَةٍ (هيئة ومَرّة)  فى سهرةٍ رائعةٍ فى رُبوع مدينة الحسيمة الخزاميّة الطّيبة، الزكيّة، والعبقة الفوّاحة الجميلة الفيحاء التي يحيط بها اليمّ من كلّ جانبٍ، ويتوّجها أحدُ أجمل الخُلجان البحرية في العالم ،هذه الجلسة الطريفة جرَتْ منذ سنواتٍ غيرٍ بعيدةٍ ولكنّها انضمّت الى سابقاتها من سنين العُمر التي مرّت، وانقضت، وغبرت، ومضت، وانصرمت لحال سبيلها حميدةً بأهلها فى سديم الزّمن والأعوام، والليالي والأيام كذلك، عندئذٍ ارتأيت أنه لكي أشبع الغليل المعرفي، والفضول العلمي لأصدقائي الأعزّاء  كان لزاماً عليّ، ولا مناص من أن أخطّ  لهم  هذه الكلمات:

هذه القبّعة لم يهدني إيّاها الرئيس الكولومبي الأسبق ”بيليساريو بيتانكور” كما ظنّ  بعض هؤلاء الأصدقاء أوّل وهلة، بل إنّ الذي تفضّل مشكوراً وأهداني تلك القبعة الفريدة والجميلة هو الرئيس الكولومبي السّابق Álvaro Uribe Vélez الذي تولّى حكم البلاد فى المدّة المتراوحة بين (2002-2006 2006-2010) إنّه بادسيّ Vélez مثلنا كما ترون..! ممّن تابعوا دراستهم  الثانوية في معهد أبي يعقوب البادسي (حالياً ثانوية)  بمدينة الحسيمة الغرّاء، أمّا الرئيس الأديب الراحل BELISARIO BETANCUR  فكان رئيساً على كولومبيا فى الفترة المتراوحة بين 1982–1986 خلال وجودي بهذا البلد الساحر بعد عملي فى مدينة مدريد العامرة، هذا الرئيس الأديب كان من أحبّ الأصدقاء لصاحب مائة سنة من العزلة قيد حياتيْهما وأقربه إلى قلبه إلى جانب الأديب والشاعر الكولومبي المعروف ألبارُو موتيس.

الرئيس الأمريكي روزفلت عند تدشين قناة بنما

هذه القبعة ربّما تُسمّىَ من باب الحيف والشطط sombrero panameño أيّ قبّعة بنميّة  إلاّ أنه يُقال أنها من أصل إكواتوري، وكولوومبي كذلك وليس بنميّ وحسب، وخلال إقامتي وزياراتي المتعدّدة والمتوالية لبنما التي عملتُ بها سفيراً لبلدي كذلك كان قد أخبرني بعض الأصدقاء البنمييّن عن حقيقة وأصل اسمها ونحن نجول ونصول فى ردهات، وفضاءات، ومنشآت، وممرّات، ومباني الآليات الضخمة التي تعمل على استخدام القناة العالمية الذائعة الصّيت التي تجمع بين بحريْن عظيمين (المحيط الأطلسي والمحيط الهادي) أخبروني أنّ حادثة تاريخية هي التي جعلت هذه القبّعة تتبنّى وتحمل هذا الاسم (القبّعة البنميّة)، فبعد أن زار الرئيس الأمريكي الأسبق تيودور روزفيلت بنما عام 1906 لمتابعة ومعاينة سير أشغال بناء (قناة بنما) الشهيرة، وكانت أوّل مرّة يقوم فيها رئيس أمريكي بزيارة خارج بلده، وأثناء الزيارة كان الجوّ قائظاً حارّاً وكانت الشمس حامية الوطيس بشكلٍ كبير فلاحظ أحدُهم أنّ رأس الرئيس الأمريكي الأصلع كان عارياً وكان جميع الحاضرين يرتدون قبعاتهم لتقيهم لفحة الشّمس الحاميّة الحارة، وتصدّ عنهم أشعة الشمس الحارقة من أنّىَ واجهتهم!، فتقدّم مواطن بنميّ شهم كان واقفاً بجواره وناوله قبعة من هذا النوع فوضعها على الفور فوق رأسه وهو جَذِل مسروركطفلٍ غرّير، ولعلّ الرئيس الأمريكي قال لمرافقيه حينها  مُعبّراً عن شكره، وامتنانه، و مدى فرحه: (ما أجملَ وألطفَ وأرقّ هذه القبعة البنميّة)! وربّما بقيتْ منذ ذلك التاريخ تُسمّى كذلك، والغريب أن المواطنين الإكواتورييّن ينسبونها لأنفسهم ولبلدهم كذلك، وربّما كانوا مُحقّين فى ذلك أيضاً، فيقولون: ”قبعة إكواتورية sombrero Ecuatoriano  de paja-toquilla، وقد أصبحت هذه القبّعة منذ 1982 فى هذا البلد تراثاً ثقافياً إنسانياً غير مادّي مُعترفاً بها من طرف منظمة اليونسكو العالمية Legdo  cultural inmaterial  والمواطنون فى بلد الإكوادور الذي عملت سفيراُ به كذلك،  مثلما هو عليه الشّأن فى كولومبيا يستشيطون غضباً وحنقاً وضيماً  هم الآخرون عندما يسمعون منتوجهم التراثي المحلّي الوطني يُسمّى ”بنميّ”  Panameño!.

حرب البطاطس بين البيرُو وشيلي

هذا الضّرب من التنافس المحموم يحدث كذلك من نوعٍ آخر بين بلديْن أخرييْن فى أمريكا الجنوبية وهما البيرو، وتشيلي حيث يتشبّث كلٌّ منهما بأنّ أصل ”البطاطس” من بلده، وما فتئ هذا التباري، والتباهي، والنزاع، والسّباق المحموم محتدّاً ومحتدماً بينهما حتى اليوم. وعلى ذكر البطاطس المقلية منها على وجه الخصوص  les pommes de terre  frites  فمعروف أنّ الحرب الضّروس ما زالت قائمة كذلك، وما انفكّت السّيوف مرفوعةً إلى أعلى هذه المرّة بين بلديْن أوربييْن – منذ عهود بعيدة خلت –  وهما فرنسا وبليجيكا، حيث يدّعي كلٌّ منهما بنسبة هذه الوجبة الشهيّة الشهيرة اليوم عالمياً وانتمائها إليه.

الكُسْكُس والبلدان المغاربيّة الشقيقة!

وتفادياً لإثارة النّعرات،والحزازات، والمُواجهات، والمشاكسات بين ”الإخوة الأشقّاء” (وتذكّرنا هذه الصيغة اللغوية برواية شهيرة كرمازوفيّة للكاتب الرّوسي الكبير تيودور ديستوفسكي من جانبها الإيجابي بطبيعة الحال)! أقول لن أتحدث عن  “قصعة الكُسْكُس”  أو ”طبق الكُسْكسي” الذي أصبحت له شهرة عالمية اليوم كذلك، ولا عن التنافس القائم حوله: هل هو من أصل مغربي، أم أمازيغي، أم  من أصل جزائري، أم من أصلٍ  تونسي، أم ليبي، أم أندلسي، أم إفريقي..؟، يحدث هذا، وهذه البُلدان الشقيقة والصديقة جميعها متلاصقة ومتعانقة منذ الأزلْ، ولم تزلْ تاريخيّاً، وجغرافيّاً، ولغويّاً، وثقافيّاً، وحضاريّاً، وثقافياً ووجدانياً ومن باب الهويّة، والدم، والمصير، والمحبّة كذلك! ولله فى خلقه شؤونُ..!

