غاستون باشلار وكارل بوبر: الابستمولوجيا والبيداغوجيا (2-3)

  غاستون باشلار وكارل بوبر: الابستمولوجيا والبيداغوجيا (2-3)

  ترجمة: سعيد بوخليط              

     – 10 بدل اهتمام النموذج الديكارتي بعقل تأسيسي، طرح باشلار عقلا تصوره قوة معارضة واحتجاجية، نحو الحس المشترك،عقل يتجلى ويتبلور فقط من خلال مجهود القطيعة. من هنا، تنبعث الكلمة التي نعرفها دائما بـ”ضد”: “تتأتى لنا معرفة ضد تجربة سابقة، بتقويض معارف سيئة التوضيب، بتجاوزنا داخل نفس الفكر لما يجسِّد عائقا أمام ارتقائه الروحي”(باشلار 1999، ص 14). خطأ العقلانية الكلاسيكية، في نهاية المطاف، عدم فهمها لمفارقة، أنَّ الرأي كنقيض للعقل، يعتبر أيضا ضروريا له. إذا ”شكَّلت العوائق مكوِّنا ضمن جوانب المعرفة” (باشلار، 2004، ص 15)، فلأنَّ العقل ديناميكي، سيرورة وليس حالة، بحيث لاتشتغل العقلانية سوى بنفي نقيضها. مثلا الذرة ”بمثابة حصيلة انتقادات لحقت صورتها الأولى” (باشلار 2002،ص 139). يتعلق الأمر، على منوال كل موضوع علمي، بموضوع فكري (”النومين”) وليس قط تجريبي- يتأسس ”فوق الموضوع” مثلما يقول باشلار- انطلاقا من نفي الموضوع الظاهراتي الأول: ”يعكس مافوق الموضوع  لا صورة بكيفية دقيقة جدا، إبَّان علاقاته مع الصور. الحدوس مفيدة جدا: تفسح المجال أمام إمكانية تدميرها” (ص 138- 140). بالتالي، هذا الجدل العميق بين التحليل النفسي  والمنطقي، الرأي والعقلانية، الصورة والمفهوم، الذي حظي دائما باهتمام باشلار: كي يتأتى للعلم التحقُّق، يلزم على نحو مفارق أن يسبقه نقيضه، ثم ”البدء ثانية” دون  قط ضرورة أو إمكانية ”أن يبدأ”. بالتأكيد، تضمر الفكرة نتائج تربوية جوهرية: يترتب عنها انتفاء وجود منفذ ممكن للتلميذ صوب العقلانية، بغير توفر قدرة نضاله ضد أفكاره الخاطئة والساذجة أصلا (“تمثلاته” مثلما يقول التربويون)، علما بأنه صراع غير مرتبط بلحظة  سابقة عن وعي المعرفة بل يتزامن كليا معه. إذن، ينبغي لكل ممارسة تربوية جيدة عدم”وضعها” التلميذ مباشرة ضمن إطار منطق المعارف: ”بلورة نزعة نفسانية قصد محوه، هكذا يتجلى مسعى أساسي نحو تحقق وعي العقلانية” (باشلار2004، ص 13- 14). تشكِّل أساسا كل معرفة عقلانية، وكذا تمرين للفكر، إخضاعا متواصلا. غير أنَّ العقل، الذي يقتضي منا صراعا شاقَّا كي نفهم ونتعلم، وقبل تمكنه من الفهم والمعرفة، لايستند على كمال قدراتنا،مثلما تفترض العقلانية الكلاسيكية، بل على طبيعة المعرفة العلمية وعقلانيتها. تنزع الابستمولوجيا الباشلارية تماما، عبر وجهة نظر تربوية، صوب بيداغوجية المجهود، حيث الصعوبة بمثابة مكوِّن ضمني لمسار التعلّم (“بفضل الصعوبة يحدث الوعي بذاتنا الثقافية”، باشلار 2004، ص 215)، وفق سياق يستحضر مفاهيم إميل أوغست شارتيي المعروف بـ ”ألان”.

   11- أيضا تتحقق باستمرار لدى كارل بوبر معرفة بـ”ضد”، لكن ضد نظريات أخرى منافسة، وليس ضد تجربة سالفة أو تلك الاعتبارات المنبعثة دائما من الرأي. لاشيء أكثر إيحاء بهذا الخصوص سوى الطريقة التي قارب بها الفيلسوفان فعل الفهم الذهني: يحيل الفهم دائما بالنسبة لباشلار، على استيعاب إشكالية عدم الفهم، تجربة الفهم باعتبارها غير منفصلة عن تجلي الوعي بخصوص الانتصار على الفكر الساذج (”نتموضع فعليا داخل فلسفة العقلاني فقط إذا أمكننا حتما إلغاء أخطاء الفهم أو ما يشبه ذلك” باشلار2004 ، ص 77 ). أيضا، لايمكننا فهم شيء إذا لم يكن أولا ضمن الوهم و الخطأ. تغيب بكيفية دالة عند كارل بوبر، هذه الإحالة على أصالة وضعية اللا- فهم.يعتقد بوبر، بأنَّ استيعاب نظرية، يستدعي من جهة إدراك القضية المطروحة كإشكال؛ من جهة ثانية،فهم السبب الذي يجعل  خيار هذه النظرية متسيِّدا على مقترحات نظريات أخرى منافسة (بوبر 1991، ص 266- 280 ). لذلك، مثلا، لايتطلب فهم مركزية الشمس عند كوبرنيك، إدراك سبب انتصارها على مركزية الأرض حسب معطيات الرأي الساذج، لكن الإحاطة بأسباب تفوقها إشكاليا ونسبيا، فيما يتعلق بقضية تفسير الحركات الظاهرة للأجسام السماوية، وقياسا إلى نظريات النظام البطلمي وتيخو براهي، البعيدة كذلك عن الرأي مثل نظرية كوبرنيك. إذن، تتطلب سيرورة الفهم، تواصل النظرية مع القضية المطروحة وكذا نظريات أخرى منافسة، لكن ليس تجابه هذه النظرية مع الرأي الخاطئ. الفهم، بعبارة أخرى، ليس أن نفهم سبب عدم فهمنا، أو تبديد غشاوة الظلمات، لكن فقط إقامة علاقة، فضلا عن كونها إشكالية وتخمينية (لايقوم أبدا يقين يؤكد تحقق الفهم، ينتفي لدى بوبر مفهوم ”وعي عقلاني” بالمعنى الباشلاري للكلمة)، ”أفكار موضوعية” بين مضامين فكرية مختلفة تنتمي إلى ما يسميه بوبر بـ”العالم 3 ” (بوبر1991، ص 266 – 280 ). العلم مثلما توضحه إبستمولوجيا بوبر، ليس مجابهة ثنائية وشاملة بين العقل والرأي، لكن حوارا كليا بين النظري. يمكننا القول وفق هذا المعنى، سواء لإبداء الأسى أو الابتهاج، عدم انطواء فكر بوبر على بعد إصلاحي وتربوي للعلم. إنجاز العلم أو تدريسه، بحسبه، لايوجب الانطلاق من حملة ضد الأحكام المسبقة، السعي بكيفية ما إلى”إصلاح ذاتي كلي” كما يعتقد باشلار (باشلار 2002 ،ص 8 ) أو ”تحوُّل” للفكر(نفس المرجع): لكن المشاركة ”في بناء الكاتدرائيات”(بوبر 1991، ص 201 و287) وتشييد المعرفة ”الموضوعية”، وإن تعلق الأمر بتدريسها، فينبغي استحضار هندسة أجزائها القائمة سلفا. ترفض إبستمولوجيا بوبر دعم الفكرة (أو ”الأسطورة” وفق تعبير منتقديها)، المنحدرة من الأنوار وكذا وضعية أوغست كونت، بخصوص ميزة العلم التربوية، مقابل ذلك، سعت إبستمولوجيا باشلار نحو الاشتغال على تحيينها من خلال إثرائها بموجة قوة جديدة.

