محمّد كامل محفّل.. في غياب رجل يحترمه التاريخ
هالا خليل / سوريا
لم يكن مروره مرور العابرين. كانت بصمته على جباه وعقول أجيال عاصرته، ونهلت من بحوثه وتجاربه، وسيبقى إرثه الفكري منارة لأجيال متعاقبة.
إنه محمد كامل محفّل: ابن الأرض. هكذا كان يحب أن يسمي نفسه، لما كان للمكان بالنسبة إليه من الأهمية التي ينهل منها معارفه البحثيّة، احتضنه التاريخ بين صفحاته، إذ ولد في حلب سنة 1928 وحصل على إجازة في التاريخ في 1949، ودبلوم علم النفس 1953، أما المرحلة الثانية من مسيرته العلمية فقد أوفدته وزارة المعارف إلى باريس والتحق بجامعة السوربون لنيل الدكتوراه في التاريخ القديم، و منها حصل على شهادة الماجستير. بدأ بدراسة اللغات القديمة الشرقية والكلاسيكية، حيث تعمق في دراسة اللغة الآرامية واللاتينية واليونانية، وأتقن اثنتي عشر لغة بين قديمة وحيّة، كما درس علم الآثار بمعهد اللوفر.
لكن هذه المرحلة لم تكن تخلو من المفاجئات، فالعلاقة الوثيقة التي جمعته بالجزائريين المناهضين للاستعمار الفرنسي للجزائر سببت له أزمة، وعلى أثرها اتُهم محفّل بالتهريب لصالح الثورة الجزائرية، وما تداعى عن هذا الاتهام طرده من الجامعة عام 1956، وهو ما لم ينكر ما نسب إليه إذ يقول: “جاءتني أموال لمساعدة الثورة الجزائري، ومن وشى بي هو أحد من عملت معه من الجزائريين”، مما اضطره للسفر إلى جامعة جيف / سويسرا وتقديم أوراقه بها لنيل شهادة الدكتوراه التي لم يستسغ عنوانها الأوروبيون “دور الرقيق في انحطاط الإمبراطورية الرومانية” مما أخّرَ حصوله عليها لمدة ثلاثين عاماً. وكانت قبل ذلك قد منحته جامعة الدراسات الإسلامية في كاراتشي شهادة الدكتوراه بالدرجة الممتازة مع مرتبة الشرف.
كان محفّل مولع بدراسة التاريخ القديم، يقول محفل: “عادة من يبدأ في العالم القديم لا يكتفي به، فأنت عندما تزرع البذرة في الأرض وتعطي النبتة فالشجرة فالزهرة، ثم الثمرة فإنك ستعرف (سر النبتة)”.
“المؤرخ الذي ينطلق من التاريخ القديم تكون محاكماته صعبة، فهو يعرف سر اللعبة، ويعرف كيف يكوّن نظام الدول والمجتمع، فهو خطوة إلى الأمام من ناحية التنظيم، وخطوات إلى الوراء من الناحية الإنسانية. أما رأيه في المؤرخ المعاصر فيقول: “قد يكون ذو هوى”.
“دراسة التاريخ وفق الطريقة الحالية عقم في عقم. فالمؤرخ المعاصر يخشى حاضره، كما يجهل ماضيه، إذ ينقصه شيئان : أولاً المعرفة، وثانياً: الاعتراف بالخطأ. وأنا أعلم طلابي أن يقولوا (حتى الآن) وأن لا يجزموا دائماً.
فالمؤرخ الإنكليزي والفرنسي والألماني والأمريكي لا يوجد لديه العمق في التراث الذي يؤثر في حياتهم اليومية، أما نحن، ويقصد المؤرخ القديم فلدينا من العمق التاريخي، ما أصبح معتقداً وليأخذ صبغة دينية أيضاً.”
يتهم محفّل أولئك الذين يسمون بـ “المؤرخين الجدد” الذي عاش معهم وعاصرهم بدءاً من العام 1950 في فرنسا، وكانوا قد بدأوا عملهم قبل ذلك بخمسين عاماً، بأنهم تولوا مهمة تجميل وتغطية التاريخ الأوروبي القديم، للتمهيد للمد الاستعماري لأوروبا الغربية واحتلال العالم من جديد. أولئك أطلقوا تعبير “العصر الذهبي” عن الحديث في مرحلة من عمر الإمبراطورية الرومانية التي احتلت بقاع الأرض.
وعندما قارن بين آلهة مصر العملاقة وبين الآلهة السورية، التي وجدت بحجومها الطبيعية للقامات البشرية: فسّر ذلك بأن الإنسان السوري القديم، كان مختلفاً عن بقية شعوب الأرض، لأن ثقافته الذاتية مختلفة، ومجتمعه أيضاً، فعند النظر إليها نرى أنها الكهنة السوريون قديماً، ومقارنتها مع التماثيل المصرية الفرعونية، سوف نجد أن الفارق بين الاثنتين كبير جد في المواصفات، بينما نجد تماثيل الآلهة السورية من حيث حجمها ومقاييسها مطابقة لمقاييس البشر الطبيعيين، لأنهم لم ينظروا إليها بتبجيل كبير يميزها عن الإنسان، فقد نظر السوريون إلى الإله الملك، على أنه واحد من البشر، لا يختلف عنهم في شيء، ومن هذا المنطق كان شعور السوري بأنه قادر على أن يكون ذلك الإله الملك، فكلٍ منهم قادرة على قيادة الجميع، حسب ظنه، بينما نجد تماثيل آلهة المصريين كبيرة الحجم بمقاييس عملاقة، كذلك بقية شعوب الأرض، إذ ذهبت إلى تضخيم الذات الحاكمة، وعمّمت ثقافة الرضوخ لها ولأوامرها بما تأمر به وتنهى عنه، إلى أن استطاعت بعد زمن التحرر من تلك الفكرة، و تداول الحكم في ما بينها.
بالنسبة للآرامية التي عشقها محفّل وتعمق في سراديبها، يقول إن الآراميين لم يأتوا إلى أرض فارغة فقد سبقهم الأكاديين والبابليين والآشوريين. وفي بلاد الشام أطلق عليهم الإغريق اسم الفينيقيين.
الآراميون لم يلعبوا دوراً سياسياً كبيراً، كما إمبراطورية أكاد أو فتوحات آشور أو كالفراعنة في وادي النيل، ولكن كان لهم دور ثقافي مهم لعبوه بشكل واضح وجلي.
ما تميزت به الثقافة الآرامية أنها نشأت في منطقة حضارة دول مدن، أي أنها لم تنشأ كما نشأت الحضارات على أطراف الأنهار. في بلاد آرام (كنعان القديمة)، إذ نلاحظ المدن موزعة بشكل منطقي (مدن ساحلية، السلسلة الوسطى، ثم الجزيرة الشامية). و في رأيه أنه ليس من الضرورة أن تتوحد هذه المدن في دولة مركزية واحدة، لأن ذلك يفسح المجال للتنوع الثقافي والسكني وكذلك الاقتصادي. وهذا ذكاء سياسي يسمح لها بأن تلعب دوراً محلياً وخارجياً بشكل متوازن.
وإذا أخذنا مثالاً على ذلك اليوم في الثقافة الإنسانية المتكاملة، نأخذ النظام الماركسي (الإدارة الذاتية) كل منطقة تدير أمورها بشكل جيد متناغم مع المجموع. وبالتالي تلعب دوراً إيجابياً.
أما بالنسبة لرأيه في وجود لغة عبرية، فيقول هناك إشكالية في التاريخ القديم، فالتوراة ذكرت العبريين مراراً واحتار العلماء في تفسير معناها، أما مقولة أن العبريين هم من عبروا النهر، فأنه لا توجد مدرسة تاريخية تقبل بهذا التفسير. هم ليسوا قوم، هم يقومون بوظيفة مماليك، عبارة عن قوم من الأعراب المتجولين في البادية يضعون خدماتهم لمن يدفع أكثر.
