“قترة”.. نص سردي من رواية مغربية

“قترة”.. نص سردي من رواية مغربية

لطيفة حليم

في زمن -كورونا تَيَسَّرَ لها مُتَّسَع من الوقت، تُقَلِّبُ زربية فُتق نَسْجُها وانْمَحَى صوفها   وانْصَرَفَت تُنظم الكتب بخزانتها ، وتقلب آخر كتاب حمله صاحبها، لم يقرأه ظل مغلقا. Chronique de Tanger . Le journal de bendelac 1820-1830 

 لم تفتح الكتاب. تركته جانبا. لأنها علمت أن الكاتب ليس من عقيدتها وكتب عن إِعْدامِ “سُوليكا”.  تداعى إليها من هو من عقيدتها وحصل إعدامه، عالم من علماء القرويين “محمد” بن هاشم، الذي كان يشارك زميله الشريف مولاي “لَكْبِير” حَصِير الدراسة داخل الجامع. 

أعدم “محمد”  بسبب وَلَائِه ل مولاي “لَكْبِير”  الابن البِكْرللسلطان. جايلتهما الماشطة “فَلَّة”. أُعْدِم “محمد”  في ساحة عمومية بمدينة  فاس. كما أُعْدمت من قبله “سُوليكا” شاهدت”فَلَّة” الإعدام مرتين.  مرة وهي صبية دون أربع سنوات،  لم تدمغ  في ذاكرتها رؤية صورة من ليست من عقيدتها ، ومرة وهي   في  سنها الثالث، شاهدت إعدام  من هو من عقيدتها. 

 الدكتورة “ليلى” ترتق أول رقعة فوق زربية متلاشية وتحكي لصديقتها أخبار “سُولِيكا”.  الحب بين يهودية ومسلم عقيدتهما مختلفة ومن بلد واحد، يقطنان بحي يجمع جوارهما بمدينة طنجة. انتهى الحب بإعدام “سُوليكا”َ هاتْشْوِيل. لتصبح وَلِيَّة صالحة.  تختلف الروايات من سرد مسلم إلى يهودي، لكنهما يجمعان على إعدام “سُوليكا”.  

 ولدت سنة 1817. وأعدمت سنة 1834 أصولها تعود إلى اليهود السيفرديم الدين نزحوا من الأندلس واستقروا بطنجة، مدينة الثقافات والتسامح والحب، التي لا يوجد بها حَي المَلَّاح. 

 “سُوليكا” خلقها الله بجمال فاتن. في أحد الأيام انْدَلَعَ خلاف بينها وبين والدتها “رحيل”، التي كانت تُحَذِّرها من عواقب الزيارات المتكررة لدار الجيران، وفي أحد الأيام رفضت تحذِير أمها، تمردت عليها وذهبت إلى دار الجيران، التي اعتادت أن تتردد عليها لتلعب مع بنتهم “الطَّاهْرَة”. رآها ابن الجيران البِكْر، أحد الأثرياء الطنجاويين، بَهَره جمالها، وقع في حبها وأقدم على الزواج منها. عرض عليها الحِلِّي المُرَصَّعة بالأَلْمَاس والزُّمُرُد، من أجل أن تدخل في الإسلام ويتزوجها على كتاب الله. رفضت أن تغير عقيدتها. غلق عليها الأبواب والنوافذ. ومرض العاشق الولهان، مما دفع بشقيقه استقدام شهود الزور، وحَرَّرَ مَحْضَرا يؤكد من خلاله معاينتهم اعتناق “سُوليكا” الديانة الإسلامية طَوْعا ودون أي ضغط. رفضت هذه التمثيلية وأصَرَّت على أن تظل على عقيدتها إلى أن تموت، واتهمت بالرِدَّة. وعاقبة الردة في الإسلام القتل، إلا أن والي مدينة طَنْجة راسل السلطان في النَّازِلة، طالبا منه فَتْوى تنهي المشكلة التي أصابت التعايش الإسلامي اليهودي في مدينة طنجة. أحال السلطان القضية على القاضي بمدينة فاس “محمد” بناني، المُلِمّ بالشؤون الدينية، الذي لم يجد بدا لاستخلاص براءة الفتاة إلا بنفي الرِدَّة، بالقول أمام الحاضرين بأن الإسلام دينها. في صبيحة أحد أيام سنة 1834، جيء ب “سُوليِكا” مَغْلُولَة القدمين واليدين لتقول شهادتها أمام القاضي في حضرة السُّلْطان، التقطت أنفاسها وصرخت: 

-ولدت يهودية وعشت يهودية، ثم سأموت يهودية، لن أغير عقيدتي، ولن أستبدل ديانتي حتى ولو منحوني ذَهَب الدنيا. أصدر القاضي حكما يقضي بسجن “سُوليكا” إلى أن تُقِرَّ بِبَقائِها على دين الإسلام. وحين تبين للجميع إصرارها على الاعتقال إلى أن تموت، تَقَرَّرَ إعدامها وقطع رأسها. شاهدت الحدث الأم “لَلْزين” وهي تمسك بصبيتها “فلَّة”. كانت “سُوليكا” تجمع بطرف قدميها -جَلْطِيطَة- مُذَيَّلَة لا يُرى جسدها ولَا أَخْمَسُ قَدميها. نُفِّذَ حُكْمُ الإعدام. وأثناء قطع رأسها رَمَى اليهودي “رَفَائِيل” -اللْويز- قطعا من الذَّهَب فوق الأرض، وكان الصبي “شَالُوم” عمره سبع سنوات يشاهد الذَّهب يتساقط فوق الأرض، والنساء يرددن: 

– هنا طاح اللويز، هنا اندورو عليه.  

بدأ يردد “شالوم” في سريرته: 

– يا رب اعْثُر يوما، على قِرْبة مليئة باللويز. 

دفنت “سُوليكا” بمدينة فاس سنة، 1834 وجدّدَ قبرها سنة 1884، فأخرج جُثْمانها كما هو، ودُفن بين قبور عائلة السَرْفاتي الفاسية. وأًصبح قبرها مزارا يَحْمل اسم لالة “سُوليكا” صِدِّيقَة شهيدة في سبيل عقيدتها. يتبركن النساء اليهوديات أمام ضريحها، يذْرِفْنَ دموعا غزيرة على قبرها، ومنهنّ من تَنْهار أمام الضريح، وهي تسترجع حكايتها..

 هَمَّت بِنَقْرِ حروف عن “سُوليكا” بعد أن جَمَّعت بعض الأخبار عن صديقتها الدكتورة “ليلى”، وشاهدت بعض الأفلام، واطلعت على الكثير من الروايات لروائيين يهود ومسيحيين ومسلمين، والتقطت صورة للوحة “سوليكا” رسمها أشهر الفنانين التشكيليين من بينهم الفنان الفرنسي “ألفريد” ديهودينك، وشاهدت لوحة للفنانة المغربية “كوثر”، وقرأت فتوى الفقيه المفتي “أبو يحيى” السراج. واسترجعت حكايات جدها عن جد والده، نقرت حروفا. تركت شاشة الكمبيوتر مفتوحة ودخلت إلى المطبخ تتفقد طجين -لحم الغنم بالسفرجل، الذي أصبح يلذ لصاحبها طعمه في زمن -كورونا. مسح في غفلة منها ما نقرت. عادت من المطبخ قلبت عينيها نحو الشاشة. وجدتها فارغة من الحروف.  عندما رأى جحوظ عينيها، احتج بقوله: 

– إن صياغة الأحداث متذبذبة.  

أشار عليها أن تكتب اسم “سُوليكا”َ هاتْشْوِيل، الشخصي والعائلي بحرفين ” س- ه”. اقتداء بالروائي الذي كتب “ف- ب “.  

مسح مسودتها الأولى. لا يعرف أن الفصل الذي سردت من وحي جدها لأمها “عبد الكريم” بناني، سبق أن روى لها حديثا سمعه عن جده لأبيه القاضي “محمد”، بمدينة فاس. كانت تسمعه بأذن لاهية٠ تتلذذ بعلكة بازوكا، وتلهو بلعبة مُونِيكا وأمها تطبخ طاجين لحم الغنم بالسفرجل، وأخوها “أمين” يفصل رأس لعبة مُونِيكا عن الجسد. لا تسمع جدها يحدثهم عن “سُوليكا”، لأنها كانت تتشاجر مع أخيها٠ جدها يعرف القليل عن جده القاضي “محمد”. هي تعلم الكثير عنه. 

في زمن -كورونا. بدأت برسم ملامح “سُولِيكا” الفاتنة التي ليست على عقيدتها. انطلقت من الحاضر الزئبقي الذي تعيشه مع – كورونا. راسلت صديقات أجمل العمرعلى بريدهن الإلكتروني٠ حصلت على معلومات باهتة.  قلبت ما ورد في رسالة صديقتها “سِيلْفيا”، كاتبة كندية من أصل مغربي، التي لا تومن بالتضبيع. أخبرتها أنه في مثل هذا اليوم يحتفلون فيه بمونتريال بيوم إعدام “سُول”. يرددون قولها: 

 – سأظل على عقيدتي.. 

مسح صاحبها رسالة “سِيلْفيا”. لأنها من عقيدة “سُوليكا”. تخيلت صبية فاتنة. نزح جد، جد جدها من اشبيلية وأسهم في تنشيط الحركة التجارة بطنجة. عزمت على زيارة ضريحها والدخول إلى المِعارة، حَدَّدَتْ مَوْعِدا مع صديقتها “كَوْثر” لزيارة مدينة فاس، واتفقت مع صديقتها “فاطمَ” على زيارة مدينة طنجة، للبحث عن أحفاد، أحفاد وأسْبَاط، أَسْبَاط عشيق “سُوليكا” الذي تجهل اسم عائلته٠ كورونا منعتها من السفر إلى مونتريال، ارتفع عدد الإصابات. لا تدري السبب الذي جعلها تبحث عن صبية ولدت بطنجة وأعدمت بفاس، عشقها ابن الجيران من الأعيان. وصفت جسدها اللّدِن، رسمت قِوامها الرَّشِيق، وزَوَّقَت تقاسيم وجهها الفاتن. شَعرت أنها تنتمي إلى كل بلدان العالم٠ وطدت وروضت نفسها على العيش مع من هم من دون عقيدتها. آمنت بالتسامح والتعايش.. 

عَلمت أن أحفاد، أحفاد وأسْباط، أسْباط ” رحيل ” أم “سُولِيكا” هاجروا إلى تَلْ أَبِيب منذ النكبة، وأن حفيدة، حفيدة “رحيل” هي الفنانة التشكيلية “مَارِي” التي تقيم بمدينة مونتريال. اسْتبدّت بها غَمَامَة سوداء تذكرت أن سِبْطَتها “مِيلا” رَشَقَتْ بِرْوَازَ لوْحة “ماري” بحجارة عندما صاحبتها إلى المعرض. سقطت لوحة زيتية من الجدار نزْغُ إبليس يشجعها على نَقْرِ حروفٍ على شاشة الكومبيوتر. “سُوليكا” خرجت “للزين” من حي الرْمِيلَة بمدينة فاس، تجر صبية تَتَعَثَّر في خَطْوها وهي دون أربع سنوات. زمرة من النساء يشاهدن فصل الرأس عن الجسد.  

 انطلقت في نقر الحروف من الزمن الحاضر الزئبقي الذي تعيشه وهي تتعثر مثل الصبية ” فَلَّة”. تجد المعلومات بَاهِتَة تشبه الزربية المتلاشية،  تقرأ رسالة “سيلفيا”: 

– كنت ألعب بلعبة “مُونِيكا”. هي في الأصل ذكرى “سُولِيكا” صبية بِلَمْعَةِ وَرْدَةٍ زَاهِية، أُعدمت ظلما. ليلة فصل الرأس عن الجسد، شاهدت في حلم يقظة حياتها صبية وشابة وشيخة. سبق أن زرت ضريحها برفقة أمي وأختي من مراكش إلى فاس، دَلَفْنا إلى المِعارة، قبلنا تراب ضريحها والدُّموع حارة تنهمر  فوق قبرها، وتابعنا طريقنا إلى مولاي “يعقوب”.  

لعل ما رأته “سُولِيكا” في تلك الأحلام الطويلة هو استحالة فصل الرأس عن الجسد. تأويل مُغْرِض لِأضْغاث أحلام. تَنْقُر الحروف على الشاشة، تتذكر “مُونِيكا” لعبتها الجميلة. شاهدها أخوها “أمين” تعب بها، عندما دخلت إلى المطبخ لتساعد أمها، فصل “أمين” رأس “مونيكا” عن جسدها، وأعاد تركيبه من جديد. ومرة أخرى تعذر عليه تركيب الرأس عندما فصله لم يستطع لصقه، أحرق عنق “مُونِيكا” لِيُلُحِّم الرأس بالعنق، التهمته النار احترق الجسد.

 لم تستطع الارْتِدَاد إلى الماضي واسْتِرْجَاع حديث جدها المُسْهِب عن النازلة و “سوليكا”. كانت تَلْهُو بِعَلْكة بازوكا تسمعه بأذن لاَهية، وتلعب بلعبة “مُونِيكا”. يحكي الجد عن قطع اللْوِيز من الذَّهب التي انشغل النساء بجمعها وهن يرددن:

 -هْنا طاح اللْوِيز هْنا انْدُرُو أعْلِيه 

هي في نهاية سنها الثالث… 

وفي لحظة استبد بها نَزْغ إبليس الرجيم، استرسلت في نقر حروف. 

مسحها صاحبها. كما حرق أخوها “أمين” لعبتها “مُونِيكا”، وعادت تقلب أطراف زربية، تُرَتِّقُ فتقها لتخرج من هلع “سُوليكا” وتدخل في هلع كورونا. تبحث عن موعد آخر للطائرة من الدار البيضاء إلى مونتريال.

( قطعة سردية من رواية “قَتَرَة”، قيد المراجعة)

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لطيفة حليم

أديبة وروائية كندية وأكاديمية من أصول مغربية