السفارات الفلسطينية.. دبلوماسية الفشل والفساد
د. حسن العاصي
تثير الأحداث المتوالية التي ترتبط بالقضية الفلسطينية الكثير من الجدل حول ملف الدبلوماسية الفلسطينية، وتدعو إلى التوقف والتساؤل عن الدور الدبلوماسي الذي تقوم به وزارة الخارجية الفلسطينية التي تُوجه لها انتقادات لاذعة من قبل الشعب الفلسطيني، ولوزير الخارجية الفلسطيني “رياض المالكي” الحاضر الغائب. وكذلك دور وفاعلية السفارات الفلسطينية المترامية في جميع دول العالم، وحضور ومسؤولية وأهلية السفراء الفلسطينيين فيها، ليبدأ التساؤل عن الآلية التي يتم فيها اختيار سفراء فلسطين في الخارج، وعن أهمية تلك السفارات في الوقت الذي تحتاج فيه فلسطين إلى دبلوماسية قوية قادرة على سرد الرواية الفلسطينية، بهدف كسب التعاطف والدعم الدوليين مع القضية الفلسطينية، ومساعدة الشعب الفلسطيني على تحقيق أهدافه في الحرية والاستقلال.
السلطة الفلسطينية التي اختارت المفاوضات وطريق الدبلوماسية خياراً لها بديلاً عن المقاومة، لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولتهم المستقلة، منذ عام 1994 للآن، ولم تنجح في استعادة شبراً واحداً من فلسطين، ولا استطاعت تحقيق هدف واحد. بل على العكس، لقد تسببت السلطة ودبلوماسيتها في تجميد القضية الفلسطينية، بل وتراجعها وخسارتها للعديد من المكاسب التي سبق وحققها الشعب الفلسطيني العظيم بنضاله ودماء شهدائه. كما أنها عجزت عن وعبر وزير خارجيتها، ودبلوماسييها المنتشرين عن حشد المواقف الدولية لصالح القضية، وفشلت دوماً في ادانة إسرائيل أمام العالم، رغم ارتكابها جرائم بشعة بحق الشعب الفلسطيني.
سفارات الخيبة
بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران خلال عام 1979 تم طرد السفير الصهيوني من طهران وحولت السفارة الصهيونية إلى سفارة فلسطين. في عام 1988 تبنت منظمة التحرير رسميا خيار الدولتين في فلسطين التاريخية، والعيش جنبا لجنب مع إسرائيل في سلام شامل يضمن عودة اللاجئين واستقلال الفلسطينيين على الأراضي المحتلة عام 1967 وبتحديد القدس الشرقية عاصمة لهم.
في عام 1993 قام رئيس اللجنة التنفيذية بمنظمة التحرير آنذاك ياسر عرفات بالاعتراف رسميا بإسرائيل، في رسالة رسمية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين، في المقابل اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. نتج عن ذلك تأسيس السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي تُعتبر من نتائج اتفاق أوسلو بين المنظمة وإسرائيل.
بعد قيام السلطة الفلسطينية التي اعتبرت نفسها أصبحت ذات كيان مستقل، تكاثرت السفارات والممثليات الفلسطينية في العلم. وبلغ عدد السفارات أو البعثات الدبلوماسية الفلسطينية حوالي 94 بعثة، وهي موزعة كالتالي:
خمس وعشرون بعثة في أفريقيا، ومثلها في آسيا، واثنان وثلاثون في أوروبا، وخمس في أميركا الشمالية، وست في أميركا الجنوبية، وواحدة في أوقيانوسيا. بالإضافة إلى عدد الوفود والمكاتب التمثيلية التي تمثل السلطة الفلسطينية في بعض الدول التي لا تعترف بدولة فلسطين أو تعترف بها جزئيا، والعديد من الوفود والمكاتب التمثيلية في عدد من المنظمات الدولية.
أخلاق أوسلو
داست القيادات الفلسطينية في اتفاق أوسلو على كل المحرمات الفلسطينية، وعلى المواثيق والقرارات والشعارات الفلسطينية، وعلى دماء الشهداء، وعلى كل مقدسات الشعب الفلسطيني.
