جدلية الحب الحالم والذكورة النرجسية في ” ليالي الخذلان” لأسماء معيكل (1/2)

جدلية الحب الحالم والذكورة النرجسية في ” ليالي الخذلان” لأسماء معيكل (1/2)

لحسن أوين

       يبدو عنوان الرواية عتبة مرعبة تنفتح على جحيم القهر والذل والخيبة والظلم والانكسار، والعشرات من المعاني والدلالات والايحاءات، التي ترتبط بحقول دلالية وسياقات اجتماعية ثقافية يكون فيها القهر والهدر، والتسلط والطغيان، والسحق واللاعدالة، متجذرا في البنيات الاجتماعية السياسية الاقتصادية. وفي الأنظمة والأنساق الرمزية والثقافية والدينية. كما يسهم غلاف/لوحة الرواية في تأكيد وإضاءة هذه الفرضيات التأويلية التي تسكن الدلالات والايحاءات التي يرتفع لهيبها من بؤرة جحيم العنوان الجهنمية. خاصة ونحن نعلم مدى وقوف الفنان التشكيلي بشار العيسى بجانب القضايا والهموم والآلام الإنسانية. وانتصاره، من منطلق إحساسه ووعيه، في أعماله الفنية للقضايا العادلة. هكذا نفهم العلاقة الجدلية التوضيحية التكاملية بين العنوان والغلاف، في أن الامر يتعلق بالقهر والخذلان الى حد السحق الأقرب الى المحرقة التي تكتوي بعذاباتها النساء في المجتمعات الابوية الذكورية. التي تتحول فيها الليالي الى خذلان رهيب، يعمق الوحدة والعزلة والخيبات والانكسار والقهر المعاش طيلة اليوم كله. ويتخلى الليل عن جماليته ورحمته وأمانه وطمأنينته، وعن كونه حضنا للاعتراف المتبادل بالحاجات والرغبات والأحاسيس والحميمية العاطفية، والتقدير للعطاء والتضحية، والانصاف للتعب والإنتاج المرهق اليومي.

 وهذا ما يجعل القارئ الفاعل الخلاق، منجذبا أدبيا الى جمالية وفنية الرواية، إن لم يكن متلصصا وفضوليا في النبش في أحوال الناس، متوهما مطاردة الوقائع والأسرار. بل منشغلا ومهتما، بالمتعة الفنية والرؤية الفكرية للرواية. حيث يسعى الى التعرف على الكثير من البنيات النفسية الاجتماعية الثقافية القابعة في تجاويف الذات منذ الطفولة، والى تصفح طبقات ذاته، الواعية وغير الواعية، وخوض تجربة آلام، موشومة في القلب والعقل والدماغ، متفاوتة الشدة والحدة والعمق والمدة، لعله يجد ممرات آمنة للتطهير والبناء لموجهات إرشادية جديدة، تخلصه مما ترسب مع حليب الطفولة والمراهقة، وصولا الى اللحظة الراهنة، في الأعماق، تربية وثقافة وتفاعلا. و تمنحه فرصة التطور، وعيش الصيرورة، والاستعداد لفهم نفسه والآخر والإقبال بفرح عارم على حب الحياة، واكتساب جدارة التغيير، لتأسيس علاقات اجتماعية بديلة لشوكة التغلب القبلي المتجذرة في المجتمع الأبوي، بنزعته الذكورية السامة والنرجسية.

أولا / جدلية الحب الحالم والذكورة النرجسية

    “بانت شخصيّة المحبوب جليّة أمامي، كما لو أنّ غشاوةً انقشعت عن عينيّ، وأدركت أنّني وقعت في براثن شخص نرجسيٍّ، يضخّم من أفعاله، وأعماله، مهما صغر شأنها، حتّى كاد يجعل من ضرطته حدثاً جللاً، ويقزّم من أفعالي، وأعمالي، مهما بلغ شأنها، يسعى طيلة الوقت لإحباطي، والتقليل من شأني، ومحاولة تدميري، وإعادة تشكيلي وفق هواه، ربّما يحلو له أن يراني منهارةً، فهذا ديدنه من قبل، لكنّ الجديد في الأمر، أنّني لم أعد أصمت، وهو يكيل لي الانتقادات اللاذعة، صرت أُواجهه، وأكشف له عيوبه” 153

انطلاقا من الصفحات الأولى، تضعنا الرواية وسط تجربة عذابات ألم رهيب عانت منه امرأة، اسمها حواء، بشكل فظيع جردها من قيمتها الذاتية ووجودها الإنساني. وحولها الى مجرد بقايا امرأة. لكنها خاضت هذه المعركة باسم الحب والحرية ضد المجتمع الأبوي، والذكورة النرجسية الشرسة والعدوانية والمتخلفة والمعقدة. فقد عاشت تجربة الطلاق مرتين. هذه الوصمة المجتمعية الثقافية السيئة التي تقتل النساء رمزيا، ووجوديا.

 ورغم الثمن الباهظ الذي دفعته نفسيا وجسديا وعاطفيا وفكريا، فقد اكتسبت قيمة ذاتية وشخصية، وهي تشعر في أعماقها بقوة وجمالية الحرية في التخلص نهائيا من القيود النفسية والمجتمعية والعلائقية والثقافية.

وإذا كانت في تجربة الطلاق الأولى قوية في اختياراتها احتراما لذاتها وأفكارها وأحاسيسها وعواطفها، فإنها في التجربة الثانية عانت طويلا، من حب حالم ولدته القناعات والأفكار الساحرة لعيش تجربة حب مثالي. يوافق أفكارها المناهضة لنقص ودونية وتهميش وإقصاء النساء في مجتمعات القهر الأبوي الذكوري. حب حالم رومانسي وواقعي، ينسجم مع تطلعات المرأة في تخطي السيطرة، الذكورية القهرية، على حرية واستقلالية المرأة، في التعبير واختيار شكل العلاقة القائمة على العدالة والمساواة والتكافؤ والشراكة. وفي تفعيل أفكارها وقناعاتها ورغباتها وعواطفها. وكل احتياجاتها الاجتماعية والنفسية والجسدية والحميمية في الحب والزواج…

بناء على هذه الأفكار والقناعات والتصورات والعواطف، ضحت بكل الشيء للالتحاق ببلد المحبوب. وتحملت الكثير المشاق والمعاناة، كما عاشت عددا هائلا من المخاطر، والآلام المشحونة بالقلق خلال سفرها الذي استمر ساعات من القلق والرعب والانتظار. وفي الأخير عندما وصلت الى مطار بلد المحبوب تبخرت كل الأحلام الرومانسية، وانزوى الحب مذعورا مخذولا، في ركن قابع في كهوف البنيات النفسية العميقة، الموشومة بالوحدة والنقص والانكسار والخوف والحرمان العاطفي….

خذلان رهيب فجر تلك البنى العميقة التي تشكل جوهر الذات، واعتلى حب أعمى منصة القلب. معلنا في صمت قاتل خفي ولادة المحرقة النرجسية، الساحرة في صناعات الوهم والقهر والتسلط والسحق لكل ما هو جميل في الإنسان والحياة: الحب والتعاطف والانسجام والثراء العاطفي والفكري والنفسي والجسدي الخلاق. نرجسية سامة مسكونة بالجروح والآلام والفراغ العاطفي، العاجز عن التواصل والتفاعل الإنساني الجميل والنبيل الخلاق. والمفعم بجنون التفوق والاستعلاء والتبلد الإنساني، شعورا وإحساسا وعاطفة ورؤية للذات في الاخر، كأنا نفسي.

“أعدّ الساعات، والدقائق، والثواني، التي باتت تفصلني عن اللقاء المرتقب، منذ سنواتٍ وأنا أحلم بتلك اللحظة، التي سأصل فيها، سأجده قد تخطى بنفوذه عقبة الانتظار في صالة المنتظرين، ليصل إلى مكان هبوط الطائرة، حيث سيكون في استقبالي، حالما أهبط درج الطائرة، بل تخيلته، لا يطيق الانتظار، إلى أن أكمل هبوط الدرج، فيركض ليصعد إليّ، ويأخذني بين ذراعيه، وينزلني!”  22

لكن عند وصولها كانت الصدمة الأولى، تثير مخاوف مكبوتة، من العزلة والنقص والانفصال النفسي المرتبط بقلق الهجر(جون بولبي)، في بناءات الشخصية والتكوين الذهني و النفسي، والفكري والعقلي والعاطفي والاجتماعي. فيزداد الحب عماء مختلقا الأعذار، للصفح والغفران.

” ما أن وصلت إلى صالة الانتظار، حتّى رحت أذرعها بعيوني بحثاً عنه، لكنّني لم أرَ أحداً، ثمّ رحت أحدّق في اللافتات التي رفعها بعض الأشخاص، علّي أجد اسمي مكتوباً على إحداها، وأحظى بمندوبٍ من العلاقات الثقافيّة جاء لاستقبالي، وانتشالي ممّا أنا فيه، فلم ألمح أثراً لاسمي! بقيت واقفةً شبه ذاهلةٍ، وأنا أرى المسافرين يلتقي كلّ واحدٍ بذويه، يسلّمون على بعضهم بالقبل، والأحضان، وباقات الورود، ثمّ يغادرون المطار، لا أعرف

كم مرّ من الوقت، حينما تنبهت إلى نفسي وحيدةً، في صالة الانتظار…

وقفت مخذولةً في مطار المحبوب، أتّكئ على حقائبي، وقد اقتربت الساعة من الثالثة فجراً، وحيدةً ومرهقةً وتائهةً وغريبةً.” 26و27

تعود بها الذاكرة الى الماضي، في ظل هذه المحنة، في بلد المحبوب، التي ستتوالد منها سلسلة من محطات الخذلان المؤلمة، التي رافقتها في تجربتها الزوجية مع المحبوب في بلد الغربة. ستتذكر عودتها أول مرة الى تل الوردة بعد التحصيل العلمي والارتقاء النفسي والفكري والاجتماعي الذي حققته بفضل اجتهادها تبعا للمعايير الصارمة التي فرضتها على نفسها، انسجاما مع الوضع الاعتباري، جاها ومكانة لأسرتها وعائلتها وسط أهل تل الورد. تتغذى عبر الذاكرة على الفرحة والاستقبال العاطفي والأهلي الذي حظيت به عندما عادت الى بلدها. لكن تضحيتها المادية مع أسرتها، حفرت في نفسيتها مخاوف الوحدة والنقص والعجز، والتضحية القهرية، حماية للنفس من الآلام والجروح الدفينة في تجاويف الذاكرة والعقل والجسد، والعجز عن المواجهة وبناء الذات الحرة المستقلة الجريئة، المتحكمة في زمام مصيرها.

” مضيت إلى الغرفة التي غادرتها قبل ألفٍ وثمانين يوماً، إلى شبه الغرفة ذات السقف الواطئ، على شكل شبه منحرفٍ، غرفةٍ صغيرةٍ، كانت في أصلها حظيرة للبهائم، ثمّ صارت مستودعاً صغيراً لتخزين العلف، ثمّ حوّلتها إلى غرفةٍ لي، لحاجتي القصوى لغرفةٍ خاصّةٍ بي، لأتمكّن من المذاكرة والتحضير للاختبارات، إذ يتعذّر عليّ القيام بذلك، وسط ضجيج إخوتي وأخواتي، جلست فوق السرير الحديديّ الصغير، الذي كنت أنام عليه، هو نفسه لم يغيّروه لي، كلّ شيءٍ في مكانه، أرفف الكتب التي صنعتها، التصدّعات في الجدران، والدهان المتقشّر، والطاقة الصغيرة بدلاً من النافذة، بدأ جسدي يختلج، وبعكس ليلتي الماضية، التي لم أستطع النوم فيها شوقاً إلى العودة إلى تلّ الورد، لم أنم ليلة وصولي، فظللت ساهرةً أتأمّل خيبتي! “34و35

وكانت ليلتها الأولى في بلد المحبوب في الفندق مرعبة وجهنمية بسبب الحمى التي كانت تلتهم جسدها وتخرب نفسيتها المسحوقة بخذلان المحبوب. وهنا أيضا انفجرت مسارب الذاكرة بشلال حنين هائل الى أهلها وتعاطفهم معها، خلال نوبات المرض والحمى التي كانت تتعرض لها في بيت أهلها. والآن هنا، في الفندق، لا أحد بجانبها غير الخذلان الذي سيثير جراحات ألم عقدة الذنب و مشاعر ألم الوحدة والنقص والعزلة والتضحية المجانية بالذات رمزيا وماديا. مما يسمح نفسيا بتشغيل لا واعي لآلة العماء في صناعة الأعذار، والمبررات للحب الحالم، الواقع تحت وطأة سطوة جاذبية المحبوب النرجسي.

” يقتلني الصمت المطبق من حولي، والخذلان الذي منيت به، في أوّل ليلةٍ لي في بلد المحبوب!

 صباح اليوم التالي تمكّنت من فتح بريدي الإلكترونيّ، وجدت رسالةً باردةً من المحبوب، يقول فيها أنّه كان من المفترض أن يصل قبلي، لكنّه اضطرّ إلى تأجيل موعد سفره لأسبابٍ طارئةٍ، ضعفت أمام رسالته فالحبّ أعمى، والمحبّون عميان كما يقولون، التمست له العذر، وقلت في نفسي: لا شكّ أن ظرفاً قاهراً حال بينه وبيني!” 36.

هكذا ستعيش يوما بعد آخر، بعد أن التحقت للعمل بالجامعة، الكثير من تناقضات والتباسات المحبوب. كما ستتعرف على مناخ تربوي تكتنفه علاقات سامة، عن طريق عبد الظاهر الأستاذ الجامعي الذي تكفل، بتوصية من مسؤول، بتيسير جميع الإجراءات لبدء عملها. والفظيع في الأمر أنها ستتلقى، صدمة ثانية، بعد شهرين من وصولها المشبع بالمخاوف والإحباطات، وحالات من الخيبات والخذلان المفعم بالآلام. الشيء الذي سيعمق عبوديتها العمياء، للذكورة النرجسية المولعة بالتفوق وجذب الانتباه والاهتمام والإعجاب، بالموازاة مع فقدان الحس الأخلاقي للاعتذار، والشعور بالأسف عما حصل. يحدث هذا بشكل أناني ومتعجرف، دون أدنى تقدير لحاجات الاخر ومتطلباته. لأن تمركزه حول الذات، ورغبته الجنونية في السطو على مركز الاهتمام والإعجاب، تلغي تفاعله وتعاطفه الإنساني مع الاخر. دون أن يرف له جفن الندم الغارق في سبات الأحقية الذكورية المطلقة.

“مرّت المرحلة الأقسى، قبل أن يصل المحبوب، في الوقت الذي كنت أحتاج أن يكون فيه بقربي، لم أجده، جاء بعد شهرين من وصولي، عانيت كثيراً في غيابه، كنت حانقةً عليه، مع ذلك كنت متحمّسةً للقائه، خفق قلبي مثل طيرٍ مذبوحٍ، حينما رنّ هاتفي،

ورأيت اسمه يظهر على الشاشة، تلكّأت في الردّ، إلى أن استعدت وقاري، جاءني صوته خافتاً، لا يضجّ بالشوق لي، راح يخبرني عن متاعب سفره، وكيف وجد البيت، بعد طول غيابه عنه، مملوءاً بالأتربة، وأنّه من المحتمل أن يعاود السفر مرّةً أخرى، شعرت بإحباطٍ، وقلت له: أنت أدرى بما ينبغي عليك فعله، فقال: أريد أن نتعشّى معاً، ونتحدّث قليلاً، قبلت الدعوة، وقلت في نفسي: سينكشف كلّ شيءٍ قريباً، سأعرف ما الذي يجري، وإلى أين ستتّجه البوصلة!” 40

هكذا تورطت حواء في لعنة الذكورة النرجسية، وعليها أن تتلقى ضربات المذلة والمهانة والخذلان. فالمحبوب بطبيعته النرجسية عاجز عن إظهار الاهتمام والتعاطف. عاشق لنفسه ومنشغل ومستغرق بذاته المكلومة المعذبة بمشاعر النقص والدونية وغياب الأمان. متجنبا في تجبر وتسلط عدواني الروابط العاطفية وما تتطلبه من إدراك واستيعاب حاجيات الاخر النفسية والعاطفية والأخلاقية. لذلك كان طبيعيا أن تعيش حواء مذلة الخذلان، في عيد ميلادها أمام قسوة نرجسي يتجاهل مشاعر حبيبته. لأن ذاته المجروحة الممزقة تستنفذه، تدفع به نحو التعجرف والتوق الى الكمال والتمجيد والتعظيم. وهذا ما يفوت عليه عيش جمالية وإنسانية الروابط العاطفية والودية مع الآخرين.

“تصادف يوم ميلادي مع مناسبةٍ أخرى للمحبوب، أخبرني أنّه في هذا اليوم سيحتفي بإشهار عددٍ من مؤلّفاته في معرض الكتاب، سيمرّ بي لاصطحابي، لأشاركه فرحته مساءً، رحّبت بالفكرة، وهجست في سرّي: لا شكّ أنّه سيجعل الفرحة فرحتين، بعد الانتهاء من حفل توقيع كتبه، سيصحبني لأحد الأماكن، كي يحتفي بأميرته في يوم ميلادها، من المؤكّد أنّه سيحضر هديّةً تليق بي…

انتهى حفل التوقيع، واقتربت الساعة من العاشرة، موعد إغلاق المعرض، فهممنا بالمغادرة، في طريق العودة، كنت أنتظر المفاجأة، من المؤكّد أنّه يتّجه بي إلى مكانٍ ما، لنحتفل بعيد ميلادي، بينما أنا سارحةٌ في أوهامي، أيقظني صوته، ليقول لي: ها قد وصلنا، تصبحين على خيرٍ، وجدت نفسي أمام الفندق، وقد أعادني إليه، لم يتذكّر أن يقول لي: كلّ عامٍ وأنت بخيرٍ! نزلتُ من السيّارة، صعدت إلى غرفتي على عجلٍ، وأنا بالكاد أتبيّن طريقي، بعد أن فاضت دموعي، حالما دخلت الغرفة،

ارتميت فوق السرير، أجهشت بالبكاء بأعلى صوتي، بكيت إلى أن تعبت في يوم عيد ميلادي! لم أعرف طعم النوم في ليلة الخذلان هذه، سأشعر بغصّةٍ، وتفيض دموعي، كلّما سأتذكّر فيما بعد، أنّه خذلني في أوّل مناسبةٍ، يتصادف فيها وجودنا معاً، وأنا التي ضحيّت بكلّ شيءٍ من أجله! كنت سأرضى بأيّ شيءٍ، بل لم أكن لأشعر بكلّ هذا الخذلان، لو أنّه اعتذر منّي فقط، وطيّب خاطري بكلماتٍ بسيطةٍ، من قبيل أنّه لم ينس عيد ميلادي، وسيفرد له يوماً خاصّاً، ويحتفل بي في وقتٍ آخر، لكنّه لم يقل شيئاً! كدت أموت في ليلة خذلاني، صباحاً نهضت متثاقلةً أجرجر خيبتي.” 43و44

وبعد كل خذلان يأتي خذلان آخر أبشع منه، وحواء الدكتورة، الطبية النفسية تنزل نحو القاع القذر للمذلة والمهانة. النرجسي ممعن في تحطيمها، والتنكيل بقيمتها الذاتية. ومع كل موقف صعب يختفي، يسافر، يبتعد، يتعجل الهروب من التعاطف والتواصل الإنساني. يمارس لعبة الأقنعة للتستر على آلامه، و جروحه الحافرة لأخاديد الرعب في ذاكرته الموبوءة بالنقص والفراغ العاطفي والخزي على ماضيه الملوث والمشبوه.

يخشى عواطفه ويجهل الروابط الحميمية والودية. لذلك هو في حالة طوارئ قصوى خلف قناع المجد والتفوق والاستقامة الزائفة، صدره أضيق لا يقوى على التواصل، أو بالأحرى على قبول النقد والاختلاف، والأخذ والعطاء. وهذا ما جعله مستبدا، متسلطا وعدوانيا عنيفا. يحترق من الداخل، متوهما أن الاخر يمكن أن يؤذيه( في علاقاته الجنسية مع النساء)، وحتى مع زوجته وأهله المقربين. ذاكرته مفجوعة بالوحدة والخزي والقهر والنقص الذي كابده في تكوينه النفسي والفكري والعاطفي والاجتماعي في مراحل حياته الماضية. هذا ما تعكسه سلوكياته وتصرفاته وردود أفعاله الهائجة والمضطربة. كما لو أن الرأي المخالف له يسيء إليه، ويمس هيبته، وتوازنه الهش. لذلك فإن فوبيا الانسجام والتناغم العاطفي تهدد كيانه الذاتي بالتلاشي والانسحاق الوجودي. لهذا هو متمرس على الهجوم والتهجم والتقريع والتدمير والانتقاد الهدام. هكذا عاشت حواء تجربتها الزوجية تبعا لجدلية الحب والكراهية، التعاطف والحقد، القمع والحرية. فقد كانت حواء في نظره مجرد شيء تافه يمكن التخلص منه في أقرب وقت ممكن بالهجر، والانفصال و الطلاق…

ومع كل صفحة من الرواية تتوالد ليالي وساعات ولحظات الخذلان الرهيب المفكك للذات نفسيا وجسديا. ويظل السؤال الجهنمي عالقا في ذهن القارئ. متسائلا عن سر هذا التعلق الأحمق والأعمى لحواء بهذا الرجل الذكوري والنرجسي السام. خاصة وأن القارئ يعرف الأعماق والخلفيات النسوية الفكرية والعاطفية والاجتماعية التي شكلت ذات وشخصية حواء. فقد صمدت في وجه التصورات والمعتقدات والتمثلات الاجتماعية والثقافية، للمجتمع الأبوي الذكوري، التي تحتقر النساء وتنزع عنهن كرامتهن وقيمتهن الإنسانية. وشيدت عوالمها الحالمة الخاصة في عيش الحب بأوسع معانيه الرومانسية الإنسانية في احترام المرأة فهما وتفهما لرغباتها، واحتياجاتها الفكرية والنفسية والجسدية، والعاطفية والاجتماعية. كما وقفت في وجه القمع السياسي الدنيء للجهاز الأمني والعسكري والمدني الذي تطاول في المس بخصوصيتها وكرامتها. بالإضافة الى هذا كله يعلم القارئ أن حواء طبيبة نفسية جريئة ومحنكة. فما السر في استعدادها وقابليتها للعبودية والخنوع والخضوع الأقرب الى الحالة المازوشية؟

“التمستُ له مئات الأعذار، حاولت أن أفرح بهديّته، التي لم تأتِ في وقتها، قلت لنفسي: أن تصل متأخرّةً، خيرٌ من  ألا تأتي أبداً، دعوت الله أ الّا يتكرّر خذلانه لي، لا أريد لأيّ شيءٍ أن يبعدني عنه، فقد تعلّقت به، إلى درجة لم أعد أتخيل فيها حياتي بدونه، يكفيني أن يكون بقربي، حتّى أشعر بالسعادة، لا أملّ من الاستماع إليه، مهما طال حديثه… لم أكن طامعةً بشيءٍ سوى حبّه، الذي حلمت أن يغمرني به، فأتنفس عشقاً، وآكل عشقاً، وأشرب عشقاً، ما ينقصني هو العشق، الحبّ الغامر، واليد الحانية، والقلب الكبير، أمّا الأشياء الأخرى فلم تكن في خاطري.” 46

لم يكن لهذا التمني، المشبع بالعشق الحالم بالتفاعل والتواصل، الفكري والعاطفي والشعوري، أن يجد طرقا ومعابر نبيلة للعبور الآمن، وتبادل الأحاسيس الحميمة المُثرية  والمخصبة للذات والأخر. فقد سطا النرجسي على مهرها دون حياء ولا خجل أخلاقي. مُبخسا حالتها النفسية وأحاسيسها ومشاعرها. مستسلمة بخنوع وقهر وذل لقدرها المكتوب في بنياتها النفسية والجسدية والفكرية والعاطفية. التي حرمتها من الرؤية الواضحة الجريئة لفظاعات الذكورة النرجسية. لهذا الرجل المتبجح بماضيه المتخم بالعلاقات الجنسية النسائية المتعددة. نرجسي مقنع بالفكر والفلسفة والتفوق، وسحر جاذبية الشخص المتفهم المنفتح، الناجح والمشهور، وسط علية القوم كما زعم أو شبه له ذلك.(هذا ما لاحظته حواء في مواقف مختلفة، في معرض الكتاب…).

 وأيضا أثرت قسوة المعايير الصارمة التي تشربتها حواء، وتربت عليها في عائلتها. الى جانب قبولها الجندري الاجتماعي الثقافي بالتضحية والعطاء الأحادي خوفا من عقدة الذنب والتأثيم، مع ما رافق ذلك من قهر الحرمان العاطفي الذي كابدته حواء في جسدها ونفسها وأفكارها وعواطفها.  الشيء الذي جعلها تزداد خنوعا وخضوعا وبكاء واستسلاما للتشكل الثقافي الاجتماعي للأبوية الذكورية، في أن تصبح امرأة، أو بالأحرى حرمة. أو مجرد متاع صالح لتفريغ سموم الذكورة النرجسية. كانت مهزومة، وهي تكرس التفوق والتجبر والقهر الذكوري، في جمعها بين كونها أداة للجنس المقرف، والقيام بأشغال البيت والعمل في الجامعة.

“ويتعالى حسّي بالإهانة، حينما أتذكّر أنّه كان يرتدي الواقي مع عشيقاته، ليحمي نفسه من مرضٍ ما، أو حدوث حملٍ! يا إلهي إنّه يعهّرني! أهرع بعد ابتعاده عنّي إلى الحمّام، أقف لوقتٍ طويلٍ تحت دوش الماء، تمتزج دموعي الحارّة بالماء الساخن، أحاول أن أتطهّر، وأنا أجترّ طعم الخذلان!” 63و64.

ومع سيرورة القراءة للرواية  لا يكف السؤال حول سر الحب الأعمى، عن دق الأجراس في عقل وفكر ونفسية القارئ، من خلال تفاعله الخلاق المبدع، للتعاطف الإنساني مع حواء، وهي تتقلب في محرقة النرجسي، الذي يجهل الأسف والندم والاحساس بآلام الاخرين. حيث ظل عدوانيا منشغلا ومهتما بذاته في مختلف المواقف الصعبة والحرجة التي عاشتها حواء. فارضا متطلباته وتسلطه بشكل يلغي كليا حواء، ليس فقط في متطلباتها ورغباتها واحتياجاتها كزوجة وإنسانة لها حقوقها وقيمتها الإنسانية. بل أيضا على مستوى وجودها الاجتماعي الإنساني، كسيد يمتلكها صوتا وجسدا وحقوقا. كما لو كانت حواء تسير في درب معتم خائفة من ضياع الحب والمحبوب. الشيء الذي جعلها تغرق في الدائرة الجهنمية لقسوته ومتطلباته، مضحية بثقتها وقيمتها الذاتية. متنكرة لاحتياجاتها تحت وقع سحر النرجسي الذي يدفعها لاختلاق الأعذار، واتشبت بوهم عيش السعادة والعشق الجنوني الحالم بجنة الحب الرومانسي. لذلك لم تكن تملك أمام الخذلان القهري، المتكرر باستمرار غير خدمة سطوة الذكورة النرجسية السامة. والتضحية بنفسها، في أن تكون مثالية في الخدمة والعطاء، مهما كان الثمن الباهظ الذي تدفعه من روحها و جسدها الحي.

ولا يهم إن كانت متعبة، أو مريضة. لأنه ينظر ولا يرى ظروف وأحوال وحقوق و اهتماما زوجته. تلبس الرجل في بداية العلاقة معها قناعا مثاليا ساحرا، أخفى الذكورة النرجسية التي تنظر الى من حولها باحتقار واستعلاء وتسلط عدواني.  خصائصه النفسية والفكرية والمعنوية هذه جعلته منعدم الحس الأخلاقي، والشعور والاحساس بآلام وحاجات ومرض زوجته. لا يهمه سوى إلقاء الخطب الرنانة والاعتداد الأجوف المسكون بالنقص والحرمان والعجز عن التواصل والتعاطف الودي.

“فبينما أكون في حالةٍ يؤذيني فيها هبوب الريح، وأدنى همسةٍ تزيد آلامي، يواظب المحبوب على ممارسة طقوسه اليوميّة، يرفع صوت التلفاز عالياً لسماع الأخبار، يحدّثني لساعاتٍ عن تجاربه وإنجازاته، أو عمّا يقرؤه، أو يفكّر فيه، بدون أن ينتبه إلى أنّني في أمسّ الحاجة إلى الهدوء والصمت! كنت أتعالى على وجعي في سبيل إرضاء المحبوب، لكن إرضاء المحبوب غايةٌ لا تدرك، فشهوة الحديث لديه لا تنتهي، وتغنّيه بماضيه، وتجاربه وأسفاره لا ينتهي، وتنظيره ومواعظه وإعطاؤه التعليمات لا ينتهي، وصداعي أيضاً لا ينتهي!”  77

القارئ يعسر عليه أن يفهم سر هذه العلاقة المرضية التي سقطت فيها امرأة متنورة متعلمة، ودكتورة تمتهن الطب النفسي. ومتفوقة في عملها وشغلها ، إلى حد أنها تفرض نفسها باجتهادها وتفوقها. وتلقى القبول والاعتراف والتقدير من المسؤولين في الجامعة. لكنها في البيت، محط الانتقاد والتقريع والتعنيف والتجاهل والتبخيس. ومجرد حرمة، تتحول الى أمة في ملك سيدها. لا تملك حق الكلام والتعبير والمطالبة بحقوقها الطبيعية والاجتماعية الإنسانية. فالنرجسي غارق في ذاته متمحور حول نفسه. وقته موزع بين القراءة والكتابة والنوم والطعام والجنس. وهو بذلك يحمي هشاشته الداخلية التي سرعان ما يخلخلها النقد والاختلاف في الرأي والفكر. يخاف من انكشاف عريه ونقصه المزمن الناجم عن الدونية المترسبة في أعماقه وأفكاره وعواطفه. يتجنب التفاعل العاطفي الخلاق الموقظ لجروحه وآلامه الدفينة. لذلك يمعن في رفع المتاريس في وجه الحوار والنقاش والنقد البناء للعلاقة الصحية المُنمية للذات والأخر. سرعان ما يفقد قناع الهدوء والمجد والاستقامة، ويختل توازنه، ويسقط صوابه،  كلما طالبته حواء بالعلاقة الزوجية التي تتطلب منه التفاعل والقبول والتقبل والاعتراف بالآخر ، في احتياجاته وأفكاره وحقوقه وعواطفه…

“أسمعني كلماتٍ قاسيةً، لم أكن أتخّيل أن تصدر عنه، كانت نظرتي إليه تصل حدّ القداسة، لكنّه أهانني بكلماته، شعرت أنّني لا أعرف هذا الرجل، أيعقل أنّه المحبوب، هو من تلفّظ بتلك الكلمات؟! لا يمكنني تصديق ذلك، يا لخيبتي، ورحت أبكي قهراً!…

ازداد ألم الصداع إثر التوتّر، الذي حدث بيننا، وبقيت أبكي بصمتٍ، تخيلت أنّ المحبوب سيقترب منّي معتذراً عمّا بدر منه، بيد أنّه لم يبالِ بي وبدموعي، حينما اقترب موعد التوجّه إلى الطائرة، قال لي بلهجةٍ آمرةٍ: هيّا انهضي، فقلت له: لا يمكنني أن أعيش معك! لم أكن أقصد ذلك، كنت محتجّةً على طريقة معاملته لي، أردت لفت انتباهه إلى أنّه لا يجوز أن يعاملني بتلك الطريقة، في بداية الرحلة التي يفترض أنّها رحلة شهر عسلٍ، فحتّى لو كنت مخطئةً، ما كان لمحبٍّ أن يتصرّف بتلك الطريقة مع محبوبته، كان يمكنه أن يكون متسامحاً، ويتغاضى عن خطئي، وتقصيري، إن بدر منّي، أمّا أن يهينني في بداية الرحلة على ذلك النحو، فهذا ما لم أستطع تصديقه!” 79و80

هذه هي الأقنعة التي عرتها حواء في تجربتها الممتعة والمؤلمة، في علاقتها بالذكورة النرجسية. وهي تتنازل عن حقوقها كاملة وتقبل هذا النرجسي باسم حب حالم عشش في خيالها. ليس لأنه حب غير مشروع، أو ليست له الكثير من الصوابية والأحقية الأخلاقية والإنسانية، بل لأن زوجها لا يستحق، ولم يكن في مستوى القناعات والأفكار والعواطف التي حملتها حواء في قلبها وعقلها وجسدها. كما عرت ردود فعلها السلبية هشاشتها حين قبلت العيش ضمن ما تمليه الأرضية الجندرية التمييزية والتبخيسية و”الجمالية” الأبوية الذكورية (الرسائل، القصائد، كل الكتابات الذكورية التي سحرت عقلها وهي تقدم لنا الحب الذكوري الحالم، فخا للعبودة المختارة). وهي تكرس النمطية الدونية للمرأة المرعوبة الخائفة المذعورة أمام سطوة الذكورة. لذلك غرقت في موجات النرجسية المشحونة بالقرف والغثيان والبكاء والأمراض الجسدية والنفسية والعاطفية…

لهذا يجد القارئ نفسه متورطا في صراع رهيب، وهو يتعرف على بشاعة الشر الكامن في البنيات والقيم الاجتماعية، والثقافية والنفسية. للمجتمع الأبوي الذكوري الذي يورث الناس شفرة نفسية فكرية جسدية لللاشعور الثقافي الاجتماعي الجمعي. شفرة لا تؤسس ايجابيا للأفكار والعواطف والأحاسيس والعلاقات والدلالات والمعاني القيمية الإنسانية النبيلة، في احترام الذات والأخر، وقبول النقد والاختلاف. والجميل في الرواية أنها تعني القارئ، تقصده وتستهدفه.  وتفجر الطبقات الرهيبة للبنيات التحتية النفسية والجسدية، والاجتماعية الثقافية، التي تشكل ذاته، وتمنحه رؤية جاهزة نمطية للذات والأخر والعالم. البنيات التي تحدد وجهة له، دون أخرى، في الخنوع والخضوع والاذعان، أو في العدوانية والنرجسية والتسلط الأجوف. لذلك تخوض الرواية جدلية الحرية والكرامة والحب والحقوق والعدالة، ضد الذكورة النرجسية وما شابهها من بشاعات وفظاعات تشتغل في الظل، وتدمر الإنسان فينا…  /يتبع/

____________________________________

أسماء معيكل، رواية ” ليالي الخذلان”، (منشورات رامينا،  الطبعة الأولى، 2024)

Visited 69 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي