كازبلانكا.. مهلا أيها الحنين
أفق يكتبه: صدوق نور الدين
1/
من يزر “كازبلانكا” اليوم، أو يحلم، قد يكون مجنونا أو معتوها.
فالمدينة التي قشرت حنيننا في السبعينيات، وإلى حدود أواسط الثمانينيات لم تعد تحمل الصورة ذاتها. لقد أصبحت أخرى. فالتفاصيل الدقيقة التي رست عليها العين ذات زمن، انتهت إلى الانمحاء تباعا. إذ أن وهم الاعتقاد كان يتمثل التحول أفقا مضيئا لحياة جديدة. بيد أن ما انتهى إليه نبض المدينة من تسارع، جعل فضاءها يشعر الزائر بالقلق والاختناق والرغبة في هجر المكان بغاية استعادة إيقاعات النفس المنضبطة.
2/
أذكر أنه في السبعينيات، كانت ولادة فكرة زيارة “كازبلانكا” تستدعي تربية الحلم والأمل. الحلم بتحقيق وتحقق الزيارة، والأمل في معاودة الفكرة. من ثم ينطلق ترتيب الزيارة في مدى زمني يتراوح بين الأسبوع ونصف الشهر. إلا أنه وبقدر ما يكون الحنين جارفا، فالخوف يتلبس الكائن. فالصورة التي يخفيها اللاوعي كون الذات تقصد فضاء ينفتح على أمكنة لا تماثل تقليدية هذه التي ولدنا وإياها في هامش انبنى على الخجل والحياء، حيث يفكر المرء وقبل الخطو، معرفة ما إن كان مسار التوجه صحيحا. و لا يتوقف الحال على الفضاء، وإنما الفاعلين من شخوص عادية وشخصيات بارزة يكتب للذات أن تصادف البعض منها، فتحكي الصدفة التي قذفها الغيب، وتبرع في الوصف وبلاغة المديح، خاصة إذا كانت الشخصية سياسية أو مثقفة أو تنتمي لحقل الفن والرياضة. المهم أن يكون الأثر رمزيا.
3/
لنفترض أن حكاية الفكرة اكتملت، و لم يعد أمام السارد سوى تثبيت الزمن وركوب الانطلاق. بداية يساور الذات قلق وجودها في مواجهة الآخرين. إنها تفكر في صيغة الحضور: أناقة اللحظة. فالذات لا ترغب في إنتاج معنى القادم من منفى الهامش، وإنما التأكيد على أنها صنيعة “كازبلانكا”، فتتأدب بآداب الفضاء، أخلاقه وسلوكه. إنها تغدو جزء منه. الجزء القادر على التفاعل وفرض الذات. وحتى إذا رتبت اللحظة، يتولد التفكير في وسيلة السفر. وهنا أعترف بأني آثرت دوما حافلات الخطوط الوطنية. وتحضرني صورة اليهودي “موريس” بأناقته وصمته وكياسته سائقا. كنت أحجز بطاقة سفري يوما أو يومين من قبل، لأضمن – على الأقل – مقعدا وهو ما يحصل، خاصة وأن الحافلة تنطلق من “مازاغان” إلى مسقط الرأس “أزمور”، حيث ولدت فكرت زيارة “كازبلانكا”.
4/
تمام العاشرة صباحا يدرب الحنين الخطو على إيقاعات شوارع فاضت نظافتها، وأرصفة رصت في انسجام لا تخطئه عين زائر. وأما المحال التجارية فتبدو واجهاتها في غاية الأناقة، فيما نشرت المقاهي كراسيها على لسان أرصفة شغلها عابرون اختاروا تزجية وقت أضيق من خرم إبرة في تذوق بن شاخ في اللذة الرفيعة كيما يعاد للتفكير توازنه، أو من عينين اندفنتا في قراءة جريدة ترصد أحوال عالم يتحول بوتيرة سريعة. وأما الأكشاك الممتدة ، فنثرت في نظام “تفكير” العقل الإنساني داخليا وخارجيا.
لكم كان يستهوي الحنين البحث عن مجلة لم يحظ منفى الهامش التوصل بها. كانت المجلات العربية أقرب إلى قلبه وذوقه: “صباح الخير”، “روز اليوسف”، “المصور”، “الهلال”، ” كتاب الهلال”، “روايات الهلال”، و”الطليعة” اليسارية زمن لطفي الخولي الذي لم يعد أحد يذكره، إلى “الآداب” و”مواقف”. وكأن الأكشاك انمحت من قلب المدينة، أو كأن لا معرفة بعد.
لكم كان الحنين يستطيل اليوم بكامله حتى إذا ألقت الأوبة ظلالها، أحس السارد وكأنه يضيف فصلا إلى “ويطول اليوم أكثر من عام” رائعة “جنكيز أيتماتوف”.
5/
من يزر “كازبلانكا ” اليوم، أو يحلم، قد يكون مجنونا أو معتوها.
فالمدينة التي كانت، أضاعت صورتها منتصف الطريق، فلم يعد أحد يحكي، أو قادر على أن، وهو يرى تهاوي تاريخ ذاكرة إلى متحف النسيان. فالعلامات الرمزية الدقيقة طالها الانمحاء، إذ كلما فتح الخطو إمكان تقصي تفاصيل مكان، إلا ألفى ملامحه تناهبها التغيير والتحول نحو ما يجعل المدينة تنتقل من مدينة إلى قرية، سوق مفتوح على بشاعة الاستهلاك. فلم يعد شارع “الأمير” كما عرفته/عرفناه بسحر محاله التجارية، والكواعب التي تسرق النظر ألقت إلى الهواء عطرا يلبس الجسد ولا يفارقه فيما الأحذية اللماعة تجلو صورة “باريس” الصغيرة كما حلم بها ذات زمن “المارشال ليوطي”. وأما علامة الشارع الرئيسة “لاشوب”، فترتب جلسات الصبح الندي الرطيبة، والمساء الذي تنطفئ شمسه في مياه البحر الباردة. صباح بداية جديدة تنضاف إلى كتاب الحياة، ومساء يعلن ورقة اقتعلت من دفتر الحياة. حينها تكون الأضواء على تباينها، انسجامها وليس نشوزها كما اليوم، تكتب نص الليل الأكبر. وأما اليوم فوسط المدينة الذي مثل الحياة، المدينة و المدنية، لم يعد. لقد غدا صورة عن سوق مفتوح يوميا على البيع والشراء. إذ بات يصعب رسم الخطو، مثلما تمتيع النظر، إلى فداحة ضجيج لا يكاد يهدأ إلا ليبدأ. ومن المفارقات، أن البضائع والسلع احتلت الأمكنة، إذ لو قدر زيارة هذا الوسط صباحا، فإن أول ما يطالعك منظر الأكياس البلاستيكية تلف البضائع والسلع بانتظار دورة جديدة من هذا “الترييف” الذي يجهل كيف سيتأتى للسلطة مقاومته.
6/
من يزر “كازبلانكا ” اليوم، أو يحلم، قد يكون مجنونا أو معتوها.
* ناقد وكاتب روائي مغربي