أصل الحكاية

 وتعود أصل الحكاية إلى أنّ الصديق الأديب الحسيمي “صدّيق عبد الكريم” كان قد سألني خلال سهرة أدبية تاريخية ماتعة في إحدى مقاهي مدينة الحسيمة الفيحاء الجميلة عن أصل أو مصدر أو موطن القبّعة التي كنت ارتديها إتقاءً لشدّة ولحدّة ولسعة البرد القارس الزّمهرير ، وتدفئ رأسي في الليالي الشتوية الحالة  كما تحميني من لفحة الشمس الحارّة الحارقة الحاميّة الوطيس وتصدّ عنّي لهب الحرارة المفرطة في عزّ الصيف القائظ ولظاه والتي كان يراها  ويلمحها ويطيل النظر اليها فوق أمّ رأسي فى كلّ حين، من باب فضوله العلمي وتطلّعه المعرفي لاستكناه واستغوار حقائق الأمور وأصولها كعادته، والذي كان يتساءل مع نفسه: هل أصل هذه القبّعة الجميلة  من (كولومبّيا، أم بنما، أم الإكوادور..)!، وهي تعود به الزّمان القهقرىَ، و لابدّ أنّها تذكّره فى كلّ حين، من باب الشّئ بالشّئ يُذكر، ببريه توفيق الحكيم، وبكاسكيت أو قلنسوة نجيب محفوظ، وبطربوش الأديب الأريب، والمفكّر الكبير الدكتور أحمد أمين، وبالشّاعرين حافظ ابراهيم، ومحمود سامي البارودي، وبعمامة الأديبيْن الناثريْن صاحب الأسلوب السّاحر مصطفى لطفي المنفلوطي، وصاحب الطّبع السّاخر عبد العزيز البِشري، فضلاً عن بيريه عباس محمود العقاد، وطربوش مصطفى صادق الرافعي، يُضاف الى هؤلاء القبّعة الإفرنجيّة للشاعر السّوري أدونيس، وطاقيّة الشّاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري التي أحبّها العراقيّون جميعاً لأنها كانت تمّيزه عن جميع الشّعراء، والتي وكانوا يرونها وكأنها تاج الشّعر العربي يحمله على رأسه!.

وأخيراً وليس آخراً كان أخي الأعزّ، الأديب الرّقيق عبد اللطيف مَحمّد خطّابي ذكّرني خلال أحاديث شيّقة لنا عن هذه القبعة العجيبة ونبّهني إلى أنّنا كثيراً ما شاهدنا، ودغدغت لواعجنا، وحرّكت فضولنا، ومتّعت أنظارنا بل وأغرت فضولنا هذه القبّعة الكولومبية- البنمية- الاكاتورية الفريدة وهي تتربّع مُتوّجةً على رأس سيّد المُبدعين، وشيخ الرّوائيّين الكولومبييّن غابريّيل غارسّيا مركيز الذي طالما تباهى بها فى مختلف المناسبات كقبّعة كولومبية جميلة نسجتها أنامل صبايا وغواني، وحَسْنوَات قريته الأسطورية اراكاتكا أو ماكوندو كما خلّدها في رواته المطوّلة الخالدة (مائة سنة من العزلة) في ربوع  بلاده الجميلة، هؤلاء الصّبايا الحسنوات اللاّئي لا تخطئهنّ العينُ أبداً فى كلِّ صُقعٍ من أصقاع هذا البلد السّاحر، والآسر وهنّ يترنّحنَ، ويتمايلن في حقول البوادي والمداشر الجميلة  أو وهنّ يَذرعنَ، ويقطعنَ شوارعَ، وأزقّةَ، ودروبَ،وساحات، وميادين حواضر ومدن بوغوتا، وميدييّن، وبرّانكييّا، وكارتاخينا دي إندياس فى دلالٍ، وجلالٍ، وغنَجٍ ورقّةٍ  بجمالهنّ الظاهر، وحُسنهنّ الباهر. بقي أن أقول للصديق الكريم “صدّيق” وللأخ العزيز “عبد اللطيف”: (شَابُو chapeau) إذ هما اللذان أثارا بألمعيّةٍ فائقة الحديث عن هذا الموضوع  المُثير والطريف .

شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *