عَنِ اليُوسْفي مرَّةً أُخْرَى: أُصْبُع دِينَامِيتْ فِي برْمِيلِ بَارُود.. أخْمَدَ آلافَ الحَرَائِقِ ليُشعلها في الذَّاكرات! (4-4)*

عَنِ اليُوسْفي مرَّةً أُخْرَى: أُصْبُع دِينَامِيتْ فِي برْمِيلِ بَارُود.. أخْمَدَ آلافَ الحَرَائِقِ ليُشعلها في الذَّاكرات! (4-4)*

عبد الرحيم التوراني

عندما وجد اليوسفي قبر بنبركة!

         عاد عبد الرحمان اليوسفي إلى الدار البيضاء ليقيم في شقة صغيرة في الطرف الآخر من حي بوركون، قرب ملعب “فيلودروم” لسباق الكلاب، حيث يهتف المراهنون الفقراءعلى الكلاب التي تحمل الأرقام التي راهنوا عليها، ويصيحون بأعلى الأصوات في الكلاب أن تضاعف ركضها: “اجري يا خويا.. اجري يا خويا.”...

من أجل ربح ورقة رهان بسيطة يجعل الإنسان من الكلب أخًا له. لكن إخوة اليوسفي قرروا التنكر له واستمروا في حكومة جطو، بعد أن ألفوا واستصاغوا كراسي الوزارة. وقد سخر الناس من الكاتب الأول للاتحاد محمد اليازغي، حين لقبوه بـ”الوزير السي محمد الصاكادو”، لأنه قبِل أن يعين وزيرا بدون حقيبة في حكومة إدريس جطو. وبذلك عمّر الاتحاد في الحكومة “سنين عددا”، مثل أصحاب الكهف، حوالي 13 سنة، ضيَّع فيها تاريخ ومجد أزيد من نصف قرن، وخسر فيها مصداقيته لدى أنصاره وجماهيره التقليدية. واكتملت الفرجة بانكماش الحزب وقبوله الخضوع لحزب القصر الوليد، حزب الأصالة والمعاصرة، الذي هاجمه لشكر في البداية، قيل إنه هو من أطلق عليه تسمية “الحزب الوافد”، فإذا به يمشي في ركابه ويصبح وزيرا مكلفا بالعلاقات مع البرلمان بفضل تدخل إلياس العماري، بل سيتم فرضه من ذات الجهة على رأس الاتحاد في المؤتمر الوطني التاسع الذي انعقد في بوزنيقة ما بين 14و16 دجنبر 2012.

لم يعد من الأسرار الخفية اليوم أن عددا من أعضاء المكتب السياسي للاتحاد، يضعون ولاءهم الأساسي لحزب القصر “البام”، يتسابقون في تلقي التعليمات منه وتطبيق أوامره. (نرجئ هنا ذكر لائحة الأسماء التي تتحرك بوضوح في هذا السياق).

 أما اليوم، فقد بدل لشكر “الفيستة” و “المعطف” الذي لا يتقن تركيب أزراره، وبايع رجل الأعمال عبد العزيز أخنوش رئيس حزب  التجمع الوطني الأحرار، على نفس المنهاج والوفاء الذي سار عليه مع “البام”، الحزب الذي تراجعت أسهمه في البورصة المخزنية، لفائدة مالك شركة “افريقيا” للمحروقات. وبذلك احترقت آخر ورقة للاتحاد الاشتراكي الذي كان.

أحاديث ما جرى

      بعد غياب لم يطل، بدأ عبد الرحمان اليوسفي يظهر في بعض المناسبات الاجتماعية، ومنها تشييع رفاقه من المناضلين المتوفين، مثل حضوره جنازة السعيد بوالنعيلات، وقبلها عزاء المناضل الحاج علي المانوزي. وزيارته لبعض المعارض الفنية، وصار يلبي دعوات حضور توقيع بعض الكتب والإصدرات. لكنه سيعود إلى السياسة عندما نظم مهرجانا سياسيا لتقديم كتاب “أحاديث ما جرى”. ولما نظم الذكرى الخمسينية لاختطاف المهدي بنبركة، وهما حدثان استقطبا الاهتمام الإعلامي بشكل كبير، وفي الحدثين معا تم استبعاد إدريس لشكر بشكل متعمد، واضح وجلي. لشكر الذي عانى كثيرا في قبوله من طرف العائلة الاتحادية، كان يظل وحيدا عندما يضطر لحضور مناسبة عزاء، كما عاينت شخصيا عام 2015 عندما حضر إلى مقبرة الشهداء عند تشييع جنازة المناضل المحامي محمد الصبري، كان لشكر يقف معزولا، لا يقترب منه أحد كجمل أجرب.

***

لكن ما الذي حصل لحزب الاتحاد ليصل إلى كل هذه “المواصل”، وليجد نفسه ينكمش في الدرك الأسفل، لم يعد المواطنون يحترمون قيادة الاتحاد والمنتمين إليه. وصار بعض قدماء الحزب الذين اختاروا تجميد أنفسهم تنظيميا والابتعاد، يتأسفون، ليقول بعضهم ما معناه أن الحزب ولد في الأول وهو يعاني من خلل هرموني، ما أدى به إلى استفحال الأعراض التي ظهرت في عهد قيادة عبد الرحيم بوعبيد، لكن اليوسفي لم يتمكن فقط من الحد منها بل كان سببا في تورمها أكثر وبروز شوهها الخلقي إلى الأنظار، ومن نتائج ذلك وصول شخص مثل إدريس لشكر وعبثه الفادح والواضح بكل ما بناه المناضلون، عبر قوافل ومواكب الشهداء والمعتقلين والمنفيين والمضطهدين الاتحاديين الأصلاء، ومن اقتيدوا إلى مركبات التنكيل والتعذيب،  وأوقفوا أمام المحاكم غير العادلة… ومن تمت جرجرتهم صوب منصات وأعمدة الإعدام؟؟!!!

 ناب عن بنبركة في تشكيل “حكومة التوافق”!

        لبى اليوسفي (نداء الحسن) من أجل إنقاذ البلاد من السكتة القلبية، وقبل بدخول تجربة “حكومة التناوب التوافقي”، بالرغم من معارضة جزء كبير من المناضلين لهذا القرار. وكان مستعدا لإشهار عصا “أرض الله واسعة” لمن يعارضه في ذلك، وهي المقولة التي تنسب خطأ إلى اليوسفي، لأنه اضطر لاستخدامها خلال المؤتمر الوطني السادس للحزب (2002)، واستعملها مع أعضاء الشبيبة الاتحادية وأوقف جريدتهم “النشرة”.

اليوسفي المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان، هو من وصف التنكيل بالأستاذ عبد الرحمان بنعمرو ورفاقه الاتحاديين يوم 8 ماي 1983 أمام باب مقر الحزب في أكدال بالرباط، واقتياد 34 مناضلا طالبوا بمقاطعة الاتحاد للانتخابات، إلى السجن، بأن “البوليس قام بعمله”.

لحسن الحظ هناك الأرشيف، لمن يرغب في مطالعته بالعودة إلى جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، التي نشرت كلمة الأخ عبد الرحمان اليوسفي أمام أعضاء الشبيبة الاتحادية في مؤتمرهم المنعقد بالدار البيضاء في المركز التربوي الجهوي في درب غلف.

واجه الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي خصومه دائما بردود فعل قوية تبرز الشجاعة السياسية لهذا الزعيم السياسي، وتعطي أكثر من رسالة لمن يهمهم الأمر” كما تحدث الدكتور محمد عابد الجابري أمام نخبة من المثقفين والسياسيين في لبنان، وهو يحاضرهم عن تجربة التناوب في المغرب، أشهرا قليلة من تشكيلها، مبددا دهشتهم ومفاجأتهم مما حصل في المغرب وسمي بـ” التناوب.

لقد تطور سوء التفاهم وتعمق داخل الاتحاد، لكن اليوسفي انشغل بترتيب حكومته أكثر من الانشغال بالشؤون الداخلية الحزبية للاتحاد.

وتساءل المتسائلون عماذا جرى حتى وافق زعيم الحزب المعارض التاريخي على رئاسة الحكومة وولوج تجربة لـ”التناوب”؟

كثيرا ما رد اليوسفي أن السياسة تمارس بالإشارات وبالرموز والمعاني.

لم يكن عبد الرحمان اليوسفي مستعدا للإجابة على مثل هذا السؤال التشكيكي والمحبط والمثبط للعزائم، والمنتمي إلى زمن سالف مضى وانقضى، بل كان يعيش لحظة استمتاع وانتشاء، أذكتها الرسائل وكلمات التأييد التي بدأ يتلقاها، والأخبار التي تصله عن “السند الشعبي التلقائي”. وأكثر من ذلك، هناك ترحاب دولي غير مسبوق. من الولايات المتحدة الأمريكة، وفرنسا، وإسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، وإنجلترا، وألمانيا، وفنلندا، والدانمارك… وغيرها. تصريحات رسمية وإعلامية تتحدث عن ما يشبه “الانقلاب السياسي” في المغرب… معارض شرس للملك يتخلى عن سلاح المعارضة ويتولى شأن الحكومة.

وفي غمرة احتفال اليوسفي بنفسه، سيصرح لمراسلة أسبوعية “لوبوان” الباريسية، أن التناوب الذي يقوده هو تنفيذ لتناوب قديم كان سيقوده رفيقه في النضال الشهيد بنبركة، وأضاف: “أنا متأكد أن بنبركة سعيد الآن في قبره”…!!!

لقد نسي رفيق بنبركة أن الشهيد المهدي بنبركة بلا قبر، إذ لم يكشف حتى اليوم عن مصير جثمانه ولا عن المكان الذي دفن به.

دخل اليوسفي الحكومة من دون برنامج حقيقي يمكن به مواجهة أوامر وإملاءات صندوق النقد الدولي، والتي كان الاتحاد يعارضها باستمرار. في عهده جرت عملية ما يسمى في المغرب بـ”الخوصصة” وتفويت مؤسسات من القطاع العام إلى الخاص.

واستمرالمغرب في تدهوره الخطير، اقتصاديا واجتماعيا، والرجل لا يملك عصا سحرية.

وبمقابل التشدد تجاه المناضلين كان اليوسفي لينا تجاه اليمين والمخزنيين، يكفي التذكير بتعامله مع الجلاد محمود عرشان رئيس حزب الحركة الشعبية الاجتماعية، ومع المحجوبي أحرضان، الذي اقترح علي أن أجري معه حوار بصفة المدعو “الزايغ” مقاوما، وذلك في العدد الخاص الذي أصدرته من مجلة “السؤال – الملف” حول المقاومة، وكان موضوع ذلك الملف من اقتراح اليوسفي وبإلحاح منه، حين كان يستعد لتنظيم مهرجان مرور نصف قرن على أحداث وادزم بالمغرب واسكيكدة في الجزائر، وهو أول نشاط حزبي كبير حضره العائد محمد الفقيه البصري في مدينة خريبكة. لكني رفضت أن أحاور المحجوبي أحرضان بصفته من أعضاء المقاومة. ولما أخبرت الفقيه البصري باقتراح اليوسفي ضحك وسخر كثيرا من الفكرة.

أيضا لن ينسى المناضلون والمدافعون عن حقوق الإنسان ذلك التكريم الكبير الذي نظمه عبد الرحمان اليوسفي لوزير الداخلية المعفى من قبل محمد السادس، حين احتشدت مظاهرة أمام الإقامة الرسمية للوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، حيث جرى الاحتفال التكريمي لأكبر المسؤولين عن سنوات الرصاص.

هنا نقف، فليس كل شيء يمكن أن يقال، ولا كل ما يقال يمكن أن يكتب.

وهذا ما كان.”.. كما كان يختم عبد الرحيم بوعبيد كلامه.

 (انتهى الكلام… ولم ينته).

الأربعاء 03 يونيو 2020

_________________________________________________________________________

* مقال سبق نشره بزاوية “رأي” في موقع “لكم 2″، في شهر  يونيو 2020 

شارك هذا الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!