في الذكرى الخامسة لوفاة الكاتب والشاعر محمد الصباغ
ابراهيم الخطيب
ثالث ثلاثـة، محمد الصباغ وترينا ميركادير وخاسينطو لوبيث غورخي.
كانوا فرسانا ثلاثة:
الشاعرة ترينا ميركادير التي ولدت بمدينة أليكانتي (إسبانيا) ثم حلت بالعرائش قبل أن تفد على تطوان. والشاعر خاسينطو لوبيث غورخي الذي ولد أيضا بمدينة أليكانتي، وعاش بين مليلية وتطوان. والشاعر محمد الصباغ الذي ولد بهذه المدينة وكان مستقرا بها حينذاك. كانوا، ثلاثتهم، متقاربي الأعمار، حيث ولدوا تقريبا في عشرينات القرن الماضي،وكانت ترينا أكبرهم ، بينما كان الصباغ أصغرهم سنا. كان في ذلك الوقت في العشرينات من عمره: جميل المحيا، يجلل رأسه شعر ممشوط بعناية، ويعلو شفتيه شارب نحيل، يحاكي نحافة جسمه المتوارية وراء ملابسه الأنيقة على الطريقة الأوروبية.
من الصعب أن نعرف اليوم كيف تعارفوا، وكيف التقوا، وكيف توحدت أفكارهم، وكيف خططوا لإصدار مجلتين بالعربية والإسبانية، غايتهما وضع أسس تلاقح ثقافي واسع الآفاق، يتعدى المغرب وإسبانيا لينفتح، بواسطة الترجمة، على الشرق العربي وخاصة لبنان الذي كان الصباغ معجبا بحركته الثقافية، وتحديدا في جانبها الشعري المشبع بحداثة رومانسية. ما نعرفه اليوم هو أن ثلاثتهم كانوا يلتقون تارة في «الخزانة العامة والمحفوظات» التي كان مقرها أحد أجنحة المعهد الرسمي (ثانوية القاضي عياض حاليا)، وتارة في النادي الإسباني بشارع الجنرال فرانكو (شارع محمد الخامس)، أو في المقاهي الشعبية الصغيرة التي تحيط بساحة الفدان الجميلة التي كانت هندستها تحيل على مخلفات المعمار الأندلسي في إسبانيا. فهل استحضروا في أحاديثهم هنالك قيمة التعايش التي كانت سائدة في الأندلس إبان عهود خلت؟
في سياق هذه العلاقات الحافلة بالإبداع والنقاش الثقافي الرفيع، ترعرع محمد الصباغ، بل سرعان ما صار، نتيجة لذلك، الاسم الأكثر حضورا بين الأدباء المغاربة في المجال الثقافي الإسباني إبان خمسينات القرن الماضي. لا يرجع الفضل في ذلك إلى حركة الاستعراب في إسبانيا، التي كانت منفتحة على المشرق أكثر من المغرب، وإنما إلى مجهوده الشخصي ودأبه ومثابرته، وإلى دعم صديقيه الحميمين: ترينا ميركادير مؤسسة مجلة «المعتمد» (1947-1956)، و خاسينطو لوبيث غورخي مؤسس مجلة «كتامة» (1953-1959) التي كان صاحب ديوان «أنا والقمر» مشرفا على قسمها العربي.
في ريعان شبابه إذن شرع الصباغ في نشر أشعاره بالمجلتين المذكورتين، في لغتها الأصلية أحيانا ومترجمة أحيانا أخرى، كما تعاون مع صديقيه في نقل نصوص منتقاة من الأدبين الإسباني والعربي إلى اللغتين كلتاهما، فضلا عن قيامه بأسفار إلى إسبانيا، في مناسبات مختلفة، للاتصال بشعرائها وكتابها اللامعين، وحيث أتيحت له فرص متعددة لنشر أشعاره في مجلات ذائعة الصيت أو قراءتها في محافل أدبية حيث تردد صداها هنالك ردحا من الزمن.
وتدل الأنطولوجيا المكرسة لشعره، والصادرة سنة 1990 عن دار النشر Rialp (مدريد) ضمن سلسلة ADONAIS (التي نُشرت بها دواوين كبار الشعراء الإسبان المعاصرين) أن علاقته بكل من ترينا ميركادير وخاسينطو لوبيث غورخي لم تكن علاقة تعاون من أجل تحقيق أهداف ثقافية نبيلة فقط، بل كانت أيضا علاقة تناغم عميق يرشح منها تقديرهما الكبير لشعره، وحرصهما الذي لا يكل على نشره في إسبانيا على أوسع نطاق، وفي حلة تليق بشاعريته ذات المنطلقات الكونية. أشرف على وضع هذه الأنطولوجيا، التي تحمل عنوان «عن النار والقمر وقصائد أخرى»، صديق محمد الصباغ الحميم المستعرب خاسينطو لوبيث غورخي الذي شرع في إعدادها مباشرة بعيد وفاة ترينا ميركادير (1986)، حرصا منه، فيما يبدو، على ألا تضيع ذكريات الثلاثي هباء مع مرور السنين وتشتت الجمع. ولو كانت الشاعرة حية عند إعداد هذه المنتخبات لما ترددت لحظة في إدراج شهادتها ضمن موادها، خاصة وأن عواطفها وميولاتها نحو الصباغ، رغم فارق السن، لم تكن تخفى على أحد.
يضم متن المنتخبات 33 قصيدة أو مقطعا من قصيدة مقسمة، حسب مصادرها، إلى ثلاثة أقسام: هكذا تنتمي قصائد القسم الأول إلى ديوان «شجرة النار»،الذي صدر سنة 1954 (وقد ترجم إلى الإسبانية وصدر في كتاب قبل أن يصدر في صيغته الأصلية)، وتنتمي قصائد القسم الثاني إلى ديوان «أنا والقمر» الذي صدر سنة 1956 (وقد ترجم بدوره إلى الإسبانية)، بينما تنتمي قصائد القسم الثالث، من جهة، إلى مجلات إسبانية مختلفة مثل مجلة Caracola (مالقة) أو Cantico (قرطبة) أو Dabo (مايورقة) أو مجلات صادرة في المغرب مثل «المعتمد» و«كتامة»، ومن جهة أخرى إلى كتب للشاعر هي «شجرة محار» و«كالرسم بالوهم» الذي انتقي منه مقطع من قصيدة «موت لوركا»، وكذا كتاب «فوارة الظمأ».
وتتصدر المتن مقدمة ضافية بقلم خاسينطو لوبيث غورخي ، كما تم تذييله بهوامش عديدة عني فيها المستعرب بذكر أسماء المترجمين (عبد اللطيف الخطيب، ترينا ميركادير، غوميث نيسا إلخ)، بالإضافة إلى استحضاره ظروف كتابة بعض القصائد أو حصر مظانها الأصلية. وتعتبر هذه المقدمة (وهي من ص9 إلى 23) كشف حساب دقيق عن علاقات الصباغ بالعالم الناطق بالإسبانية: سواء فيما يتصل بترجمة شعره إلى هذه اللغة ، أو علاقاته هو بالشعر الإسباني وكبار الشعراء الإسبان، أو عمله كمترجم للشعر العربي المعاصر إلى لغة سيربانطيس. وإذا كان من المتعذر تلخيص المقدمة في هذه العجالة، فإنه من المفيد أن نلاحظ من خلالها بأن أول قصيدة لمحمد الصباغ ترجمت إلى الإسبانية هي قصيدة «صلاة» التي ترجمها المؤرخ محمد بن عزوز حكيم ونشرت بالعدد 25 من مجلة «المعتمد»، وأن الصباغ كان أول من ترجم إلى العربية قصائد من شعر أنطونيو ماتشادو، بمناسبة الذكرى العشرين لوفاة هذا الأخير، فضلا عن قصائد متفرقة للشعراء داماسو ألونسو، ولويس سيرنودا، وخيراردو دييغو نشرت بمجلة «كتامة»، بالإضافة إلى ترجمته إلى اللغة الإسبانية، بمساعدة السيدة ليونور مارتينيث مارتين، لشعراء لبنانيين معاصرين مثل بولس سلامة وسعيد عقل، ومشاركته في نقل ديوان «همس الجفون» لميخائيل نعيمة إلى نفس اللغة. على أن ما يثير الانتباه حقا هو أن الطبعة الإسبانية من ديوان الصباغ «شجرة النار» (وقد ظهرت ضمن منشورات مجلة «المعتمد») كانت تحمل، في صفحة الغلاف الثانية، كلمة تنويه كتبها الشاعر الإسباني الكبير، بيسينطي أليكساندري، الذي سيحصل سنة 1977 على جائزة نوبل للآداب، والذي كانت بينه وبين شاعرنا، منذ لقائهما في تطوان سنة 1953، مراسلات محورها أهمية اللغة والتلفظ والترجمة والإيقاع في الشعر.
هكذا، بوفاة محمد الصباغ (1929-2013) و 919-1986)، و خاسينطو لوبيث غورخي (1925-2008)، تكون صحيفة الفرسان الثلاثة، الذين تضافرت جهودهم للعمل بدأب وعناد على إشراع النوافذ من أجل تلاقح الثقافتين الإسبانية والعربية – المغربية في خمسينات القرن الماضي، قد طويت وجف مدادها، لكن ذاكرتها ستظل تقاوم جاهدة زحف النسيان.