معنى أن أكون فنانا للكاريكاتير اليوم في المغرب؟
بوشعيب الضبار
لست رسام كاريكاتير، لكن هذا الفن الراقي طالما استهواني منذ الصغر، وكان طموحي أن أمسك بالريشة، بدل القلم في الصحافة، وحاولت في صباي أن أمارس هذا الشغب الجميل.
ومن باب التشجيع، نشرت لي صفحة “أصوات” الخاصة بناشئة الأدب، في جريدة “العلم” العريقة، منتصف الستينيات من القرن الماضي بعض الخربشات الأولى في الرسم، وكذلك صحيفة “الأنباء” الرسمية.
في فجر حياتي الصحافية، قادني القدر سنة 1974 إلى صحيفة “الكواليس” بالرباط للاشتغال كصحافي تحت إشراف مديرها الأستاذ مصطفى العلوي، أول من احتضن الكاريكاتير في الستينيات عبر “أخبار الدنيا” وغيرها.
ومع الفنان العربي الصبان، ارتبطت بصداقة حقيقية منذ أربعين سنة، تعززت أكثر في أواخر السبعينيات عندما اجتمعنا للعمل تحت سقف خيمة واحدة، هي “أخبار السوق” إلى جانب محمد الفيلالي، وحميد بوهالي، والمرحوم حمودة، وغيرهم من الكبار.
وإذا كنت قد أخفقت في امتهان الكاريكاتير، وجرفني تيار الصحافة، فقد وجدت العزاء عند رواده الذين احتضنوني واعتبروني رفيقا لهم، تقديرا منهم لشغفي بالرسم الساخر، وإيماني الشديد بأهميته وقيمته كأداة فنية بليغة في المكاشفة والمشاكسة.
لم تنقطع علاقتي بالكاريكاتير يوما، وفي أسبوعية “أخبار الفن”، وصحيفة “الميثاق الوطني”، و”كل الفنون”، و”المجلة المغربية”، ومجلة “الإنسان الجديد”، ويومية “المنعطف”، وفي كل المنابر التي عملت فيها، كان هاجسي هو إفساح المجال واسعا لنشر هذا التعبير الفني الجمالي عبر التعريف بفرسانه، سواء منهم الرواد، أو جيل المخضرمين، أو الوسط، أو الشباب الجديد.
أسوق كل هذا الكلام، وهذا الاسترجاع المشبع بالحنين إلى زمن مضى، لأخلص إلى القول إنه بحكم معايشتي، واقترابي من غالبية مزاولي فن الكاريكاتير، أدرك مدى مكابدتهم في تحمل أعبائه وتبعاته.
هي مهنة ليست يسيرة، كما قد يتصور البعض، بل تكتنفها صعوبات جمة، تلقي بثقلها عليهم، وتحد من حريتهم في التعبير، وتدفعهم إلى اعتناق الرقابة الذاتية.
من العسير جدا، المشي في طريق الكاريكاتير، إنه محفوف بالمخاطر، ومزروع بالألغام، وبالخطوط الحمراء، والأسلاك الشائكة.
وما أكثر الممنوعـات المتبوعة بالتضييق والمتابعة القضائية: ممنوع رفع لافتات الاحتجاج، ممنوع السخرية، ممنوع المزاح، ممنوع “التطاول” بالريشة على قسمات الشخصيات السياسية العامة.
إن فنان الكاريكاتير مطلوب منه أن يكون موهوبا، وأن يبدع كل يوم رسما ساخرا جديدا، وهي مهمة صعبة، تستهلك أعصابه، وتتطلب منه الكثير من البحث والتفكير الدائم في قراءة الأحداث السياسية والاجتماعية، لاستلهام الومضة اللماحة، وتلخيص الموقف كله في رسم ابتسامة عميقة المعنى.
وحين ينبثق ذهنه عن فكرة ما، تتهلل أساريره فرحا، وهو يصوغها فنيا على الورق، أو على شاشة الحاسوب، أو اللوحة الاليكترونية، مثل طفل تلقى هدية من والديه في عيد ميلاده.
وبعض الناشرين ينظرون إلى هذا الفن، نظرة دونية، كأنه مجرد ترف للتسلية، وحين يفكرون في حذف منصب مالي، توفيرا للنفقات، يتجه تفكيرهم رأسا نحو رسام الكاريكاتير للتخلص من صداعه وإزعاجه للسلطة، وكم من رسام كاريكاتير فوجيء بتوقيفه، أو تسريحه، دون إشعار مسبق..
ومما يزيد في تعقيد الوضع، أن تعاون رسام الكاريكاتير أحيانا مع الصحف والمواقع الالكترونية لا يخضع لأي تعاقد مكتوب، يضمن حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك يسهل التخلص منه.
وبعض المسؤولين عن النشر، وأنا لا أعمم أبدا، يريدون من رسام الكاريكاتير أن يكون فاقدا للمسؤولية الاجتماعية وللحس النقدي والسياسي الساخر.
وحتى الآن، ما زالت المساحة المخصصة للكاريكاتير في الصحافة محدودة جدا، وتتوسع وتتقلص حسب تقلبات الوقت وتبدلات الطقس المزاجي، حتى إذا كانت هناك مبادرة من طرف بعض الصحافيين أجهضت في المهد.
في هذا السياق، حكى لي زميل إعلامي انه كتب سلسلة من الحلقات عن سيرة رسام كاريكاتير كبير، بذل فيها جهدا ملموسا، وأثناء إشرافه ذات يوم على إعدادها للطبع وقف أمامه مسؤول عن النشر، معبرا عن تبخيسه لتلك اليوميات.. وكانت هذه الواقعة هي سبب استقالة الزميل من الصحيفة ليلتحق بمؤسسة إعلامية كبرى حقق فيها نجاحا أوصله إلى منصب مرموق فيها.
وإذا كنت فنان كاريكاتير في “البورتريه”، فإن الرفاق والأقارب سوف يطلبون منك رسم ملامحهم على الورق، وإهداءها لهم، دون أن يفكروا في “حك” جيوبهم.
وإذا أومأت إليهم أن هذا هو مصدر دخلك الوحيد، استغربوا لردة فعلك، وربما وصفوك في سرهم بأقبح النعوت، بينها أنك “مادي” ومتنكر لقيم الصداقة والعائلة.
وأن تكون رسام كاريكاتير في المغرب، فهذا يعني أن أعمالك عرضة للسطو، ويعاد نشرها أو نقلها بدون إذنك، في مطبوعات عديدة، في اعتداء سافر على حقوق الملكية الفكرية والفنية، وقد تباع في الخارج في شكل كتاب عبر منصة “أمازون”، كما حدث للفنان عبد الغني الدهدوه، عبر حساب تم توقيفه فيما بعد.. وقيدت الجريمة ضد مجهول.
وقلة قليلة جدا من الأسماء، معدودة على رؤوس الأصابع، هي التي تكسب قوتها اليومي من وراء احتراف الكاريكاتير في الصحافة، وبعض الرسامين يمارسون الكاريكاتير فقط كهواية إلى جانب وظيفتهم الأصلية، أو امتهانهم للفنون التشكيلية.
لقد عايشت مراحل نشأة وتطور الكثيرين منهم، ولمست عن كثب كيف شقوا طريقهم وسط الصخور، بدأب وإصرار، وكيف لمعت مواهبهم، وكيف غابت توقيعاتهم، لعوامل خارجة عن إرادتهم، بعد أن انسدت الأبواب في وجوههم.
هي حالات معينة، وأعتذر بشدة عن التفصيل في الأسماء، تفاديا للإحراج، مكتفيا بالتلميح دون التصريح.
والبعض تخلى عن الريشة نهائيا، بعد أن قست عليه الظروف وضاع في زحام الحياة، كأن هناك نية مبيتة من طرف بعض الجهات تريد إلهاءه بالبحث عن لقمة العيش بدل التفرغ للرسم والسخرية.
وحتى لو كنت رسام كاريكاتير كبير، وصاحب اسم كبير، ومرتبطا بعقد عمل مع صحيفة ما، فإن وصولك سن التعاقد الإداري لن يشفع لك في التمديد أو استمرار التعاون معها، بصيغة إدارية ما، كفنان ناضج لا حدود لعطائه، بينما رئيسك في نفس المؤسسة، تجاوز سن السبعين وما زال في منصبه.
وفي نهاية المطاف، وبعد عمر مكرس كله للكاريكاتير، وبعد مغادرتك لهذه الدنيا الفانية، وفي نفسك غصة، أو “شيء من حتى”، كما يقال، وفي الذكرى الأربعينية لوفاتك، تتعهد صحيفتك أمام الحاضرين في حفل التأبين بجمع رسوماتك وطبعها في كتاب، حفاظا عليها من الضياع، ووفاء لروحك وذكراك.
وتتوالى الأيام والليالي، وتعقبها الشهور والأعوام، ويبقى هذا الوعد مجرد وعد، ومشروع الكتاب المعلن عنه، قابع في ركن ما، في درج ما، يشكو الخذلان، وغبار الإهمال والنسيان.
في أوروبا، وبعض بلدان المشرق العربي، تقاليد صحفية يتم بموجبها طبع كتب فناني الكاريكاتير من طرف المؤسسات التي يعملون فيها، مثل صحيفة “لوموند” الباريسية في علاقتها مع رسامها السابق “بلانتي”، ومؤسسة “روز اليوسف” القاهرية، التي تعتبر بيت الكاريكاتير المصري بكل نجومه الكبار.
في المغرب، وباستثناء مؤسسة “البيان” التي أقدمت مشكورة على طبع أعمال رسامها بلعيد بويميد، لم نسمع يوما عن مبادرة مماثلة لمطبوعة مغربية أخرى، ماعدا منشورات “السؤال/ الملف” لصاحبها الزميل عبد الرحيم التوراني، الذي تولى إعداد وتنسيق وتصميم وإنجاز وإخراج كتاب “شهادات حول سنوات الرصاص والحبر والطباشير” للفقيد ابراهيم لمهادي.
وأن تكون رسام كاريكاتير في المغرب معناه أيضا أن يتردد اسمك في الخارج، وسط هالة من الأضواء، وتحصد الجوائز في المهرجانات العربية والدولية، بينما بلدك يحجب عنك جائزة الكاريكاتير في الصحافة، وهو موقف غريب تثار بشأنه الكثير من التساؤلات في علاقتها بحرية التعبير.
ورغم أن وزارة الثقافة تعترف بالكاريكاتير كمهنة من المهن الفنية، لكن إحدى لجانها لا تعترف بالهوية الفنية لرسام الكاريكاتير، ولذلك تحرمه من “بطاقة الفنان” الممنوحة لكل أصحاب التعبيرات الفنية المختلفة، ما عدا هو، كأنه شخص غير مرغوب فيه، رغم أنه هو نبض المجتمع.
لقد كان الملتقى المنظم من طرف جمعية “الشعلة” موفقا، وهو يختار “الكاريكاتير مرآة المجتمع” شعارا لدورته الثانية في المحمدية، الخاصة بتكريم روح الراحل الفنان إبراهيم لمهادي، بالنظر لكون الرسم الساخر يستمد وهجه من طرحه للقضايا الاجتماعية.
إن رسام الكاريكاتير لا يعيش بمعزل عن مجتمعه، وهو معارض بطبعه، وهذه الصفة بالذات لا تعجب رجل السياسة، متناسيا أن الفنان، هو ابن بيئته، ودوره هو أن يتفاعل مع هموم محيطه، ويعكسها في إبداعه، وهذا لا يتأتى إلا في ظل الحرية.
لن أكون متشائما، وأزعم أن وضع المشهد الكاريكاتيري لن يكون بخير، وأنه لا تغيير في الأفق، بيد أنني متيقن من أن هذا الفن سيبقى حيا ومتجددا، بفضل كفاح ممارسيه، من أجل تمكينهم من كل حقوقهم، وفي طليعتها الحق في تكريس وضعهم الاعتباري، وفي تمتيعهم بكافة شروط حرية التعبير واتساع هوامشها.
فهذا الفن الراقي، عنوان من عناوين الديمقراطية، وهو فاكهة الصحافة، وبدونه تصبح جرداء وقاحلة مثل حقل ضربه الجفاف.
*النص الكامل لمداخلتي في جلسة “معنى أن أكون فنانا للكاريكاتير اليوم؟”، ضمن الملتقى الوطني الثاني للكاريكاتير، المنظم من طرف جمعية “الشعلة” في مدينة المحمدية، يومي 13 و14 ماي 2022.