الاحتفالية: المسرح في العالم والعوالم في المسرح

الاحتفالية: المسرح في العالم والعوالم في المسرح
 
د. عبد الكريم برشيد
 
فاتحة الكلام
     يقول دمحمد الوادي، والذي هو أحد الذين اسسوا هذه الاحتفالية، وناضلوا من أجل حقها في الوجود المختلف َالمخالف وذلك عبر عقود طويلة جدا، يقول في احد تعليقاته على ما تكتبه الاحتفالية المتجددة هذه الأيام:
(ستبقى الاحتفالية صوتا مميزا سدا منيعا، وحقيقة في وجه الزيف والمزيفين، لهذا فهيمستهدفة، ولكنها لا تخاف من الظلال ومن الأشباح ومن النسخ لأنها الأصل، والذين يتشذقون بالحداثة وما بعدها وبالحساسية الجديدة وما بعدها، إنما هم مجرد صدى لا تعيرهم الأحتفالية أية أهمية،
   دمت سيدي عبد الكريم مبدعا وإنسانا وناقدا ومنظرا ومفكرا أراد الأعداء أو كرهوا ، والتاريخ والرصيد حكم)
 والذين خاصموا الاحتفالية، بنية حسنة او سيئة، اعتقدوا انهم فقط يخاصمون أشخاصا معينين، يقتسمون معهم نفس الأرض ونفس السماء ونفس الهواء، وفاتهم ان يعرفوا انهم إنما يخاصمون العقل المفكر، والذي انتج الاحتفالية، والذي يمكن ان ينتج غيرها
   ولعل أهم ما يميز نظام التفكير المغربي – العربي – ان كان هناك فعلا شيء يمكن أن يكون نظاما – هو اهتمامه اكثر بالهامش وبالحواشي وبالعرضي وبالثانوي وبالعابر وبالجزئيات وبالشكليات وبالأحكام وبالديهيات وبالمسلمات وبالأجوبة ألجأهزة، وايضا، بوجود نقص كبير في نسبة الصدق والمصداقية الموضوعية وبالجرأة العلمية، كما يتميز هذا (النظام) بالخوف من التجريب، والخوف من المخاطرة في العلم والفن والفكر.
   كما أن هذا (النظام) أو اللانظام، يكتفى دائمابالشائعات وبالاتهامات وبالانغلاق على الذات، وبعدم الثقة بالنفس، وبإعطاء الآخر هناك، في الزمن الآخر وفي المكان الآخر، أكثر من حجمه ومن قيمته، وهو يدمن الهروب من الأسئلة الكبيرة والصعبة والمركبة، ويكتفي بالتأكيد على الأسئلة الصغيرة َوالسهلة والبسيطة، والتي قد لا يكون لها – أحيانا – أي معنى.
وهو بهذا يقنع بالكائن وبالموجود، وبانتظار ما يمكن أن يأتي غدا، أو في يوم من الأيام، بدل الذهاب إليه، والبحث عنه، وبدل آحضتره او استحضاره، وبدل تاسيسه أو إعادة تأسيسه.
والتأكيد دائما على النقل بدل العقل، وعلى الاقتباس بدل التاسيس، وعلى ترجمة المكتوب بدل كتابته كتابة حقيقية،
وهي في اشتغالها الفكري والجمالي وثنية الروح ووثتية الفكر والوجدان، من حيث تدري او لا تدري، وذلك في غيبتها وفي تقديسها للمجردات البعيدة، وفي تبعيتها للزعيم وللغيب والغائبين وللرئيس وللكاهن وللفقيه ولشيخ القبيلة أو شيخ الزاوية، وكل هذا في ظل التعلق بنظام الشيخ والمزيد، ونظام السيد والعبد، ونظام الأستاذ والتلميذ.
   وهذا النظام، أو اللانظام، ينطلق من أجساد ومن أرواحومن نفوس ومن عقول تقنع بالقليل من الأفكار ومن المعاني ومن (الغنائم) الفكرية والجمالية، وهي بها لا تطلب المزيد، ولا تقول (ربي زدني علما وفهما) ولها في اشتغالها الفكري والجمالي طموح متواضع ومحدود، ولهتزمطالب بسيطة جدا.
 
الاحتفالية الكتابة بالأقلام والكتابة بالأجساد
في كتاب (غابة الإشارات) يقول الاحتفالي التائه بين العلامات والإشارات:
(المعرفة لا أعرفها والحكمة ما حكمها؟
والعلم لا علم لي به
والفهم يصعب علي فهمه،
وإنني ـ مثل كثير من الناس ـ طالب علم وفهم
وذلك في مدرسة الأيام الابتدائية
وقد أكون مازلت في روضها وكـنّابها وأنا لا أدري).
    ولعل أصدق كل الأسئلة، في غابة الوجود، هو سؤال الوجود، وهو سؤال المعنى، أي ما معنى أن يوجد هذا الوجود، وما معنى أن يكون هذا الكون، وما معنى كل هذه الصور وهذه المشاهد وهذه الرموز وهذه العلامات وهذه الإشارات؟
ومن بين أخطر كل الأسئلة التي طرحها المسرحي الاحتفالي على نفسه هو سؤال (وما المسرح؟)
   وإحدى بوابات هذا المسرح هي بوابة الكتابة، ولكن فعل الكتابة هو أكبر وأخطر من الرسم على الورق، وفي معناه الحقيقي فهو الحفر في لوح الوجود، وفي لوح الحياة، وفي لوح التاريخ وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي (لم يكن من طموحي أبدا أن أكون مجرد مؤلف مسرحي فقط، يكتب الحوار، يرسم الشخصيات ويرتب المواقف.
   ولم يكن يهمني أن أصبح (صانعا) أمتلك أسرار صناعة المسرح، لأمد السوق بما يريد السوق.
   كما أنه لم يكن يهمني أيضا، أن أعبر عن رؤيتي لذاتي وللعالم من خلال جنس أدبي أو فني هو المسرح.
   إن اهتمامي بالمسرح هو اهتمام بما يعنيه المسرح، أي باعتبار أنه الصورة المصغرة والمكثفة والحقيقية لهذا الوجود، من هنا، كان بناء المسرح عندي ـ وما يزال ـ لا ينفصل أبدا عن بناء هذا العالم، أو إعادة بنائه من جديد.
   إن الاحتفالية ليست شكلا متميزا في المسرح، وإنما هي قبل ذلك أسلوب للعيش، إنها محاولة لتفسير هذا الوجود وتغييره في نفس الوقت)
  وأنا المواطن، في الأوطان الإنسانية والمدنية الحية، ماذا يمكن أن أكون؟ وما هو دوري في مسرحية الوجود، التي أصدق كل المسرحيات وأغرب كل المسرحيات؟
  فأنا أساسا حياة وحيوية، وما يهمه أكثر هو هذه الحياة الأم، وهو صورة الحياة، ويهمه هذا الوجود أيضا، في كائنه وممكنه ومستحيله، وتهمه صورة هذا الوجود، كما يمكن أن تتبدى في عين الشاعر وفي عين الساحر ةفي روح الصوفي، ويهمه التاريخ ومستقبل الإنسان ومستقبل الإنسانية، وما يهني أكثر في الناس، هو طبيعة العلاقات بينهم، والتي ينبغي أن تكون إنسانية ومدنية وصادقة ودميلة ونبيلة وعاقلة ومنطقية.
   ولو كانت هذه الاحتفالية مجرد صناعة في المسرح، لتعلمتها وأتقنتها في عشر سنوات على أكبر تقدير، ولما أخذت مني كل حياتي وكل عمري.
   غرابة هذا العالم، أو العوالم المدهش أدهشني، وعجائبية كثير من المخلوقات فيه استفزتني، ولقد سألت، ماذا يكون هذا العالم الساحر والساخر، فقالوا لي هو مسرح بسعة الوجود وبسعة الحياة وبسعة التاريخ، ،مسرح هو ولكن/بلا بناية مغلقة، وبلا خشبة عالية، وبلا جدران ثلاثة أو أربعة،وبلا ستارات ولا كواليس، ولكن به أجساد وأرواح، وبه أمكنة وفضاءات، وبه وجوه عارية قليلة، وبه أقنعة كثرة جدا، أقنعة صادقة وناطقة يفوق عددها عددا كل الوجوه، الموجودة فيالكون، وفي هذا المسرح العالم يمكن أن نقبض أجمل الأيام سحرية وسخريو، والذي هو يوم الاحتفال والعيد، والذي يمكن أن نعيش فيه كثيرا من اللحظات ومن الساعات ومن الحالات الصادقة والشفافة.
   وفي مدخل كتاب (التيار الاحتفالي في المسرح العربي الحديث) والذي طبعه الهيئة العربية للمسرح، يقول الاحتفالي (بالنسبة لظهور هذه الاحتفالية، موضوع وروح هذه المقدمة ــ الكتاب، وذلك في زمن معين، هو أواسط السبعينات تحديدا، وفي مكان خاص هو المملكة المغربية، وفي سياق فكري وسياسي محدد، وفي مناخ دولي متوتر سياسيا وأيديولوجيا، كيف يمكن أن نقرأ هذا الظهور؟
  وهل هو ظهور سحري مفاجئ، غير طبيعي وغير اقعي وغير تاريخي، جاء بلا حيثيات وبلا مقدمات وبلا مسببات وبلا سياقات؟
  وماذا يمكن أن نقول عنه اليوم، بعد أن فقدت صدمة الظهور شيئا من عنفها ومن حدتها ومن قوتها ومن دهشتها؟
 وهل يتعلق الأمر بولادة حركة فكرية وجمالية طبيعة، وذلك في ظروف وشروط تاريخية طبيعية؟
 وماذا يمكن أن تكون هذه الاحتفالية، في معناها الحقيقي، وفي ظاهرها وخفيها، وفي معناها الظاهر والخفي معا؟
هل هي فعلا رؤية جديدة ومجددة؛ وذلك للحياة وللواقع والتاريخ وللآداب والعلوم وللفنون والصناعات وللبنيات والمؤسسات وللعلاقات الإنسانية؟
أم إنها مجرد فكرة من الأفكار، فكرة ميزتها الأساسية أنها مختلفة ومخالفة، وأنها
جريئة وعنيفة ومشاغبة؟)
 
عالم ما تحت الشمس وعالم ما فوق الشمس
   و(تؤكد هذه الاحتفالية ـ في منطلقا النظري ـ على أنه على أنه لا جديد تحت الشمس، وأن الجديد الحقيقي كله يمكن أن يكون موجودا في عالم ما وراء الشمس، أي في المتخيل الإبداعي وفي التصور الحلمي وفي المعتقد الأسطوري.
  وهل هذه الاحتفالية، في معناها الحقيقي، هي فقط حلم حالمين، كما تردد كثيرا في البيانات الاحتفالية ومن الكتابات التنظيرية؟
  وكيف أمكن لهذا الحلم الجماعي أن يرقى ليصبح ثورة علمية وفكرية جمالية حقيقية وذلك في الزمن التاريخي الحقيقي؟
  إن الاحتفالية إذن، قد تكون جديدة، لارتباطها العضوي بهذا الزمن الجديد، ولكن فعل الاحتفال غير جديد، ووجوده مرتبط بوجود الإنسان، وبتاريخ الإنسان، وبهذا فهو في الأصل روح الوجود وروح الموجودات الإنسانة الحية والعاقلة والفاعلة والمتفاعلة والمنفعلة في الحياة.
  وهذه الاحتفالية، تنطلق أساسا من العيد، ومن فعل التعييد، والأصل في هذا العيد هو يوم من الأيام،/ أو هو سلطان كل الأيام، لأنه يوم استثنائي، وكما يقول الاحتفاليون، في أدبياتهم، فإن هذا اليوم موجود، وهو قديم وجديد ومتجدد بتجدد الحالات والمقامات في حياة الناس، وهو العنوان المادي والمحسوس على حيوية لناس الأحياء، وعلى تفاعلهم مع الواقع والوقائع الحية، ولكن هذه الرؤية الاحتفالية والعيدية، بحسب الاحتفاليين، قد يصيبها العطب، في مرحلة معينة ما من التاريخ، وقد يصيبها شيء من العياء أو من الالتباس، وقد يلحقها شيء من الغموض، أو من عدم الفهم، أو من النوم أو من النسيان أو من التناسي أو من التكر، أو من الموت المؤقت، الشي الذي قد يستوجب ظهور حركة فكرية وجمالية وأخلاقية جديدة في التاريخ والجغرافيا معا، حركة تعمل على إعادة الوعي أو إعادة الذاكرة أو إعادة الضوء أو إعادة الحياة والحيوية، لهذه الرؤية المنسية أو المقصية، إلى الحياة، والتي هي في الأصل رؤية عيدية واحتفالية توارت إلى الخلف، وذلك بحكم عوامل ذاتية وأخرى موضوعية كثيرة، وذلك في زمن الحروب، وفي زمن التحالفات، وفي زمن طغيان الرؤية المأتمية والظلامية والعبثية والفوضوية على المشهد الثقافي والجمالي العام، إن الأمر إذن، وبخلاف ما قد يظن البعض، لا يتعلق بإيجاد شيء من لعدم، ولكن فقط بعودة الوعي، وبمحاولة القبض على الأساسي والجوهري والحيوي في حياة الإنسان، والذي هو الرؤية العيدية الغنية بالصور وبالحالات الإنسانية الجميلة والنبيلة، ولقد تمت هذه العودة في المسرح العالمي، بشكل عام، وفي المسرح العربي بشكل خاص، وتحديدا في المسرح المغربي، وكان ذلك من خلال حركة مسرحية بطموح كبير وخطير، وقد تم هذا في أواسط السبعينات من القرن الماضي، وقد كان وراء هذا المشروع النهضوي جماعة من المثقفين المبدعين والمفكرين المشاغبين والمشاكسين، وقد كانوا كلهم من عشاق الحياة، ومن عشاق لجمال، ومن المؤمنين بالحرية، وبضرورة النضال الفكري والسياسي من أجل هذه الحرية، وقد حدث هذا في زمن الحرب البارجة، وفي زمن التقاطب الأيديولوجي بين غرب ليبرالي متفتح، وشرق سياسي منغلق على نفسه وعلى قناعاته الأيديولوجية، ولقد رفعوا شعارا فرضته المرحلة التاريخية، والذي هو شعار (تحرير الإنسان بالمسرح الحر، وتحرير هذا المسرح بالمواطن المدني الحر).
   إنني أنا الاحتفالي، عندما أستعرض تاريخي الشخصي، في صناعة الكتابة، أو أحاول أن ألاحق هذه الكتابة، في سرها وسحرها، وفي وجوهها وأقنعتها، وفي إسرائها ومعراجها، وذلك في سماء المتعالي والمتسامي وفي فضائها اللامتناهي، أجد أنني قد قطعت أشواطا كثيرة لحد الآن، وأجدها أشواطا واضحة وغامضة، وجميلة ومرعبة في نفس الآن، لقد بدأت بقلم القصب، وبالمداد الذي أصنعه بيدي بالصمغ، وقد كان ذلك في فضاء الكتاب، وعلى حصيره وأمام ألواحه الخشبية التي أبيضها وأسودها كل يوم، وأمام الفقيه الذي علمنا كيف نرسم الحروف، وكيف نركبها، وكيف نفهم معناها.
   وأن تكتب، كتابة صادقة وعالمة، في زمن الكتابة الصادقة، هو بالتأكيد شيء آخر غير أن تكتب في زمن الصورة وفي زمن التفرج، ولقد كان من حسن حظنا أننا ولدنا وتربينا في زمن الكتاب العباقرة الكبار.
Visited 5 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي