الإصلاح الإداري أو ما قبل الإداري؟
في غالب الأحيان، في زحمة الوقت، وثقة في وسائل الإعلام، قد لا ننتبه لمدلول بعض الكلمات ولمحتواها الفعلي والعملي. كنموذج لهذه الحالة ما نسمعه، في كل مناسبة وبدونها، عن “الإصلاح الإداري”. والحال أن إطلاق الكلمة بهذه الصيغة يفترض أننا نتوفر على إدارة مهنية فاعلة وأن تلك الإدارة تحتاج فقط إلى بعض الرتوشات ليس إلا. طبعا هذا الاعتقاد السخي مغلوط من أساسه لأن الأمر أعقد مما نتصور. فنحن لا نتوفر على إدارة بالمواصفات المعروفة عند أهل الاختصاص مادامت تنخرها أعطاب تعود لعصر ما قبل الإدارة. بل إن اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي أوصت في تقريرها النهائي (أبريل 2021) بتجديد الجهاز الإداري من حيث الكفاءات وأساليب العمل والاستفادة إلى أقصى حد من الرافعة الرقمية.
في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، تابعنا مع الدكتور عبد الله ساعف، طيلة سنة جامعية كاملة، وكان ما زال لم يصبح بعد وزيرا للتربية الوطنية، درسا حول البيروقراطية في إطار مادة تسمى “المشاكل السياسية الكبرى”. خصص ذ. عبد الله ساعف ذلك الدرس للحديث عن مفهوم كلمة بيروقراطية منذ ظهورها أول مرة على يد الاقتصادي فانسان دو كورناي سنة 1745، ثم خلص للحديث عن الظاهرة خاصة في الواقع الاشتراكي. وكان بود ذ.ساعف أن نستكمل التكوين بالتطرق إلى ذات الظاهرة في العالم الرأسمالي، بيد أن السنة الجامعية انتهت دون أن يسعفه الوقت. وقد استخلصنا من الدرس، وقتها، أن هناك اختلافا واضحا بين المدلول الضيق للكلمة وما التصق بها، عبر الصيرورة التاريخية، من حمولات سلبية. والحال أن الكلمة عند العالم الألماني ماكس فيبر، الذي عرف بأبحاثه المتقدمة في هذا المجال، هي مجرد مفهوم تقني يشير إلى نموذج عقلاني في التسيير، حيث يقول هذا المفكر: “ليس هناك إلا اختيار واحد في مجال الإدارة: البيروقراطية أو الهواية”.
وإذن فإن المدلول الأصلي للكلمة واضح: فلتتوفر في دولة معينة إدارة مهنية يجب أن تؤسس لها بنية من القوانين تنظم الاختصاصات، والوظائف، والهيكلة الإدارية، ومسار الموظف، وترتيب المسؤوليات والفصل التام بين الوظيفة والشخص. نظريا تتوفر الإدارة المغربية، الموروثة عن الحماية الفرنسية، على مثل هذه الترسانة وأكثر، ولكن السؤال: ماذا على مستوى التطبيق؟ وهنا مربط الفرس.
كثير من المغاربة كونوا صورة سلبية عن الإدارة المغربية بسبب ما عانوه منها ومعها. وتنقل لنا الصحف يوميا نماذج عن نوعية هذا التعامل غير المستساغ، كما تقدمه القنوات التلفزية على شكل وقائع وشكاوى تؤثث بعض برامجها المباشرة. حتى إن غالبية من المواطنين اليوم لا تقصد مكاتب الإدارة إلا في حالة الضرورة القصوى. وتبدأ خيبة المواطن في علاقته بالإدارة المغربية أول ما تبدأ من مسألة الدوام. ورغم أن هذا الدوام مؤطر بقوانين واضحة، فإن المواطن لن يجد، في الغالب الأعم، موظفا في مكتبه على الساعة الثامنة والنصف صباحا. وحتى إن وجده فيلزمه أن ينتظر بعض الوقت حتى يفرغ من شرب القهوة وتبادل بعض القفشات مع زميلته وربما تدخين سيجارة أو سيجارتين قبلما يكون جاهزا. وإذا تعلق الأمر بموظفة فعليه أن ينتظرها حتى تنتهي من طقوس السلام والتحايا وهو ما قد يأخذ زمنا ليس باليسير. وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن الإدارة المغربية اعتمدت نظام التوقيت المستمر منذ سنة 1985، خدمة للمواطن، فإن تطبيقه جاء بنتيجة عكسية بعدما انحرف عن مساره وأصبح دواما متقطعا ضائعا بين الغدو والرواح ووجبة الغداء الممتدة ووسائل التنقل. ويرتبط بعطب التوقيت الإداري هذا عطب آخر قد لا يقل عنه أهمية، كان أستاذنا المرحوم الدكتور رشدي فكار، يسميه “تداعي الفراغ”. ومعناه أن موظفا أو موظفة حينما يترك مكانه فارغا، لسبب ما، يدفع ذلك لا شعوريا الموظفين المجاورين له إلى مغادرة أمكنتهم. هكذا يحدث التداعي كعامل نفسي يصدق فيه ما يصدق على الجسد حينما يشتكي فيه عضو يتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. والمثال الصارخ هنا هو ما حصل لكثير من المواطنين حينما ترددوا على مندوبية من المندوبيات الكائنة بمدينتهم وفوجئوا بأنها فارغة إلا من كاتبة تحرس الكراسي. ويتكرر الأمر ويستمر الفراغ دون أن يتحرك المسؤولون المركزيون لوقف النزيف وإعمال القانون.
وإذا كنا لم نحسم بعد، ومنذ عقود طويلة، في مسألة جد بسيطة وبديهية هي احترام التوقيت الإداري، وإجبار الموظفين على الجلوس في كراسيهم، فكيف يجوز أن نتشدق بأننا قادرون على تطبيق “إصلاح إداري”. هل قطعنا الواد ونشفت أرجلنا؟ والحال أننا هنا نطرح مجرد جزئيات ولم ندخل بعد إلى لب المشكل والذي يشمل التواصل، والتقييم، والتقويم، وعقلنة المساطر وجودة الأداء وترشيد النفقات.
مثل هذه الأساسيات حسمت منذ سنين طويلة في البلدان الأوروبية حيث الإدارة هناك على صورة المجتمع من حيث الدقة والفعالية واحترام التوقيت وخدمة الصالح العام. بل إن معنى الحداثة في هذه المجتمعات أخذ معناه من عنصرين أساسيين هما : احترام الوقت واحترام القانون. ومعلوم أنه يستحيل على دولة ما أن تنخرط في أي حداثة ممكنة بدون احترام لهذين العنصرين. وهكذا لا يمكن أن يتصور أحد أن يذهب مواطن إلى إدارة فرنسية مثلا في الثامنة والنصف صباحا ولا يجد الموظفين في مكاتبهم. كما لا يمكن أن نتصور موظفا في إدارة إنجليزية أو ألمانية يقول لمواطن جاء لاستفساره عن شيء: “لا أعرف، انتظر حتى يحضر رئيس المصلحة”.
ولو أردنا الغوص في الأعطاب الأخرى لوقفنا مثلا عند موضوع الأشباح، وتساءلنا كيف تعتبر الدولة موظفا ما شبحا وهي تقدم له أجرا شهريا وله رقم تأجير. وعدا الأشباح هناك فئة شبه الأشباح من نوع ما اعتبره محمد زفزاف “الثعلب الذي يظهر ويختفي”. فضلا عن فئة أخرى من المتمارضين المزمنين، وناقصي الكفاءة والأذرع المكسرة.
أما إذا انتقلنا إلى دراسة بنيان المؤسسات الإدارية فسنلاحظ التضخم السرطاني الذي أصاب ذلك البنيان، والذي لا يستند إلى أي أساس علمي. حدث هذا التضخم بصفة تدريجية منذ بداية الاستقلال إلى الآن. هكذا وجدنا أن وحدات صغيرة تحولت، بقدرة قادر، إلى مكاتب، فمصالح، فأقسام، فمديريات، فمديريات عامة، وهلم جرا بلا أي مغزى. المغزى الوحيد يكمن عند المستفيدين المباشرين والمتمثل في التعويضات الممنوحة للمشرفين على كل وحدة من هذه الوحدات الشكلية.
هذه فقط بعض المثالب، لا يسمح الحيز بالتطرق إليها جميعها. وقد نشير منها مثلا إلى إهمال الاستقبال داخل الإدارات، وحتى إن وجد فقد تخصص له موظفة مغضوب عليها وعلى أبواب التقاعد تنفر أكثر مما تستقطب، وهو ما لا يجوز في إدارة أجنبية حيث تحظى واجهة الاستقبال ببالغ العناية لما تعكسه من صورة إيجابية عن المؤسسة. كما يشكل موضوع الأرشيف النقطة السوداء في تاريخ الإدارة المغربية التي تعتبر الأرشيف، حتى الآن، مخزنا أرضيا لإقبار الملفات القديمة.
ويبقى السؤال المؤرق: هل تجاوزت الإدارة المغربية مستوى الهواية؟ هل تجاوزت عهد ما قبل الإدارة؟