    12- جراء التعارض الذي وطده باشلار بين العلم والرأي المشترك، فقد اعتمد الانتقال نحو الفكر العلمي بتغيير عميق للمفاهيم التي وفقها تأمَّلت الذات العالم. لذلك، فالسمة الخاصة بالمفهوم العلمي حسب الابستمولوجي الفرنسي، تبيان ”إجرائيته” (باشلار1999، ص 61)، بمعنى ”إدراج شروط تطبيق المفهوم ضمن معنى المفهوم ذاته” (مثلا، تستند خصوبة نظرية النسبية في مجملها حسب باشلار إلى تحديد أينشتاين للتزامن وفق مفاهيم إجرائية: يمكن ملاحظة تزامن واقعتين تجريبيا في نفس الوقت). بخلاف المفهوم المبتذل، الذي يفترض سلفا وجود موضوعه، “يحقق” الموضوع العلمي منهجيا موضوعه، فيما يخص توضيح القواعد التي ينبغي اتباعها قصد بنائه تجريبيا، هذا الانقلاب في العلاقة مع الواقع (الانتقال من حقيقة معطاة نحو أخرى تمَّ تأسيسها) هي تحديدا خاصية المسار العلمي حسب باشلار.  

    13 – بخصوص هذه النقطة، يبدو كل شيء مرة أخرى، متباينا بين بوبر وباشلار. انتقد بوبر صراحة المفهوم ”الوظيفي” للتعريف المتبنى بكيفية مشتركة من طرف أينشتاين وباشلار: بدت له فكرة ضرورة تضمُّن القاعدة العلمية لتلك الإجراءات التي وفقها تؤسس الذات منهجيا موضوعها، مثل تجليات مفهوم ذاتي و”مثالي”للعلم، وكذا نسيان الغرابة المتبادلة بين الواقع والفكر. يقوم تصور إبستمولوجيا بوبر، الواقعية بكيفية لاتقبل الجدل، على أنَّ الموضوع العلمي، يستبق دائما المعرفة التي يلهمنا إياها، بحيث تعتبر حتما قاعدته غير دقيقة وتخمينية فقط، كما الشأن بالنسبة إلى المفاهيم المبتذلة (مما يفسر، حسب بوبر، ممارسة العلماء لعلوم”صارمة” يستعملون في أغلب الأحيان المفاهيم باستخفاف، دون الاهتمام كثيرا بدقتها، على النقيض من ذلك، فالانتباه المخلص للأسئلة التعريفية يعكس سمة علم لازال عند بداياته، كما نرى في بعض حقول العلوم الإنسانية). أيضا، مسألة ”تدقيق” التعريفات، وبعيدا عن منحاها لدى باشلار باعتبارها قيمة إبستيمية مطلقة، فلا يتطلع إليها  بوبر (1981، ص 40)، سوى بهدف تعزيز مايسميه بـ”وضوح” النظريات، بمعنى ثان، قدرتها على تداول مناقشتها علنيا. لذلك، حسب هذا المسار، بمجرد أن تكتسي اعتقاداتنا، خاصية موضوعية بين طيات لغة، حتى تصبح نظريات قابلة للنقد، يجعل منها بوبر مكمن جلّ خصوبة العلم،ثم ترتفع، نتيجة ذلك، عن سياق المعرفة المشتركة. إذن، لا يرتكز الانتقال إلى المعرفة العلمية، حسب وجهة النظر هاته، مثلما الحال بالنسبة إلى باشلار، على إصلاح مفاهيمنا، وتصوراتنا، وكذا إطاراتنا الذهنية. بل يتصوره بوبر مستندا كليا حول النزوع الموضوعي لاعتقاداتنا، ثم تشكُّلها اللساني، ولا تلتمس الذات شيئا آخر، غير انضمامه إلى هذا التقليد الفكري، التأسيسي لـ”العقلانية” (بوبر1985، ص 205 ) الداعي إلى إخضاع منهجي للنظريات المتبلورة نتيجة اختبار نقدي.  

   14-يتضح أكثر، التباين بين إبستمولوجيا بوبر وباشلار، إضافة إلى ماسبق ذكره، على مستوى طريقتهما المختلفة  قصد تأمل خاصية المعرفة العلمية المؤقتة بطبيعتها واللايقينية، بحيث توافق إقرارهما. تأويل باشلار، بهذا الخصوص، مفاده أنّ المعرفة العلمية ليست أبدا قطعية وتنطوي باستمرار على إمكانية ارتياب عالق، ارتياب علمي بكيفية أصيلة، على النقيض من الشك الفلسفي (الديكارتي)، مسار يتكرَّر أساسه بكيفية لانهائية: “قليل من الارتياب المحتمل، يظل دائما ضمن احتياطي المفاهيم العلمية التي يأخذها الفيلسوف ببساطة شديدة على أنها دوغماطيقية. يختلف كثيرا هذا الارتياب المفترض، عن آخر، ديكارتي مبدئي: لانستبعد ذلك بالتجربة. قد يولد من جديد، يصير آنيا حينما يصادف تجربة أخرى” (باشلار 2000، ص 123). من هنا يلزم استنتاج: ”امتثال كل معرفة علمية لنقد ذاتي. بالتالي، لا نتعلم في خضم دروس العلوم الحديثة، سوى انتقادها الدؤوب لمعرفتها الخاصة” (نفس المرجع السابق).  

   15 – ظاهريا، لايدعي بوبر عكس ذلك. يتقاسم الفيلسوفان، فكرة أنَّ مصدر تقدم العلم، يعود إلى اشتغاله الدائم على مكتسباته وليس جراء تطور ثابت لمفاهيمه القاعدية. نتجنب مع ذلك استنباط، توافقهما التام، رغم هذه اللاديكارتية المشتركة. بالتالي، اتجه سعي بوبر، عكس باشلار، إلى التمييز بين هاتين الصيغتين المختلفتين للنشاط الجدلي الناجمتين بحسبه عن الشك ثم النقد. ينصب شكّ إبستمولوجيا بوبر،على المعارف التي يصنفها الفيلسوف بـ”الذاتية”قصد توضيحه بأنها تشكِّل حالات ذهنية معينة للذات، بينما على العكس من ذلك، يُفترض عدم اهتمام النقد سوى بالمعارف”الموضوعية”، بمعنى وفق تصور بوبر للمصطلح، معارف”دون ذات عارفة”، متأصِّلة داخل دعائم لسانية خارج الذهن (بوبر 1991، ص 181- 228). لذلك، يقتضي انتقاد نظرية إخضاعها لاختبار محض منطقي، دون اعتبار للاعتقادات التي تصاحبها داخل ذهن الذات (مما يعني حسب بوبر، إمكانية ممارستنا النقد دون شك، وكذا الشك دون أن ننتقد).يترتب عن هذا التمييز، عدم انتماء الشك داخل إبستمولوجيا بوبر إلى المنهجية العلمية: ليس تمهيدا لنشاط العالِم، كما الشأن عند ديكارت، أو قوة محتملة يتضمنها دائما عمله، مثلما يؤكد باشلار. بما أنَّ العلم يشكِّل حسب بوبر (1991، ص 184) ”معرفة موضوعية”(مجموعة قضايا)، وليس ”معرفة ذاتية” (مجموعة تمثَّلات، واعتقادات)، فيرتكز استثنائيا على النقد، أي  اختباره منطقيا، بكيفية لاتتضمن شيئا فيما يتعلق بالحالات النفسية لذات معينة.           

هوامش المقالة:

المرجع:

Alain Friode :  Recherche en éducation ;numéro 29.juin 2017.pp124- 133.                                                                           

Visited 23 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي