الشاعر بنيس و”الحق في الحياة”
محمد بنيس
- أتوجه في البداية بالشكر إلى الأصدقاء، إدريس اليزمي، يونس أجراي والماحي بنبين، على دعوتي للمساهمة في هذه الندوة، وأنا أستجيب لها بكل امتنان. هي مناسبة لتقديم كتاب “الحق في الحياة” وعرض تأمل مفتوح للنقاش والحوار، في الموضوع الذي هو التوعية بضرورة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام في المغرب.
وأهنئ الأصدقاء، في الوقت ذاته، على القيام بهذه المبادرة المواطنة، التي أنظر إليها من حيث هي مبادرة مبنية على رؤية جديدة وبعيدة، من أجل الدفاع عن إنسانية الإنسان، التي هي فكرة محورية في منظومة الحداثة، من حيث القيم الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والقانونية. أساس الفكرة هو إبدال الرؤية في نظام المجتمع من الدولة الدينية إلى الدولة المدنية.
- الرؤية الجديدة والبعيدة للمبادرة هي أنها تأتي في صيغة ثقافية، فنية، إبداعية، من خلال إصدار كتاب “الحق في الحياة”، الذي شاركتْ فيه نخبة من الكتاب والفنانين المغاربة. وبرأيي أن هذا الكتاب وثيقة مرجعية، ذات مصداقية، لأنها ترفع إلى الأعلى، بكتابات وأعمال فنية، صرخة جماعية، لإلغاء عقوبة الإعدام في المغرب.
إلا أن هناك جانباً رمزياً لهذا الكتاب. فهو، حسب علمي، أول كتاب يصدر في المغرب عن هذا الموضوع. ثم إنه يجمع نخبة ثقافية في مجتمع لا يفكر بعد في فاعلية الثقافة. بهذا تصبح قيمة الكتاب مزدوجة، عندما يعطي الكتاب والفنانين حق التعبير بحرية عن عقوبة الإعدام ومشاركتهم في المطالبة بإلغائها.
- نعم، المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام في المغرب خطوة أخرى في مسار التحديث، الذي تنخرط فيه وتدافع عنه، منذ عقود، نخبة ثقافية وحقوقية، منبثقة عن المجتمع المدني، إلى جانب نخبة سياسية ونقابية. وهي مسألة تعود إلى نظرتنا لإنسانية الإنسان، من زاوية الدولة المدنية. إنْ أنا استعملت مصطلحين لشومسكي، فسأقول إن لهذه المطالبة دلالة كبرى، لأن المجتمع العربي يعيش في ظل بنية دينية، هي البنية العميقة للدولة، بخلاف بعض عناصر بنيتها السطحية، المدنية. وهنا، برأيي، يكمن الجدار الذي تواجهه المجتمعات العربية. هو جدار الفقهاء، “علماء الرسوم” (حسب تعبير ابن عربي)، الذين يفسرون الشريعة تفسيراً يقوم على التقليد في استنباط المعنى الحرفي، الواضح والجامد، في الخطاب كما في النظر إلى الفرد والمجتمع، أو الإنسان والحياة.
لا يمكن إقناع الفقهاء بغير طريقتهم في القراءة والتفكير. هذا تاريخ طويل. لكن إذا كان تفسير الفقهاء للشريعة يوجب الحكم بالإعدام، وإذا كانت المحاكم لا تزال تصدره، فإن وقف تنفيذه في المغرب، منذ 1993، له دلالته على عدم اقتناع الدولة بأن الحكم بالإعدام يستوجب التسرع في تنفيذه.
- هناك، من ناحية أخرى، ما عرفه المسلمون في العصر الحديث من حركة الاجتهاد في التفسير، والبحث في مسألة أحكام الشريعة، من حيث ديمومتها أو اقتصارها على زمان ومكان الرسالة المحمدية. أظن أن هذه الحركة رسخت دينية الدولة بدلاً من فتح مسالك لإقرار دنيويتها. وما تحقق من تسييد القوانين الدنيوية محدود، فيما هو عرضة للإبطال في كل آن.
لذلك فإنه من المفيد رفع صوت الكتاب والفنانين لمناصرة الحركة المواطنة المغربية في المطالبة بإلغاء هذه العقوبة التي تتناقض مع الدستور. صوت الكتاب والفنانين يعني توسيع الرؤية إلى مأساة وعبثية عقوبة الإعدام، وتعميمها في المجالات الحقوقية والتربوية والإعلامية. ويبقى من مسؤولية النخبة السياسية، من خلال المؤسسات الرسمية، وفي مقدمتها البرلمان، تبني هذه المبادرة في ضوء الحقوق التي يضمنها الدستور، أي العمل على تحرير القانون الجنائي من هيمنة الخطاب الفقهي بتعطيل العمل بإصدار عقوبة الإعدام.
- ما هي مشكلة الخطاب الفقهي؟ مشكلته هي أنه لا يولي الاعتبار لمبادئ إنسانية الإنسان في الثقافة الحديثة، التي هي ثقافة تقوم على تعدد المعنى. وهو، باعتقادي، أساس الديمقراطية. لذلك فإن هذا الخطاب لا يفصل بين العقاب والانتقام، بل هو ينظر إلى الإنسان باعتباره يتمتع بوحدة عقلية ونفسية متماسكة، فيما تكوينه العقلي والنفسي، كما تؤكد على ذلك المعارف الحديثة، يتبع مسالك متعددة ومركبة تصل إلى حد التناقض والصراع مع الذات.
- وفق هذه الرؤية، ترفض جميع المؤسسات الحديثة مختلف أنواع العنف. رفض يؤدي إلى الفصل بين العقاب والانتقام. فعقاب المجرم لازم، وهو محصور في حرمانه من الحياة الطبيعية، أما الانتقام فهو ترجمة للحقد الممتزج بالعداوة، ويتم التعبير عنه بممارسة العنف، الذي يصل إلى حد الإعدام.
لعقوبة الإعدام بعد ديني وفلسفي وقانوني ونفسي. لكنّ الأقرب، برأيي، إلى ما يدلنا على إنسانية الإنسان وعلى الفرق بين العقاب والانتقام هو الأدب والفنون، حيث نقف على تعدد المعنى، وما ينتج عنه من قوة التأثير والإقناع. دليل ذلك هو ما تضيئه النصوص الكتابية والتشكيلية المنشورة ضمن هذا الكتاب “الحق في الحياة”. وأضيف إضاءات أدبية، من تاريخ الثقافة الإنسانية. أقتصر، باختصار شديد، على ثلاثة نماذج:
النموذج الأول من الشعر في عهد النبوة:
يروي الجاحظ، في كتاب “البيان والتبيين” ما يلي:
“ومن قدَر الشعْر وموقعه في النفع والضرّ، أن ليلى بنت النضْر بن الحارث بن كلدة لما عرضتْ للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت واستوْقفتْه، جذبتْ رداءَه حتى انكشف منكبُه، وأنشدته شعْرها بعد مقتل أبيها [الذي أمر النبي علياً بضرب عنقه]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو كنتُ سمعتُ شعْرها هذا ما قتلتُه”.
وجاءت الواقعة في رواية أخرى لإسحاق الحصري القيرواني في “زهر الآداب”، هكذا:
” وقتل النبي صلى الله عليه وسلم النضْر بن الحارث، وكان ممّن أُسرَ يوم بدْر، وكان شديد العداوة لله ورسوله، وقتله على بن أبي طالب صبْراً [حبْساً] فعرضت النبي صلى الله عليه وسلم أختُه قُتيْلة بنتُ الحارث ـ وفي بعض الروايات أن قتيلة أتته فشدّته […] فذُكر أن رسول الله صلى عليه وسلم رقّ لها ودمعتْ عيْناه، وقال لأبي بكر: لو كنتُ سمعت شعْرها ما قتلته”.
الشعر، هنا، يقدم معنى مختلفاً لسلوك النضر بن الحارث وتنفيذ عقوبة القتل فيه، ويبلغ تأثيره في النفس إلى حدّ ندم الرسول، وهو قدوة، على قتل إنسان “كان شديد العداوة لله ورسوله”.
النموذج الثاني من الأدب الحديث:
أختار، من بين العديد من الأعمال الأدبية، رواية دوستويفسكي ” الجريمة والعقاب”. كان دوستويفسكي روائياً وليس عالم نفس. لكنه، هو الروائي، المبدع، كان خبيراً بالأحوال النفسية لشخوصه. بهذه المعرفة فتح عهداً جديداً لا للرواية وحدها بل لعلم النفس والتحليل النفسي، إذ كان في مقدمة المتأثرين به في هذا المجال سيغموند فرويد. اخترت هذه الرواية لأنها تعتبر من بين أهم الأعمال الأدبية عبر التاريخ.
في هذه الرواية نجد شخصيتها الأولى راسكولينكوف، الطالب الجامعي، الفقير والمثالي بفكرة تفوقه على الآخرين في المجتمع، يقوم بقتل مرابية عجوز، ظناً منه أنه بقتلها سيخرج من فقره. ثم يتبين له لاحقاً، بعد القتل، أنه ارتكب جريمة لا يعرف السبب الذي دفعه إلى ارتكابها، ثم إنه، في الوقت نفسه، لا يحقق حلمه في الاستحواذ على أموال المرابية. والمحير هو أنه يدخل، بعد جريمته، في صراع نفسي ومعاناة داخلية مع كوابيس مفجعة، تطارده في اليقظة والنوم. بهذا العذاب النفسي الحاد يعاقب راسكولينكوف نفسه مباشرة، ولا يحتاج إلى أن يعاقبه المجتمع. فالوعي بالجريمة وفظاعتها وعبثيتها يؤدي به إلى حالة من الجنون.
هذه الرواية أحدثت رجة كبرى في الوسط الأدبي الروسي والعالمي لما استطاعت أن تبرزه من الجانب المعقد، الخفي، في الشخصية الإنسانية، بعكس ما كان سائداً من اعتقاد بأن الإنسان يتمتع بوحدة نفسية متماسكة، ويملك النوابض العقلية للتحكم فيها. وهي، إلى ذلك، تصور كيف أن العقاب النفسي، الذي يعاني منه المجرم، أقسى من العقاب الاجتماعي.
النموذج الثالث هو الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا:
يتميز هذا الشاعر المتفرد بكونه خلق أنداداً له، هم ألبيرتو كايرو، ريكاردو رييس وألفارو دي كامبوس. خص كل واحد من هؤلاء بكتابة تختلف كلية عن كتابة الآخريْن. فهو كان كتب: ” لا أعرف من أنا، ولا أي روح أملكها.” لذا فهو كان يرى أنه يجب أن يُظهر إلى الوجود هذه الأنا المجهولة، المتعددة، المقيمة في ليل اللامعرفة، من خلال الكتابات التي نسبها لأنداده. وقد طرحت هذه الأعمال السؤال مجدداً عن من هو الشخص؟ هل هو واحد أم متعدد؟ أي متي يبدأ وجود أي شخص ومتي يتوقف. وهي المسألة التي أصبحت في مقدمة القضايا الفلسفة الحديثة.
7.
بهذه النماذج، يمكننا أن نلمس الفرق بين قوة الأدب في إبراز إنسانية الإنسان ومناحي الجمود العقلي والنفسي في الخطاب الفقهي، الذي ينظر إلى الإنسان من خارجه، مثلما ينظر إلى حماية المجتمع نظرة جامدة. فالفقهاء يعترضون على تعدد المعنى، مما يجعل تفسيرهم للشرع عاجزاً عن إدراك معنى إنسانية الإنسان أو عبثية الأحكام الخارجية عن الإنسان. ويمكننا أن نفرق بين هذا الجمود في الخطاب الفقهي وقوة الإحساس بالطبقات المحجوبة للنفس الإنسانية، كما تستكشفها الآداب والفنون وتقترب منها الفلسفة والعلوم النفسية والاجتماعية والإنثربولوجية.
نحن، برأيي، أمام رؤيتين للإنسان ولحقوقه كإنسان. فاستمرار النطق بعقوبة الإعدام على أي مجرم هو، في النهاية، تعبير عن فقدان الشجاعة في إبدال نظرة عبثية، ترسخ منطق الحقد والعداوة. وكثيراً ما يتبين، بعد فوات الأوان، أنها صادرة عن معلومات أو تأويلات أو تقديرات ليس لها أساس من الصحة.
8.
لذلك فإن تمكين كتاب وفنانين من حق المشاركة في هذه المبادرة المواطنة، التي تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام في المغرب، يعطي هذه المبادرة قوة في الرؤية والتفكير والتعبير. وهو ما يجعل من إصدار كتاب “الحق في الحياة” حدثاً تاريخياً، ثقافياً وحقوقياً. بذلك يكون دعوة إلى صحوة فكرية، متحررة من الدوغمائيات، ومن الرؤية الأحادية، ومن ثقافة الحقد ومنطق الانتقام. فالكتاب والفنانون يريدون لحقوق الإنسان أن تصبح معياراً قابلاً للتطبيق في جميع مناحي الحياة التي ينص عليها الدستور، ويصبحَ الحق في الحياة مشتركاً بين جميع المغاربة.
* نص الكلمة التي ألقاها الشاعر محمد بنيس حول كتاب “الحق في الحياة”، في اللقاء المنظم بمؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود بالدار البيضاء، يوم الخميس 26 ماي 2022.