من الجن إلى التحليل النفسي.. مشوار لتاريخ مركب

من الجن إلى التحليل النفسي.. مشوار لتاريخ مركب

كاركاسون- المعطي قبال

           أي موقع للتحليل النفسي في مجتمع تسود فيه منذ حقب قديمة الممارسات الشعبية التقليدية لعلاج المرض النفسي أو العقلي؟ غالبا ما رمى المحللون النفسانيون التقاليد الشعبية من رقص، شطح، تعاويذ سحرية، الخ.. باسم العقل، في سلة المهملات. لكن مراس جليل بناني في الوسط التقليدي الشعبي وكذا في ميدان التحليل النفسي، جعل من التنافر بل الإقصاء بين الممارستين،  تعايشا وتكملة بينهما. عوض ضرب التقاليد عرض الحائط بحجة أنها من باب الفكر الخرافي اللاعقلاني والشعوذة، ارتأى المحللون النفسانيون المغاربيون  الحفاظ والاشتغال على هذا التعايش. في هذا الأفق الفكري، ظهرت العديد من الأبحاث تزاوج بين التحليل النفسي والممارسة الشعبية بقصد إشفاء الذات وفك عقدها. ويعتبر جليل بناني في خارطة المحللين أنشطهم في ميدان الممارسة والتنظير. وله عدة مؤلفات في مجال التحليل النفسي توجت بجوائز قيمة مثل «محلل نفسي بالمدينة»، الذي نال جائزة الأطلس الكبرى، ثم جائزة سيغموند فرويد لمدينة فيينا تتويجا لأعماله الكاملة. وآخر عمل صدر له في عنوان «من الجن إلى التحليل النفسي. مقاربة جديدة للممارسات التقليدية والمعاصرة»، صدر عن منشورات الرييل- آلدانتي.

يتقدم الكتاب على شكل جردة وافية ودقيقة تمنح للقاريء فكرة عن تاريخ التحليل النفسي في علاقته بالممارسات الشعبية، بالاستعمار وما-بعد الاستعمار. يتزاوج إذا التاريخ بالأدب، التحليل النفسي بالإثنوغرافيا، الطب بالسحر والشعوذة كل ذلك بهدف إلقاء إضاءة على البنية السيكولوجية للمريض، سواء أكان شخصا به همس من الجنون أو مختل عقليا أو يعاني من هلوسات فصامية، سكيزوفرينية. وتختلف التأويلات بحسب تكوين المحلل، شروط وظروف ممارسته، وأيضا بحسب نوعية المرض الذي يشتغل عليه. في التقديم يقف المؤلف عند مفهوم المجنون ومرادفاته العديدة في اللغة العربية وفي التقاليد الشعبية: المسكون، المضروب، المسحور، المهبول الخ… من الثقافة الشعبية إلى الخطاب العلمي فإن المعجم والسجلات تختلف وتتنوع. فالأول يموضع المرض في عالم شمولي فيما الثاني يعتبر أن المرض يخص في المقام الأول الفرد أو الذات. يجد المحلل النفسي المغربي نفسه ما بين لغتين، ثقافتين، ونظامين للعلاج. إما يواجه أو يتعايش مع الأخصائي النفسي، عالم النفس والمحلل النفسي. ويشير جليل بناني إلى أنه بصفته أخصائي ومحلل نفساني يواجه باستمرار هذا النوع من المشاكل. قناعته العقلانية لا تتعارض مع ما هو لا عقلاني. ذلك أن العقلانية توجد في الممارسات التقليدية كما توجد في الممارسات الحداثية.

لذا لا يقيم جليل بناني أي تفرقة بين التقليدي والحداثي. تتألف التقاليد من العلامات، الآثار، العادات، الأمكنة. فهي حاضرة في الحياة اليومية للمغاربة وتتوارثها الأجيال. الحفلات، الطقوس، الموسيقى، الرقص، معتقدات الماضي السحرية لا زالت قائمة في الحاضر. غير أن التقاليد ليست بتاتا خالصة أو حرة بل أدمجت واستقبلت على مر التاريخ مؤثرات تمت وراثتها عن ثقافات أخرى. وينطبق الأمر اللغات وأيضا على بعض الحفلات،العادات والتقاليد الغذائية. فالطقوس التقليدية مثل «الشطح» لاتزال حية وتتعايش مع الحقل الديني. كما أن التقاليد تقوم على نفس القاعدة اللغوية. في الممارسات السحرية الأكثر تقليدية يمكن أن نعثر على مفاهيم يمكن الاشتغال عليها بشكل عقلاني. وعليه تغدت التقاليد بما أضفته الفلسفة والعلوم التي دافعت عن حرية الفكر وساعدت على تطور المجتمعات.  الأساسي إذن هو أن العلم الذي يقوم على زمنيته الخاصة، اكتشافاته وأشكاله يحرص على أن يكون للمريض معرفة بمرضه. التعرف على المرض، تصنيفه، تسميته، البحث عن أسبابه الداخلية الأخذ بعين الاعتبار رغبات الأفراد ومنح أهمية للكلام كانت من أهم الحقب للقطائع الابستمولوجية التي عرفتها النظريات

. أول قطيعة تمت ضمن الطب العربي الذي ورث عن الإغريق وأضاف مفاهيمه الخاصة وتقنياته. تعود القطيعة الثانية إلى الطب النفسي الكلاسيكي الأوروبي الذي حمل مسؤولية الجنون للفرد وليس لعناصر شيطانية. القطيعة الثالثة تعود إلى التحليل النفسي الأوروبي مع اهتمام بآثار المعتقدات على الفرد أو الذات، الانتقال من الموضوعية إلى ذاتية المعاناة. توفر إمكانية الخروج من إطار حصريا أوروبي لأنه يسائل على نحو آخر علاقة العقلاني واللاعقلاني. بالمغرب كما هو الشأن بفرنسا لعب الطب النفسي دورا هاما في تغيير النظرة للجنون وللمريض على نحو عام. كان مفهوما «السو» و«الباثولوجي» موضوع سجالات ونقاشات ضمن مختلف التخصصات وبالأخص في مجال الفلسفة، الانتروبولوجيا، الطب النفس، والتحليل النفسي. على مستوى التحليل النفسي نجد أن 3 دول ناطقة باللغة العربية تعتبر رائدة في إدخاله إلى مجال الممارسة: مصر، لبنان والمغرب. منذ الثلاثينات، كانت مصر رائدة في هذا المجال. وكان التحليل النفسي على قرابة مع الأدب، الفن، والفلسفة. عرف البلد الترجمات الأولى لفرويد في الخمسينيات. لكن السياسة العروبية الاشتراكية أرغمت العديد من المحللين النفسانيين على مغادرة مصر مثل سامي علي ومصطفى صفوان. بلبنان ترجع الإرهاصات الأولى للتحليل النفسي إلى السبعينيات. تحكمت الحروب والمجابهات في إيقاع انقطاعات أشغال جمعيات التحليل النفسي لكنها لم تمنع الحضور النشط والخلاق لأعضائها إلى يومنا هذا. بالنسبة للمغرب، يبقى البلد من بين بلدان المغرب العربي، الدولة الوحيدة الذي شهدت إدخال التحليل النفسي من طرف محللين فرنسيين في الحقبة الاستعمارية . تم هذا الإدخال في مجال الممارسة الخاصة وفي مجال المستشفى…

يقترح هذا المؤلف أدوات لمقاربة الكائن البشري في شموليته بدءا من إطار ووضع خاص. فالانتماءات الثقافية على اختلافها يمن أن تكون مصدرا للتبادل، الانفتاح والمساهمة في ما هو عالمي. وفسر جليل بناني طريقة اشتغاله مع المرضى وفي رحاب عيادته التحليلية بصفته محللا يتعامل مع عدة ثقافات تتراوح بين التقليدي والحداثة وفي بعض الأحيان تمتزجان فيما بينهما.

يفسر جليل بناني مشغوله التحليلي بفضل  تبليغ ونقل التحليل النفسي ضمن إطار  ثقافي ولساني مختلف عن الغرب. تبقى مع ذلك الثقافة الأوروبية حاضرة بقوة من خلال تقاليدها ولغاتها حتى وإن انخفض تأثيرها الشيء الذي مكنه من الانصات إلى ذاتيات بشرية وإنسانية، تحليل سلوكات لاوعية، معاناة وفوضى سيكولوجية في تاريخيتها. لا تكتفي أية ثقافة أية لغة بذاتها لتفسير ماهو مركب لدى الإنسان. تعددية هذا المركب هو ما يشكل الأساس الرمزي العالمي. لا يسعى العمل الإكلينيكي الذي يقوم به بناني إلى خلق معارضة بين مناهج العلاج التقليدي والحداثي . اقترح فقط مسارب للتفكير يتطابق فيها خطاب المعتقدات مع خطاب العلوم. كما أن رد الاعتبار لثقل التقاليد في المجتمع مع النظر إليها بمنظار العلم هو ما يطبع هذا العمل. في مقدمة الكتاب، يشير بناني، وقد يستغرب بعض المحللين لهذه الفرضية، بأن العقلانية توجد أيضا في الممارسات التقليدية مثل السحر والشطح مثل وجودها في الممارسات الحداثية. في بلد مثل المغرب يتعايش ويتعارض المعالجون، القديسون، ورجالات الدين مع الأطباء النفسيين، علماء السيكولوجيا ، وعلماء النفس.  باقتنائه لمفهوم النقد المزدوج، نقد الغرب ونقد اللاهوت، سعي بناني إلى إنجاز تفكيك مزدوج:  تفكيك الماضي الاستعماري وتقاليده الطبية وتفكيك التقليد الطبي-الديني الذي لا يزال فاعلا اليوم في المغرب العربي. ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام رئيسية: «حضور التقاليد»، «تأمل الحقبة الكولونيالية»، «إيصال العالمي». لكن البنية التي يقوم عليها الكتاب تسعى إلى تذويب المحلي في الكوني وذلك بغية تنقل المعارف والتجارب المرتبطة بهذه المادة. في القسم الأول يقف المؤلف عند بعض الممارسات والمعتقدات التقليدية بالمغرب في «الجن» وأساطيرها. في السحر مرورا بالشطح والزيارات… أو بالممارسات المرتبطة بحاضرة القديسين والزوايا. بحيث ان سجل القدسي والسجل العلاجي تمكن من خلق  رابطة بينهما.

 المنهجية التاريخية والتحليلية التي اعتمدها المؤلف تجيب على الرغبة في التمكن من مقاربة الميدان ومن الماضي الذي «انغرس» فيه التحليل النفسي بالمغرب العربي. على المستوى الطبي التقليدي، لم تخل ممارسته من العقلانية. خلافا للطب الاستعماري تعامل مع المريض على أنه كائن يندرج في العالم. كما أن الماريستان لعب دورا أساسيا في الاعتراف بالمريض وإدماجه في المجتمع. والماريستان يعتبر أول مؤسسة طبية في اليلاد العربية الإسلامية. أنشأ عام 1286 قام مارستان فاس أو سيدي فرج، بدور مركز للإحسان للمعوزين الأجانب، البؤساء والعجزة. كانت الموسيقى بهذه المؤسسة أحد طرق العلاج المستعملة. ويشار أيضا إلى دور الأدب في بلاد المرضى.  في القسم الثاني يسعى بناني إلى إعادة بناء تاريخي للتحليل النفسي وللمرض الطبي الكولونيالي.

سعي بناني هو تخليص الطب النفسي والتحليل النفسي من حمولتهما الأيديولوجية الكولونيالية. بعد هذه العملية تمت إعادة إدخال التحليل النفسي بدءا من 1980  في الوسط الجامعي ثم فيما بعد في مجال العيادات الطبية والعيادات الخاصة. كان المهاجر، مهاجر أوروبا الوسطى ومهاجر شمال إفريقيا والساحل الإفريقي، أحد العينات التي انصب عليها انشغال بناني. لأنها محملة بالتاريخ الكولونيالي وما بعد الكولونيالي. لذا فإن تحرير الطب النفسي من حمولته الكولونيالية على غرار ما قام به فرانز فانون، يبقى أحد المتطلبات التي تسند الممارسة السيكولوجية والطبية على حد سواء والتي تفتح أفقا على الطابع الإنساني والاجتماعي. علاوة على ذلك يقف جليل بناني عند الإضافة النقدية التي ساهمت بها الحركات النازعة للاستلاب والمناهضة للطب النفسي. وفي هذا المضمار لا بد من ذكر العمل الذي قام به ميشيل فوكو في دراسته: «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» والبحث الذي قدمه كل من جيل دولوز وفيليكس غاتاري عن «الطب النفسي المضاد». وقد أسس هاذان الكتابان لمنظومة فكرية فاصلة ولخطاب جديد أحدث قطيعة مع الخطاب الكلاسيكي ومع المقاربة الوضعية للجنون وطرق التعامل معه.

شارك هذا الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!