من أقبح الخطايا التي ارتكبتها القيادة الفلسطينية أنها ربطت نفسها بالأمن الإسرائيلي من خلال ما يسمى بالتنسيق الأمني، الذي عرّض أمن الشعب الفلسطيني للخطر. ثم قام بما هو أقبح حين وضع لقمة خبز الشعب الفلسطيني بيد الأعداء، وذلك وفق اتفاقية باريس الاقتصادية التي حولت الفلسطينيين إلى عبيد “لإحسان” العدو.
هذه القيادات الوقحة أنتجت فساداً هائلاً في البيت الفلسطيني مما أدى إلى اتساع الخراب على مختلف المستويات السياسية، والوطنية، والأمنية، والاقتصادية، الأخلاقية، والاجتماعية.
شجعت إسرائيل والولايات المتحدة على انتشار الفساد في القيادة الفلسطينية ومحيطها، لأنهما يدركان أن نجاح اتفاقية أوسلو يتوقف على الأشخاص الفاسدين. ولهذا أصبح من الصعب جدا العثور على مؤسسة فلسطينية لا ينخرها الفساد والمحسوبيات والوساطات، واستعمال المنصب لأغراض خاصة. والسفارات الفلسطينية لا تختلف عن باقي المؤسسات الفلسطينية، فهي تعكس أخلاق نظام أوسلو لا الأخلاق الوطنية.
من المعيب أن يستمر بعض السفراء في مناصبهم لعقود، ويرفضون ترك مناصبهم. نسمع كثيراً عن تعيين سفير بدل آخر فتنشب الخلافات بين الجديد والقديم، ويضطر بعضهم في السلطة إلى البحث عن حل وسط بين الاثنين، القديم يعتبر السفارة مملكة له لا يمكن التخلي عنه لأنه موقع يحقق مصالحه الخاصة. والجديد يتهيأ إما لخدمة وطنه أو البحث عن مصالح خاصة محدثة.
هدر للمال العام
تقدر بعض الأوساط نفقات هذه البعثات والممثليات الفلسطينية بحوالي 200 مليون دولار سنويا. فيما تكشف بيانات الموازنة الفلسطينية للعام الجاري 2022، أن قيمة موازنة السفارات في 2022، تبلغ 235.8 مليون شيكل، أي ما يوازي حوالي 65 مليون دولار. وهذا يشكل زيادة بنسبة 23.8% مقارنة مع 190.4 مليون شيكل أي 52.3 مليون دولار في ميزانية عن العام 2021 بحسب بيانات لوزارة المالية الفلسطينية.
وخلال 2022، بلغت فاتورة الرواتب والأجور من إجمالي موازنة السفارات 112 مليون شيكل أي 30.7 مليون دولار، و107.8 ملايين شيكل نفقات تشغيلية، إلى جانب نفقات تحويلية بقيمة 16 مليون شيكل.
ولا تشمل موازنة السفارات، موازنة وزارة الخارجية الفلسطينية والمغتربين، والبالغة قيمتها 67.2 مليون شيكل أس 18.4 مليون دولار، بحسب البيانات الرسمية.
وبحسب تقارير محلية أوردت أرقاماً تتعلق برواتب العاملين في السلك الدبلوماسي حسب قانون الخدمة المدنية، فإن السفير يتقاضى راتباً إجمالياً قدره 13941 شيكل. “الدولار يساوي 3.4 شيكل”
ويتقاضى المستشار الأول للسفير إجمالي راتب بنحو 10600 شيكل شهرياً. أما مستشار السفير فهو يتقاضى راتباً يصل في مجمله إلى 9279 شيكل. ويتقاضى السكرتير أول راتب إجمالي 7893 شيكل أما السكرتير الثاني فيصل راتبه الإجمالي إلى 7106 شيكل، في حين أن السكرتير الثالث يتقاضى راتبًا إجماليًا 6375 شيكل. ويصل راتب ملحق السفارة الفلسطينية 5266 شيكل شهرياً.
في الوقت الذي ذكرت فيه صحيفة يديعوت أحرونت الإسرائيلية في تقرير سابق لها أنه يوجد لفلسطين سفراء في 95 دولة حول العالم، فيما يوجد لإسرائيل 78 سفارة فقط، ومقابل 103 بعثات دبلوماسية فلسطينية، يوجد لإسرائيل 102 بعثة، مشيرة إلى أن ذلك يأتي على خلفية تقليص تل أبيب لخدمات الخارجية وإغلاق عدد من سفاراتها في العالم لتقليل الميزانية العامة. في ذات الوقت أعلنت السلطة الفلسطينية ووزارة خارجيتها عديمة الجدوى عن زيادة في نفقات السفارات الفلسطينية، وتعلن الإحصائيات الرسمية عن أن نفقات السفارات الفلسطينية حول العالم بلغت خلال الأعوام الخمسة الماضية 1.1 مليار شيكل.
أبناء مسؤولي السلطة في السفارات برواتب خيالية
تكشف التعيينات التي تجريها السلطة دورياً، أن أبناء القيادات والوزراء هم وحدهم يعيّنون سفراء لدولة فلسطين حول العالم، الأمر الذي يثير الكثير من السخط والغضب بين فئات الشعب الفلسطيني، باختلاف أطيافه السياسية والاجتماعية. في وقت تدعي السلطة أنها تعاني أزمة مالية، تقوم بصرف مرتبات ونثريات مرتفعة مالية لـ “عظام الرقبة” حين يجري تعيينهم في السفارات الفلسطينية المنتشرة كالفطر السام في أنحاء العالم.
ملف السفارات يكشف عن مدى استمرار السلطة في حالة الغرق بالفساد التي تصل إلى كل مناحي المستويات السياسية والمالية والديبلوماسية في السلطة. إن تعيينات السفراء والديبلوماسيين الفلسطينيين يتم بعيداً عن أي رقابة أو مسائلة، وغالباً تأتي في صالح أبناء المسؤولين وأقربائهم، مما يؤكد على انتشار سياسة المحسوبيات التي تخدم مصالح فردية وحزبية، والمقربين من السلطة. والحالة الفلسطينية غير مسبوقة في تعيين السفراء بناء على الانتماء السياسي، أو العائلي، أو لقربه من الأجهزة الأمنية. فالقانون الأساسي الفلسطيني وقانون السلك الدبلوماسي يشترط لتعيين السفير أن يكون صاحب تجربة سياسية، وتدرج وظيفي، وإجادته لغة الدولة التي سيذهب إليها، ومعلومات كافية حولها والسياسة التي تتبعها وموقفها من القضية الفلسطينية.
لكن السلطة الفلسطينية تقوم بتعيين أقارب القيادات والوزراء والمتنفذين، دون توفرهم على المستوى المطلوب. حتى أن بعضهم لا يعرف التحدث بلغة الدولة التي يعمل فيها سفيراً. هذا يعني بلغة ديبلوماسية أن الوضع كارثي. إن وزارة الخارجية الفلسطينية ودبلوماسيتها بحاجة إلى إعادة ترميم وهيكلة وإصلاح في ظل استمرار استنزاف مواردها دون مردود إيجابي على قضيتنا الوطنية.
وكثيرا ما نسمع من الفلسطينيين الذين يطرقون أبواب السفارات الفلسطينية من الرعايا والأفراد ليستفسروا ويسألوا عن قضايا تخصهم، أنهم في كثير من السفارات يُصدون ويواجهون بأناس جهلة ذوي ضحالة في العلم والأخلاق، وعديمي ثقافة ولا يمتون للأصالة الفلسطينية بصلة، حتى أن منهم من لم تطأ قدمه أرضاً فلسطينية على الإطلاق. إن انطباع الفلسطينيين المقيمين في الخارج أسوأ ما يكون عن السفارات، حيث يصطدم الفلسطيني بأن سفارته ليست عاجزة فقط عن المساعدة، بل أن كثير من السفارات الفلسطينية حول العالم تضم بين موظفيها “شبيحة” وبعض “الزعران” الذين أوصلتهم تدخلات الفاسدين إلى أهم المناصب وأكثرها نفوذاً. الفاسد لا يأتي إلا بفاسد، والجاهل لا يأتي إلا بجاهل، واللص لا يأتي إلا بلص مثله ليكون له ستراً وغطاء.
فساد دبلوماسية رياض المالكي
لم تشهد القضية الفلسطينية على مدار تاريخها النضالي الطويل حالة كارثية تسببت بالإساءة إلى الشعب الفلسطيني، كما فعلت بعض السفارات والممثليات الفلسطينية في عهد وزير الخارجية والمغتربين رياض المالكي التي تربع على عرش فساد السلك الدبلوماسي، وأشرف على وضع المنافقين، والانتهازيين، والأفاقين، والوصوليين، والذين لا يملكون أي تاريخ نضالي أو سياسي، في مناصب سفراء وممثلين لدولة فلسطين.
وتحولت السفارات في عهده إلى أماكن للبطالة المقنعة، ولممارسة الاضطهاد ضد الفلسطينيين، والأدهى أن كثير من تلك السفارات أصبحت بؤر لكتابة التقارير السرية لأجهزة الأمن الفلسطينية ضد أبناء الشعب الفلسطيني.
رياض المالكي الذي يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة من الجامعة الأمريكية، هو نفسه أحد نتائج اتفاقية أوسلو التي أنشأت مجموعة من الفاسدين الذين تحولوا إلى مُعادين لحقوق وطموحات الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتهم المالكي الذي كان سابقاً عضواً في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي طردته من صفوفها بعد أن تساوق مع عملية التطبيع التي رفضتها الجبهة. بعد رفض مصطفى البرغوثي للمنصب عُيّن المالكي وزيراً للإعلام في حكومة سلام فيّاض عام 2007 واشتهر بتصريحاته المتهورة وتقاريره الكاذبة. شن حينها هجوماً شديداً على المقاومة الفلسطينية، وسخر من فاعليتها. في عام 2009 تمت تسميته وزيراً للخارجية وشؤون المغتربين لنزع هذه الصفة عن المناضل فاروق القدومي الذي رفض أوسلو، ولا يزال المالكي في منصبة للآن. أي ما يقرب من ربع قرن والمالكي يترأس الدبلوماسية الفلسطينية، والنتيجة هي صفر، والإنجازات هي لا شيء.
سفارات فاشلة وسفراء غائبون
تكشف السفارات الفلسطينية والممثليات والمكاتب الدبلوماسية المنتشرة في أكثر من تسعون دولة، حالة فشل الدبلوماسية الفلسطينية لجهة تعيين السفراء، وضعف فاعلية هذه السفارات التي لا تقدم أي قيمة مضافة للقضية الفلسطينية، وما تشكله من عبئ مالي يكلف خزينة السلطة مئات الملايين من الدولارات سنوياً، تذهب معظمها رواتب سفراء وموظفين، وتغطية تكاليف دعوات وحفلات، لا تخدم مصالح الشعب الفلسطيني.
وزارة الخارجية ذاتها تجدها وزارة مزاجية بلا مسائلة ولا حتى متابعة تقارير عمل السفارات والبعثات الفلسطينية، ووزير الخارجية المالكي بعينه غائب وليس له أي حضور فاعل وملموس في المحافل العربية والدولية، مما انعكس سلباً على القضية الفلسطينية التي أخذت في التراجع الدولي والإقليمي. فلم نلحظ أي حضور للمالكي ولا لوزارته، ولم نسمع لهم صوتاً طيلة فترة حصار غزة، ولا في الحروب عليها، ولا في عمليات الاستيطان والجرائم التي يرتكبها المستوطنين، ولا في تهويد القدس، ولا في جرائم الاغتيالات بحق الناشطين الفلسطينيين، ولا سمعنا له صوتاً ينصف آلاف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني.
كان المطلوب من وزير الخارجية وأركان وزارته، ومن السفارات والبعثات الدبلوماسية الفلسطينية، القيام بأضعف الإيمان وإصدار بيانات سياسية، وتنظيم وقفات احتجاجية، ودعوة أعضاء السلك الدبلوماسي للتركيز على واقع شعبنا الفلسطيني الذي يعاني الضيم والقتل والحصار ومصادرة حقوقه. لكن الدبلوماسية الفلسطينية بكماء صماء لأن كادرها الرئيسي تم تعيينه وفق نظام المحاصصة والمحسوبيات، لا وفقاً للكفاءة والمهارة.
لقد أصبحت معظم السفارات الفلسطينية أوكاراً للفساد وتحقيق المكاسب الشخصية، وتتم إدارتها بأسلوب “البهلوانين والمهرجين” كونها غالباً لا تضم كفاءات، بل تضم موظفين تم تعيينهم بأسلوب المحسوبيات والوساطات، ولأنهم أبناء وأقرباء القيادات الفلسطينية. لذلك تجد معظمهم متعجرفين، فاسدين، فاشلين، متعصبين لتنظيم معين، يستغلون وظيفتهم لتحقيق مآرب تجارية ومنافع شخصية. فتحولت معظم السفارات إلى بؤر للاختراق الأمني. ومعظم السفراء مشغولين معظم الوقت باللهو والمتع والسفر والحفلات والدعوات الخاصة. والقليل القليل منهم من يدافع عن القضية الفلسطينية، ويقوم بواجبه الوطني والدبلوماسي في خدمة بلاده، وفضح جرائم الاحتلال الصهيوني. بل أن بعض السفراء يتميز بسوء السلوك وبأخلاقيات على درجة منخفضة جدا مما يسيء للفلسطينيين والقضية الفلسطينية. فيما يتعامل غالبية موظفو السفارات بجلافة وفوقية وخشونة مع المراجعين من أبناء الشعب الفلسطيني.
سفارات عائلية
إن التعيينات في السفارات الفلسطينية، خلال الأعوام العشرة الماضية، اقتصرت على أبناء مسؤولي السلطة وأقاربهم، بالإضافة إلى أفراد من الأجهزة الأمنية في الضفة المحتلّة. يتوافق هذا مع تقرير أعدّه الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) ذكر فيه ضعف الشفافية والرقابة على عمليات التعيين والترقية في الوظائف الدبلوماسية، الأمر الذي سمح بوجود ثغرات واسعة، تمّ استغلالها في تعيينات وترقيات، لأسباب شخصية، أو سياسية، أو استرضائية، أو محسوبية.
في فلسطين يتم توريث السفارات للأبناء. على سبيل المثال تم تعيين سلام الزواري سفيرة لفلسطين في طهران خلَفاً لوالدها صلاح الزواري، الذي كان يشغل هذا المنصب منذ عام 1980. أي سفير طوال أربعة عقود، لم يظهر له أي نشاط دبلوماسي أو تصريح صحفي، ثم أورث المنصب لابنته. وبحسب تقارير محلية، فإن الزواوي صديق شخصي للرئيس محمود عباس، حيث تشاركا مقاعد الدراسة في قرية صفد قبل النكبة الفلسطينية عام 1948، وبقيت علاقتهما قوية حتى اليوم.
وتم تعيين رولا ابنة القيادي الراحل بحركة فتح، جمال محيسن سفيرة لدى السويد بعد وفاة والدها بشهر. وتم تعيين وزير الصحة السابق جواد عواد سفيرا لدى أوزبكستان، وتعيين القيادي في حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، رويد أبو عمشة سفيرا لدى جيبوتي. وتعيين ليث عدنان عرفة سفيرا لدولة فلسطين لدى ألمانيا، وذكرت مصادر مطلعة أن الأخير كان يعمل برتبة رائد في جهاز الأمن الوقائي بالضفة الغربية.
ناهيك عن العشرات من أبناء المسؤولين والقيادات الفلسطينية يتم تعيينهم كمستشارين وملحقين في السفارات الفلسطينية، إلى درجة أننا نواجه صعوبة في إيجاد أحد الموظفين الرئيسيين في سفارات فلسطين لا يكون معيناً بالواسطة.
كذلك، أفادت تقارير حقوقية أخرى بأنه ما بين عامَي 2010 – 2015، صدر 78 قراراً بمراسيم رئاسية، من بينها ترقيات للعشرات من أقارب بعض المتنفّذين الرسميين، وبعضها يحمل مخالفات صريحة للقوانين. وشملت التعيينات أيضاً أقارب بعض أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والمقرّبين من محمود عباس، أو حتى أقارب لوزير الخارجية ذاته. كما تمّ تعيين نجل نظمي مهنا، مدير دائرة المعابر، قنصلاً في صربيا، ونجل شقيق زوجة عباس سفيراً في اليونان.
ورغم أنه يُمنع على أي موظف دبلوماسي مزاولة أي مهنة سواء بأجر أو بدون أجر، ولكن كثير من السفراء والعاملين في السفارات يفتحون المطاعم، ويدخلون في أسهم داخل شركات تجارية، ويحولون العملة في أروقة السفارة، وتجار شنطة، ومهربين”.
كما أن “مبدأ تدوير العمل” غير مفعل ومعطل تماما، والسفير وطاقمه يهرمون في السفارة التي يعتبرونها ميراث الوالد إلى ما شاء الله وحتى انقضاء الأجل.
على السلطة الفلسطينية أن تولي ملف السفارات أهمية كبرى، وأن تكون هناك محاسبة ومساءلة، فهناك كثير من المظالم والشكاوى قدمت من متضررين فلسطينيين بالخارج ولم يتحصلوا على أي رد من أي جهة.
غيض من فيض
نستعرض بعض الأمثلة فقط خلال العامين الماضيين التي تؤكد الحالة الكارثية للدبلوماسية الفلسطينية. في صيف عام 2021 أجرى التلفزيون الإسباني مقابلة مع السفير الفلسطيني في مدريد “كفاح عودة”، الذي أخفق في الحديث بلغة إسبانية رغم وجوده في مدريد مدة خمس عشرة سنة، وكشفت المقابلة ركاكة لغته الإنجليزية، وعدم مقدرته التعبير بأسلوب دبلوماسي عن هموم شعبنا، لذلك استعان بمترجم من السفارة على الهواء مباشرة. في نفس العام التقت السفيرة الفلسطينية في إيرلندا “جيلان وهبة” بكل وقاحة مع السفير الإسرائيلي، في وقت كانت إسرائيل تقود حملة انتقام ضد إيرلندا بسبب تضامنها مع الشعب الفلسطيني. ولم تهتم بمراعاة مشاعر تعاطف الشعب الأيرلندي مع القضية الفلسطينية. وفي مقابلة مع تلفزيون “ريبورت تي في” قالت السفيرة الفلسطينية في البانيا “هناء الشوا” بأنها لا تعترض على جملة بان لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها.
وفي شهر حزيران من العام 2022 أعلنت جمهورية نيكاراغوا بان السفير الفلسطيني لديها أصبح شخصاً غير مرغوب فيه على أراضيها، حيث أنه اعتدى بالضرب على دبلوماسية تعمل في السفارة الفلسطينية في نيكاراغوا على أثر مشادة كلامية معها، وما كان منها الا ان تقدمت بشكوى لدى سلطات نيكاراغوا المختصة.
وفي عام 2023 تقدمت المخابرات الجمركية الباكستانية بشكوى ضد ثلاث شركات استيراد وتصدير باكستانية بتهمة تهريب مشروبات كحولية لحساب السفارة الفلسطينية في باكستان، التي عملت على استصدار تصاريح تحت غطاء بضائع دبلوماسية، وقد صادرت السلطات الباكستانية حاوية باسم سفارة فلسطين تحتوي المشروبات الكحولية، الأمر الذي اعتبرته باكستان انتهاكا للأعراف الدبلوماسية. كما أقدم دبلوماسي يعمل في السفارة الفلسطينية في جنيف في العام 2009على سحب تقرير المحقق ريتشارد غولدستون قبل التصويت عليه بأيام مما شكل صدمة في الأوساط الفلسطينية والدولية. حتى المنح الدراسية التي تقدمها بعض الدول الشقيقة والصديقة للطلاب الفلسطينيين يتلاعب بها السفراء، كما حدث في منحة الجزائر للدراسات العليا عام 2019و2020، حيث قامت السفارة الفلسطينية بشطب اسماء طلبة مرشحين واضافة اسماء اخرى من غير المرشحين.
أكد “ربحي حلوم” سفير منظمة التحرير السابق في كل من أنقرة وجاكرتا وأبو ظبي وكابول أن عمل سفارات السلطة الفلسطينية في الخارج ينصب على التهجم على المقاومة وكيفية عزلها عن محيطها العربي، مشددا على أنها أوكار فساد. وأضاف أنه تم تعيين أحد المرافقين الأمنيين الذين عملوا ضمن فريق الحماية الشخصي له خلال عمله سفيرا لمنظمة التحرير في أنقرة، قنصلا عاماً، وهو خريج رابع ابتدائي ولا يحمل أي أهلية دبلوماسية ولا لغة، لكنه يملك حساً أمنياً.
من أبرز فضائح السفارات، فضيحة بيع منح الطلبة المتفوقين في السفارة الفلسطينية في فنزويلا بمبلغ سبعة آلاف دولار للمنحة الواحدة لغير المتفوقين وغير المستحقين لهذه المنح، الأمر الذي أدى إلى إلغاء هذه المنح من قبل الحكومة الفنزويلية. وفضيحة أخرى تمثلت بتحويل السفارة الفلسطينية في الهند إلى مكان للإتجار غير الشرعي بالسلاح، الأمر الذي أجبر السلطة في حينه إلى إقالة سفير فلسطين في الهند “خالد الشيخ” بعد هذه الفضيحة. وكذلك فضيحة اقتحام الأمن الصيني لمبنى السفارة الفلسطينية في بكين للاشتباه بقضايا أخلاقية، حيث تم إبلاغ السلطة بهذا الاقتحام حين اجتمع السفير الصيني لدى السلطة مع نبيل شعت الذي طالبه بعدم إثارة القضية إعلاميا حفاظاً على سمعة الفلسطينيين. ولعل أخطر هذه الفضائح ما كشفته حركة حماس عبر وثائق عثرت عليها عقب الحسم العسكري في غزة في العام 2007، والتي أظهرت اتخاذ السفارات الفلسطينية في معظم دول العالم كمقرات مخابراتية تقدم خدماتها لكل من هب ودب (لمن يدفع أكثر) وأشهرها التجسس على البرنامج النووي الباكستاني. وأعظم هذه الفضائح هي قضية اغتيال الشهيد محمد النايف في قلب السفارة الفلسطينية في بلغاريا.
سفراء خارج الخدمة
فشل عشرات السفراء الفلسطينيين المنتشرين في الكثير من دول العالم، وفشلت الدبلوماسية التي يقودها رياض المالكي فشلاً ذريعاً في إيصال السردية الفلسطينية، لدرجة أن الدبلوماسية الإسرائيلية نجحت في كسب تعاطف شعوب العالم معها، عبر تصوير الانسان الفلسطيني بالمجرم والمحب للدماء، والانسان الإسرائيلي برجل السلام. بل إن بعض السفراء لا يكلفون أنفسهم حتى عناء حضور محاضرات وندوات حول القضية الفلسطينية.
يُجمع الطلاب والجاليات الفلسطينية الموجودة في دول عربية واجنبية، على التنديد بالسفراء والسفارات، وأن هذه السفارات لا تحتضنهم ولا تقدم لهم أي مساعدة في حال احتاجوها، كما أنها تتعامل معهم بطريقة غير لائقة، وأنها تدار بالوساطات والمحسوبيات وتميز بين الفلسطينيين. فماذا تفعل سفاراتنا وماذا قدمت للقضية الفلسطينية؟
حتى أكون منصفاً، وبالرغم من أن سمعة السفارات الفلسطينية سيئة بصوة عامة، إلا أن هناك سفراء شرفاء ومناضلين وأصحاب خبرة سياسية ودبلوماسية، وتاريخ نضالي مشرف، يعملون دون ضجيج لخدمة المصالح الفلسطينية، ولهم حضور فاعل في ساحات عملهم، نفتخر بهم ويستحقون الاحترام بجدارة، من هؤلاء أذكر السفير “جمال الشوبكي” سفير فلسطين في المملكة المغربية. والسفير “حسام زملط” رئيس البعثة الفلسطينية في المملكة المتحدة. والسفير “فائد مصطفى” سفير فلسطين في أنقرة. والسفيرة “منى أبو عمارة” سفير فلسطين في كندا. والسفيرة “حنان جرار” سفير فلسطين في جنوب أفريقيا.
وبعد يا أصحاب المعالي:
لم يعد الشعب الفلسطيني يحتمل فساد السلطة الفلسطينية، التي ترفع قيمة كل سفيه ووصولي، فاشل فاسق، وكل انتهازي فاسد متسلق، وكل لص وجاهل مارق، وعلى حساب عشرات الآلاف من الشباب الفلسطيني ذوي الشهادات العليا، وعلى حساب المثقفين والمناضلين المخلصين، أصحاب العلم والمعرفة والاختصاص.
ما هي الفائدة من عمل سفراء لا يمتلكون ثقافة واسعة في قضايا بلادهم؟ وليس لديهم القدرة على التعبير لحشد تأييد للقضية الفلسطينية؟ ولا يستطيعون الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وفضح جرائم الاحتلال وانتهاكاته المتكررة للقانون الدولي؟
لم يعد مقبولاً استمرار فساد صانعي القرار الفلسطيني، في وقت يضحي الشعب الفلسطيني بكل ما لديه بهدف تحقيق حلمه بالتحر وإقامة دولته المستقلة. لم يعد من الممكن السماح لشرذمة قليلة تتدّعي الوطنية، حولت كافة المؤسسات الوطنية إلى “دكاكين” لأبناء قيادات السلطة والمقربين منهم، أن تدوس على كرامة الشعب الفلسطيني وتسيئ له، وتعبث بحقوقه الوطنية. إن القضية الفلسطينية قضية وطن، وأخلاق، وشرف، وتحتاج إلى مناضلين حقيقيين، وسفراء ذوي أخلاق وشرف لتمثلها.