لا لغة بدون مجتمع، ولا مجتمع بدون لغة. لكي تكون هناك لغة عبرية يجب أن يكون هناك مجتمع عبراني، لكن التوراة لا تقول العبرية بل تقول لغة شفة كنعان، وتقول لغة يهودية.
أول مرة نجد لغة عبرية في الكتب المقدسة، أو الأناجيل في صلب السيد المسيح وكتب فوق رأسه “يسوع ملك اليهود” باليونانية، واللاتينية، والعبرية.
يقول محفّل: من ظلَّ على يهوديته قالوا إنه تكلم العبرية، ومن اتبع الهدي الجديد تكلم السريانية.
ولمحفل باع طويل في علم التاريخ الذي وضع فيه عدة مصنفات عالمية، خاصة ما يتعلق منها، بالتاريخ اليوناني والروماني، فكان يعتبر مرجعاً في هذا المجال. ومن إسهاماته كونه :
– أسهم في تأسيس لجنة كتابة تاريخ العرب.
– درّس محفّل في جامعة دمشق ـ قسم التاريخ ـ اللغات الكلاسيكية والآرامية، والتاريخ القديم.
– عملّ أستاذاً زائراً في جامعة عمان.
– ترأس تحرير مجلة دراسات تاريخية.
– انتخب عضو مجمع اللغة العربية في دمشق.
ومن مؤلفاته:
– تاريخ الرومان 1970.
– تاريخ اليونان 1971.
– تاريخ العمارة 1976.
– الدولة والمجتمع في المغرب.
– المدخل إلى الفلسفة اليونانية.
– مدخل إلى اللغة الآرامية 1971.
– مدخل إلى اللغة اللاتينية 1972.
– دمشق الأسطورة والتاريخ.
– من ذاكرة الحجر إلى ذاكرة البشر.
– قام بتقديم الاستشارة التاريخية الدرامية لعدة لمسلسلات.
عندما سأل محفّل: هل تعتبر نفسك إنسانا عاديا؟
قال: “أنا أحس نفسي علامة فارقة في الحياة السورية ليس تجبراً ولا تكبراً منذ نشأتي حتى اليوم ومستمر في المطالعة والدراسة والبحث وفي الكتابة أيضاً. أشاهد اليوم ما هو عرضي. يريدون كل شيء ويفهمون كل شيء قبل أن يكون شيئا.
“أتمنى قبل أن أنتقل إلى عالم الغيب أن أكون قد خلّفت ورائي شيئاً مهماً. أنا حزين لماذا؟ لأنهم لا يدركون حجم ما نحن مقبلون عليه، إنساننا الحالي الذي يعود في جذوره عشرات إلى الآلاف من السنين لا يدرك اليوم ما يحمله في جيناته، ولا يعلم ما قيمة هذا السحر، فقط يؤوله أسطورياً. لقد توقفنا عن التقدم هنا، وأنا أصر على تحديد العرب الذين هم من جاؤوا بالإسلام إلى العالم. أين هم العرب اليوم وما هو دورهم؟”.
رحل ابن سورية و هو علم من أعلام ثقافتها، ومن أبرز المؤرخين المعاصرين لتاريخ بلاد الشام، وذلك في عام 2019، عن عمر ناهز 90 عاماً، لم ينقطع فيها عن البحث والعطاء إلى آخر أيامه، تاركاً آثاره التي تدفعنا لقراءة التاريخ في غير الصورة التي يوجد عليها، وبعيداً عن ما يحمله من أساطير وخرافات، إلى ربط تسلسلي تاريخي منطقي يوصلنا إلى الحاضر الذي نعيش فيه.
وختاما لقد نال وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام 2012 تقديراً لإنجازاته ونتاجه العلمي.
محمد محفّل أيقونة سينحني التاريخ لها بالتقدير والإجلال.