فرنسا والعنف الهيكلي

فرنسا والعنف الهيكلي

باريس- المعطي قبال

     لم تكد فرنسا تخرج من التخريب والحرائق والغازات المسيلة للدموع والاعتقالات بالجملة، وذلك على خلفية الاحتجاجات المناهضة لقانون التقاعد، حتى دخلت في عنف شمولي ومرشح للدوام، وذلك على إثر مقتل الشاب نائل بالمباشر برصاصة في القلب، على يد شرطي متحمس بل زائغ.

   في مثل هذه المناسبات، مثل ما عرفته فرنسا عام 2005 بعد مقتل شابين، عرت الضواحي عن بؤسها، تخلفها الثقافي والاجتماعي وتحولت حسب عبارة الكاتب لوي فيردينان سيلين إلى منشفة لأقدام باريس.

   هكذا ولمدة 5 أيام التهبت مدينة نانتير التي كانت في الماضي بؤرة لثورة مايو 68، لتلتحق بها تضامنا بقية الضواحي المجاورة والمدن الكبرى مثل روان، مارسيليا، ليون، تولوز الخ..، وبعض مدن الشمال. وقد عبر الشباب ابتداء من سن الحادية عشرة عن غضبهم إزاء الحيف، التهميش، تفشي العنصرية والإسلاموفوبيا. ودخلت على الخط شخصيات تنتمي إلى عالم الفن، الرياضة، للمطالبة بالاعتراف بكفاءات شباب الضواحي وطاقاتهم الخلاقة.

   غير أن مثار الغضب الأكبر مرده إلى العنف البوليسي الذي أصبح في نظر الكثيرين سلوكا عاديا بل مبتذلا. هذا مع العلم أن المسؤولين عن هذه التصرفات لا تطالهم أية عدالة ولا اية ملاحقة قضائية. هكذا أصبح “العنف البوليسي” نقطة التمحور الأساسية التي تدور من حولها الاحتجاجات والمطالبات ملحة على إعادة النظر في الجهاز البوليسي المقرب من اليمين المتطرف. غير أن المشكل، ومع اتساع رقعة الاحتجاجات التي يصاحبها إحراق الحافلات، تخريب المدارس والمنشئات العمومية (492 في المجموع)، هو دخول اليمين المتطرف على الخط لتأجيج النيران والدفع بالحكومة إلى الإعلان عن حالة الطوارئ. وقد بدأ بعض المسؤولين السياسيين في التنديد باستغلال وتسخير بعض الحركات لوفاة الشاب نائل.

   وللرد على هذا الانفلات، جندت الحكومة 45000 شرطي ودركي. في باريس وحدها بلغ عدد المجندين 5000 بوليسي، كما أصدرت الأوامر لإيقاف مصلحة الترامواي والحافلات ابتداء من التاسعة ليلا. من بين انعكاسات هذا الوضع هو تقليص ماكرون لمشاركته في اجتماع المجلس الأوروبي المنعقد ببروكسيل، والتحاقه فورا بباريس ثم إلغاؤه لزيارة كان من المقرر أن يقوم بها لألمانيا لمدة ثلاثة أيام.

   علاوة على احتجاجات العنف المادية، وجدت السلطات الفرنسية نفسها أمام تحدي غير مرتقب، ألا وهو استعمال الشباب المتظاهر لمنصات التواصل الاجتماعي، وبالأخص لمنصتي سنابشات وتيك توك، التي هي بمثابة سلاح ينظم بموجبه المحتجون والمتظاهرون تحركاتهم داخل المدن وفيما بينهم. هذا الوضع دفع بالعديد من المسؤولين، وعلى رأسهم وزير العدل، إلى المطالبة بحظر هذه المنصات التي لا تفتأ تشعل فتيل الاحتجاجات في الضواحي. وأشار إيريك ديبون موريتي: “سنبحث عن اولئك الذين يتخفون وراء هواتفهم”. تحدث بعض المحللين عن الشبه بين هذه الانتفاضة (فيما ينعتها البعض الآخر بأعمال شغب)، وحركة Black Lives Matter، في الجانب الذي يهم “استوحاش” قوات الأمن من دون أي رادع من طرف القضاء أو العدالة.

   على أي أصبح العنف أحد المكونات الرئيسية للمجتمع الفرنسي. عنف الخطاب السياسي والاجتماعي وعنف المراس اليومي ويتطلب لعلاجه حلولا هيكلية وعلى رأسها الاعتراف الكامل بشباب الضواحي وإلا قد يتجدد اندلاع الحريق بعد إخماده لفترة وجيزة.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".