هل الترجمة إبداع أو مجرَّد استنساخ؟
سعيد بوخليط
غالبا ما يبدو ضمن التقليد المرسَّخ، إمكانية التساؤل حول الهوية الإبداعية للترجمة ومنحاها الحداثي أو فقط عملية استنساخية لبنيات قائمة سلفا، بمثابة استفسار استنكاري يضمر تهكُّما نحو الترجمة، أو بالأحرى تبخيسا ضمنيا لفعل الترجمة وتشوُّفه، كما الحال بالنسبة للتأليف والكتابة النظرية المستندين على حافز الخلق والانتشاء والولادة الجديدة، مقابل الترجمة التي هي استنساخ.
لقد صارعت الترجمة طويلا، كي تنتقل عموديا حسب مراتب تخرجها باستمرار من القصور النظري والجمود المنهجي، سعيا إلى تجاوزها حتمية التوصيف الجاهز، الحاضر من الوهلة الأولى، حيث اعتبار فعل الترجمة فقط عملية قيصرية تخرج الجنين عنوة وقسرا لأسباب غير طبيعية بين الألم والدماء، فيكون عرضة لبعض الآفات والتشوُّهات البيولوجية غير المنتظرة لو حدثت الولادة طبيعية.
استعارة هذه الصورة، تقرِّب في رأيي تحديد أفق الترجمة كإبداع أو استنساخ. تحوُّلات تعضَّدت كثيرا، نتيجة التطوُّرات النوعية التي عرفتها الدراسات اللغوية واللسانية والنقد الأدبي، وماحقَّقته العَلامة اللغوية من ثورة هوياتية أخرجها كليّا من الأحادية وأغناها بثراء دلالي لانهائي، صارت معه متسيِّدة على حياتها بكيفية لحظية دون توقُّف، بحيث تتجاوز تماما ممكناتها صوب أخرى جراء كلِّ تأويل. ثورة، اكتسحت الثالوث المقدَّس: الكاتب، النصّ، القراءة.
في خضم ذلك، لم يعد ممكنا الإشارة بهذا الخصوص ولو همسا الإحالة على الاستنساخ، والانحياز بكل أريحية إلى الترجمة، كإبداع جديد وقراءة أخرى وكتابة بطريقة مغايرة تستدعي مختلف آليات العملية الإبداعية انطلاقا من مشروع شخصي، ورغبة وشغف وخيال وذكاء وعقل وقلب ومنظور مفتوح بكيفية لامتناهية.
الترجمة إبداع، خلق ثان، قراءة موحية، كتابة حسب المفهوم العميق للكلمة. يتجلى هذا التأويل واضحا، عندما يشتغل المترجِم على ترجمته بكل جوارحه، وأحاسيسه تتماهى مع هذا التطلُّع نحو تقديم قراءاته للنص، لكنها ليست قراءة محايدة، بل منحازة، مكشوفة، جهورية، موثِّقة، قد خرجت إلى العلن بكيفية رسمية وطرحت نفسها أمام العموم قياسا لقراءات أخرى، لا تتجاوز النطاق الشخصي، واكتفائها بمرحلة الهواجس الصامتة.
الاستنساخ مفهوم قدحيٌّ، موصول بوجود غير أصيل، مستلبٍ، مشروطٍ دائما بعلَّة في مكان ما، وغالبا لا تتحقَّق للكائن المستنسخِ قيمة إضافية، لكن مجرَّد تكرار وتحصيل حاصل، أو فقط صورة مشوَّهة غير مكتملة مقارنة مع النسخة الأصلية.
بغية تقريب الصورة أكثر، للتأكيد على أنَّ الترجمة إبداع وليست نقلا عبر متواليات علامات لغوية أخرى في إطار نفس المعنى، يمكن استحضار حالتي ترجمة جيِّدة وأخرى سيِّئة، المرتبطتين أساسا بطبيعة دور الوساطة الذي تقدِّمه قراءة مقارنة مع قراءة أخرى.
الترجمة الجيِّدة، حصيلة قراءة شغوفة، بينما تعبِّر الترجمة السيِّئة، عن الإخفاق في بلوغ قراءة يقِظة وحالمة من النوع المأمول، لذلك تسقط في كَنَفِ مختلف معاني الديداكتيكية العقيمة التي تقتل روح الإبداع والخلق، لصالح الانغلاق والاجترار، بالتالي لا جدوى من فعل غير منتج لحقيقة أخرى سوى القائم والماثل سلفا.