البروباغاندا الروسية ضد أوكرانيا أو الحرب الناعمة (1-2)
د. خالد العزي
كل الأنظار باتت تتجه نحو الحدث الأوكراني، حيث باتت السيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات، بعد إعلان الرئيس بوتين، بتاريخ 21 فبراير – شباط الحالي، ضم الدونباس بجمهورتي لوغانسك ودونيتسك إلى روسيا الاتحادية، مما دفع الدول الغربية لفرض عقوبات أطلت طلائعها من كل دولة ومدينة، في محاولة لتأديب سلوك روسيا. ويبدو أن الجميع، باستثناء موسكو وكييف، ينتظرون غزو الاتحاد الروسي من يوم لآخر، فالحرب تقرع طبولها والدبلوماسية لا تزال مطلوبة للجميع.
أصبح معلوما للجميع، أن موسكو تشن حربا إعلامية نفسية ضد كييف، وتحاول إرباك خطوات القادة العالمين لجهة المناورات، التي باتت تمارسها في إطلاق بيان بأنها بدأت بترحيل جنودها بعد التدريبات. في الوقت الذي لم يرصد خروج هذه القوات، بل بالعكس جرى استقدام قوات ومعدات جديدة.
تحاول روسيا ممارسة السيناريوهات القديمة ذاتها في الحرب النفسية والإعلامية، لشن العملية التي لا تزال تفكر بها، بعد قبول الدبلوماسية الروسية بالوصول الى تفاهم مع الناتو، بشأن المطالب المطروحة بالوقت الذي ترحب الدول الغربية باستمرار الحوار الدبلوماسي.
لكن اندلاع الاشتباكات الأخيرة بين الانفصاليين والجيش الأوكراني بعد 18 فبراير الحالي، أضحت السيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات، وتوجهت الأنظار إلى احتمالات يتطور فيها الصراع العسكري بين أوكرانيا وروسيا. ويترقب العالم الغربي بالتحديد مآلات هذا الصراع، وتزداد الاجتهادات بشأن ما سيكون عليه موقف الدول الغربية والاتحاد الأوروبي وبعض دول أوروبا الشرقية، التي كانت في السابق جزءاً من حلف وراسو، و وفي دائرة مصالح الاتحاد السوفياتي السابق بحال اندلع النزاع المسلح. لكن كل المعطيات تشير إلى أن العاصفة الإعلامية التي تقودها مؤسسات إعلامية غربية ضخمة على المقلب الثاني، تشعرك وكأنها هي التي تقود هذه الحرب، وهي التي تضع لها سيناريوهاتها وتحدد مساراتها ونتائجها، وتستند بالأساس إلى مجموعة معطيات تقول بأنَّ الموقف الغربي سيكون صلبا وجادا هذه المرة، فيما لو قامت روسيا بأية خطوة غير محسوبة. وأعظم الرد سيكون اعتماد سياسة العقوبات القاسية التي تعتقد أوساط أنها ستجبر روسيا على التفكير الجاد بعد القيام بأية “حماقة” حسب التوصيف الغربي، دون دراسة أثر هذه العقوبات على شركاء روسيا في الغرب والشرق.
فالحرب الإعلامية النفسية في الألفية الثالثة أضحت ضرورية كجزء من إستراتيجية إدارة الأزمات، ولا بد أن تبنى على أساس المصالح المتبادلة بين الدول. لذا تعتبر وسائل الإعلام من أهم الأدوات التي تنجح أهداف الحرب النفسية وقت الأزمات، ولكن أمامها مهمة ثقيلة بألا تخسر ثقة الجمهور، حتى وإن نجحت في إدارة الأزمة، كما أن على الجمهور أن يدرك أهمية دعمه لإدارة الأزمة في مجتمعه، فالشعوب لا تنفصل في دعمها عن الجيش في حال الأزمات.
من خلال دراستنا الإعلام في الاتحاد السوفياتي، وتحديدا في جامعة بطرسبورغ الحكومية التي تقع في دولة روسيا الاتحادية، كانت روسيا وريثة التدريس السوفياتي، حيث يعتبر الإعلام مادة دعائية تدرس لبث الايديولوجية الماركسية، ولتأتي روسيا لمتابعة نفس النهج التدريسي في العمل على صناعة رأي عام جماهيري، بعيد كل البعد عن الإيديولوجية الشيوعية، بل التوجه نحو ترسيخ مفهوم الامبراطورية الروسية الجديدة، التي تآمر عليها الجميع، وقد تم تآمرهم على روسيا السوفياتية، وبالتالي لا يمكن تعلم الإعلام في روسيا، بل تعلم البروباغندا المنظمة. وهذا ما تفهمه كل الدول المجاورة بما فيهم الساسة الأوكرانيين.
إذن تشكل وسائل الإعلام إحدى أهم المصادر البارزة لصناعة الوعي الفردي والجماعي، ومنفذ ومصدر مهم لإدراك الأحداث والوقائع السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وقد دخلت في عمليات الحرب النفسية منذ بدايات القرن 20، لكن هذه العمليات تطورت مع انتشار وسائل الاعلام التكنولوجية الحديثة وخاصة، بعد ربطها بالشبكات العنكبوتية من القرن 21 ، مما سمح لتطور وانتشار حملات الإعلام الرقمي ذات الانتشار الواسع.
لقد نجحت الدول في تحقيق أهدافها بدون النزول إلى الأرض أو تعريض جنودها للخطر، ولكن في بعض الأوقات الأخرى تكون الحرب النفسية مقدمة للحرب العسكرية، مثلما وقع في العراق مثلا، فيتم إطلاق الترسانة الإعلامية، والعمل في الخفاء، لتعبيد الطريق للقوات المهاجمة بعد ذلك.
من هنا، فإن الحرب النفسية الاعلامية هي القوة الناعمة التي تعتمدها الدول بشكل عام، وروسيا بشكل خاص أكثر من القوة الصلبة العسكرية التي تحميها بالقوة العسكرية وتواكبها، بناء على وجود طرفين: “طرف موجة يروج للدعاية، ما من جهة، ومتلقين مستعدين لقبول التوجيه الإعلامي”. وهذا الإطار الذي مارسته آلية الحرب الاعلامية الروسية في إدارة المعركة الحالية ضد كييف، التي كانت تحميها الآلية العسكرية التي تواكبها الدبلوماسية الخشنة. وتعكس هذه الحقيقة لمقولة واضحة في هذا العصر الذي تتدفق فيه المعلومات من شتى المصادر الإعلامية، وفي ظل توفر الوسائل الإعلامية ومصادر المعلومات بغزارة لم يشهد لها العالم نظيرا قي تاريخه .
لذلك تعمل وسائل الإعلام والتواصل على إحداث الخلل والاضطراب في آلية عمل تلك الحلقات، بهدف إحداث التأخير في نمط عملها الدوري.
إن خلق بيئة محددة من القيم بواسطة الإعلام الروسي الموجه يعطي نتائج محددة من السلوكيات لتلك البيئة، التي يتم صناعتها بمساعدة من علوم البرمجيات اللغوية وعلم أعصاب الدماغ والباراسيكولوجي ومنجزات تكنولوجيا الإعلام والاتصال، التي بلغت ذروتها في العقدين الأخيرين للحقبة الروسية الجديدة عن طريقة إدارة الحروب النفسية. فالحرب النفسية هي حرب معنوية بالأساس، اختلف المتخصصون في مبناها اللغوي، فمنهم من يطلق عليها حرب العصابات والحرب الباردة، أو حرب الأفكار والحرب الدعائية. ولكنهم جميعا اتفقوا على معناها، بأنها شكل من أشكال الصراع الذي يهدف للتأثير على الخصم، وإضعاف معنوياته وتوجيه فكره وعقيدته وآرائه، وإحلال أفكار أخرى مكانها تكون في خدمة الطرف الذي يشن الحرب النفسية. إذا، فهي حرب لا يمكن مواجهتها الند للند لأنّها تدور في الظلام وخلف الستار، وتتغلغل بدون لفت الأنظار أو إحداث أي ضجيج.
لقد كان أول ظهور لهذا المصطلح: “الحرب النفسية والدعائية ” يعرف بشكل رسمي على يد الكاتب الأمريكي بول لينبارجر عام 1954، في كتابه “الحرب النفسية”، حيث يقول إنها الاستخدام المنظم للدعاية والتدابير الإعلامية المقاربة بهدف التأثير في آراء وعواطف فئات الأجانب في البلدان المعادية، من أجل تحقيق أهداف السياسة القومية أو الأهداف العسكرية. بينما تعرّفها وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” بأنها استخدام مخطط من جانب دولة أو مجموعة من الدول للدعاية وغيرها من الإجراءات الإعلامية التي تستهدف جماعات معادية أو محايدة أو صديقة، بغية التأثير على آرائها واتجاهاتها وسلوكها بطريقة تساعد الدول المستخدمة لهذا المخطط على تحقيق سياساتها وأهدافها ومصالحها، ويمكن القول كتعريف إجرائي بأنها حملة شاملة تُستعمل فيها كل الأدوات المستطاعة وكل الأجهزة للتأثير في عقول جماعة محددة بهدف تهديم قناعات معينة، وإحلال أخرى في مكانها تتماشى مع مصالح الطرف الذي يشن الحملة.
إذن ساحة الحرب الناعمة، ينبغي أن تكون أمام الجمهور العام الذي يجب أن يدرك أهمية المعلومات والأخبار، ومن أين يستقون هذه المعلومات والأخبار، وكذلك التحليلات السياسية، الموجهة وضرورة ” فلترة ” كل ما ينشر في وسائل الإعلام، لأن الدول وأجهزة المخابرات المعادية تعتمد بنسبة كبيرة لتسويق مشاريعها السياسية والثقافية، وحتى العسكرية، على ضخ معلومات وسيناريوهات وحروب نفسية ودعايات مغرضة وتضخيم شخصيات فارغة وتصغير شخصيات كبرى، وتعتم كذلك على إشاعة قيم فاسدة تحت عنوان الخوف والمؤامرة والتهديد الامني والقومي والتطرف. وكلها أكاذيب خادعة ثبت ضلالها على مدى السنوات الـ20 الماضية من وضع إستراتيجية بوتين في إدارة الدولة لإعادة أمجاد القيصرية التي انهارت، حيث تم إعادة وترميم وسائل الإعلام والعمل بكثافة لا نظير لها، من خلال تأمين الخدمة المطلوبة عبر شن الحرب النفسية الدعائية وصولا لتحقيق الغاية التي تبرر الوسيلة.
لذلك بات توجه الحرب النفسية التي تعتبر هي أحدث أسلحة الحرب ضد الفكر والعقيدة والثقة كسلاح بيد الدول الكبرى التي توفره في خدمة مشاريعها ومصالها.
لقد أدركت روسيا في حربها مع الغرب (الناتو – امريكا -أوكرانيا)، بأنها خسرت الحرب ضد أوكرانيا بسبب الحملة الغربية التي أدت إلى إحباط مخططها، ولذلك استعملت حرباً إعلامية ورد بها مصطلحات مثل “حروب نظيفة” أو “حروب ضرورية”، لإخفاء مصالحها، أو لإلحاق وصف “الإرهابي” بالعدو وشرعنة حربها، مما دفع بوتين للحديث عن غلط تاريخي يتحمله ستالين ولينين، بوجود أوكرانيا. أوكرانيا لا وجود لها في التاريخ، ولا توجد لغة أوكرانية. الاضطهاد العرقي الذي سوف يتعرض له سكان الدونباس لأن ذنبهم الوحيد يتكلمون الروسية، وكذلك بأن هذا النظام المعادي لروسيا سوف يبني دولة قومية اوكرانية متعصبة.