جرائم التعليم بالمغرب.. أو مؤامرة الصمت الكبرى
اسماعيل الطاهري
توقيف الدراسة الصفية بالمدارس العمومية المغربية قبل وقتها المحدد شيء خطير جدير بالإدانة والرفض ويرقى إلى مستوى الجريمة التي تستوجب العقاب. جريمة أخرى تتمثل في عدم توفير المكيفات بالأقسام لمواجهة ارتفاع درجة الحرارة، وعدم توفير الأدوية لمحاربة الأفاعي والعقارب التي تهاجم المدارس العمومية خصوصا في العالم القروي خلال كل صيف.
وربما لا توجد سيناريوهات كهذه في بنك تفكير الوزارة، لذلك تترك الحبل على الغارب.
فلماذا تستمر الدراسة بجميع أسلاك وأقسام المدارس الخاصة، التي برمجت الفرض الثاني من المراقبة المستمرة برسم الأسدس الثاني/الدورة الثانية خلال شهر يوليوز القادم؟
في حين أن تلاميذ المدارس العمومية غادروا الأقسام تدريجيا ابتداء من 13 يونيو وانتهت العملية في السبت 18 يونيو على أكثر تقدير. وكل هذا عمليا تحت طائلة ومبررات ما يصطلح عليه في المقرر الوزاري بـ”اجراءات نهاية السنة”. التي تمططت إلى شهر ونصف عوض أسبوعين، كما جاء في مذكرة إعلان تواريخ الامتحانات الإشهادية التي تتحدث عن استمرار الدراسة إلى منتصف يوليوز.
إن المطبة التي ترقى إلى الفضيحة هي أن الامتحانات والإعداد للامتحانات تستنزف معظم طاقة وزارة التعليم طيلة السنة، خصوصا هيئة التفتيش، ولا يبقى لإرساء الموارد إلا حيز زمني ضيق، وهيئة التفتيش بين نارين: نار الإعداد للامتحانات ونار مراقبة المؤسسات والممارسات الصفية، (هناك مفتشون يؤطرون أكثر من 250 أستاذا).
كما أن إرساء الموارد (تلقين الدروس) نفسه يتم بطريقة لا يتم فيها في الأغلب احترام أسبوع الدعم الذي يكون بعد نهاية كل وحدة دراسية (الوحدة مكونة من أربعة أسابيع + أسبوع الدعم والتقويم). فالمهم هو استكمال الدروس على حساب الدعم التربوي الحقيقي والمقرر. والنتيجة هي ان الدعم يكاد يكون غائبا في أغلب العمليات التعليمية التعلمية، نظرا للضغوط المتزايدة على الأستاذ من لدن الإدارة التربوية والمكلفين بمراقبة الدروس، ومطالبته باستكمال الدروس والقفز على أسابيع الدعم والتقويم.
وهذا التحقير الممنهج للتقويم والدعم، هو ما شجع الوزارة على إخراج مشروع الدعم الذي يشرف عليه مرتزقة يتم جلبهم من خارج هيئة التدريس للقيام بالتدريس، في إطار الدعم عبر مخطط أوراش، وكأنهم عمال في الضيعات الفلاحية أوأوراش البناء والأشغال العمومية بلا عقود تحترم قانون الشغل ولا تغطية صحية. وكل هذا ليس لأهداف تربوية، وإنما لكسر شوكة الاحتجاجات والإضرابات داخل القطاع، وإعداد الوزارة “العدة الالتربوية”، للأسف، لكسر كل إضراب مفترض وتعويض الأساتذة المضربين، واستكمال المقرر الدراسي بأي ثمن، ولو على حساب المنهاج الدراسي نفسه.
لذلك فبرنامج أوراش في التعليم حق يراد به باطل. وأهدافه مكشوفة للعيان وتتمثل كذلك في تفادي خطر سنة بيضاء أمام ارتفاع منسوب مد إضراب أساتذة التعاقد هذا الموسم. الذي بلغ ذروته أبريل الماضي.
المصيبة الكبرى هي أن الدعم التربوي والنفسي لا يمكن أن يقوم به إلا مختصين تربويين ونفسيين واجتماعيين.
وكل دعم خارج هذا السياق لا يعد إلا دروسا إضافية للشحن والتحفيظ القسري من نقط المراقبة المستمرة والفروض والامتحانات الإشهادية، وهذه الدروس الإضافية محرمة تربويا وقانونيا ولا علاقة لها بعلم التربية الحديث ونظريات التدريس بالكفايات، التي تبناها المغرب منذ اعتماد الميثاق الوطني للتربية والتكوين مع حكومة عبد الرحمان اليوسفي سنة 2000(والتي لا زالت متعثرة لحد الآن. لكون جزء من الإدارة التربوية والمدرسين لا زالوا يشتغلون بنظام التدريس بالأهداف ولا زالوا حبيسي النظرية السلوكية. وهذا حديث آخر. ونظرية السلوكية هذه هي المعتمدة من طرف مرتزقة أوراش).
ما أفكر فيه، هنا والآن، هو كون الوزارة وحكومة عزيز أخنوش من ورائها وخلفها، عوض أن تكون سباقة إلى محاربة الدروس الإضافية وتجريمها، بوصفها قطاعا تربويا غير مهيكل، لا تستخلص منه ضرائب لفائدة خزينة الدولة، وهو أشبه بشرعنة التهريب. جاءت اليوم لتشرعنه وتخلق فتنة داخل المجتمع التربوي.
كما أن صنيعها هذا يتنافى مع برامج الإصالح المعلنة والممثلة في الرؤية الإستراتيجية 2016-2030 المستمدة من الميثاق الوطني للتربية والتكوين لسنة 2000.
وكان يتعين سن تشريعات لمحاربة الدروس الإضافية في المؤسسات الخاصة وحتى في المنازل والفيلات نظرا لخطورتها على البناء النفسي للطفل المتعلم، زيادة على تكريسها لعدم تكافؤ الفرص بين الأغنياء والفقراء، ومساهمتها في الزيادة في تفقير الأسر الفقيرة أصلا وإثقال كاهلها ماديا ونفسيا. وحرمان أبناء الفقراء والمتحدرين من المجالات النائية من تولي المناصب الوظيفية الحساسة في هرم الدولة، التي لا يمكن التأهل للترشح إلى مبارياتها بدون توفر الطالب على معدلات تقارب 10/10. لذلك ترفع الوزارة شعار “مدرسة النجاح”، وهناك جمعية بهذا الاسم في كل مؤسسة تربوية لا أحد يعرف أهدافها وهي من من مخلفات “البرنامج الاستعجالي” الفاشل للوزير اخشيشن. وما كان نكتة في مسرحية “مدرسة عشرة على عشرة” للداسوكين والزعري في نهاية الثمانينات صار حقيقة واضحة للعيان. يا لسخرية القدر.
ومسيري وزارة التربية الوطنية لا علاقة لهم بهذا الأفق الفكري الذي يؤطر التعليم الحديث والميثاق الوطني على علاته:
فبعد أخذ ورد حول السماح لأساتذة القطاع العام بالعمل في المؤسسات الخاصة لست أو ثمان ساعات في الأسبوع خلال عهدة الوزير بلمختار، جاء الوزير القوي/ الأسبق محمد حصاد ليقرر السماح لأساتذة التعليم العمومي بالتدريس في المدارس الخاصة لساعات غير محددة، ضد قانون الوظيفة العمومية الذي يحظر على الأساتذة القيام بأي نشاط تجاري أو ربحي. وقال الوزير حصاد حينها أن ما يهمه هو قيام الأستاذ بواجبه داخل القسم أما خارجه فهو حر.
وهذا الأمر قوى لوبي التعليم الخاص، الذي أصبح الطفل المدلل لوزارة التعليم. حيث استنزف مخزون الأطر التعليمية الكفأة على حساب المدرسة العمومية. بل امتد إلى أساتذة الجامعات في تخصصات العلوم والتقنيات. والغريبب في الأمر أن النقابات باتت متواطئة مع هذا الوضع الشاذ، بعد أن تخلت عن النضال التربوي والثقافي وبات أغلب عملها / نضالها ينصب على المطالب الخبزية، من ترقية وغيرها.
وهذه من الضربات القاتلة التي تعرض لها قطاع التعليم العمومي في المغرب، وجعله يدخل في فوضى عارمة توجت بسهر الوزير شكيب بنموسى على تقنين الدروس الإضافية داخل المؤسسات العمومية واستجلاب مرتزقة للقيام بالعملية في إطار مشروع أوراش، سميت ظلما وعدوانا ب”الدعم التربوي،” دون أن يكلف الوزير نفسه العودة إلى مفهوم الدعم التربوي وتقنياته وشروطه وآلياته، كما هي منصوص عليها في الكتاب الأبيض ووثائق مجزوءات التخطيط والتدبير والتقويم ومرجعياتها المعتمدة في برامج ومقررات التكوين الأساس المعتمد في المراكز الجهوية للتربية والتكوين.
والغريبب أن هذه الحقيقة المرة لا تخفى على الكوادر المسيرة للوزارة ومفتشيها العامين والمفتشين والمديرين والأساتذة في الميدان، والباحثين التربويين، ولكن هناك مؤامرة صمت كبرى داخل الوزارة، إن لم أقل تواطؤ خطير يمنح الرأي القائل بجود مخططات وأجندة تستهدف المدرسة العمومية، عن سبق إصرار وترصد، بعض المصداقية، خصوصا إذا ربط هذا الملف بملفات نقابية حارقة وعالقة لسنوات، نظير ملف الأساتذة المتعاقدين، وقبله وبعده أكثر من أربعين ملفا نقابيا متراكما لعقود تتماطل الوزارة في حلها ، بل وتتماطل في تنفيذ مخرجات حتى الحوار الاجتماعي الأعرج.
هذا دون الحديث عن اختلالات البنيات التحتية وطرق التدبير، التي تجعل المواسم الدراسية تنطلق متعثرة وتنتهي متعثرة ولا من حل في الأفق المنظور.
لهذا يمكن القول إن إعدام نهاية الموسم الدراسي بالطريقة المكررة والتي تشبه الإعدام شنقا لسنوات تجعل عملية الإصالح بعيدة المنال للأسف، خصوصا وأن الدولة العميقة مصرة إصرار “طارت معزة” على محاربة دخول السياسيين لتسيير القطاع، وتحرص على تنصيب خدامها من التكنوقراط لتسييره، (مع استثناءات قليلة مع كل من عبد الله ساعف والحبيب المالكي….الخ). بل أكثر من ذلك أن بعض المسؤولين المركزيين استمروا في وظائفهم أكثر من عشرين سنة، وتحولوا إلى لوبي ضغط حقيقي يصعب تغييره.
ورغم الإمكانيات المالية الهائلة المرصودة للقطاع، فإن النتائج المحصلة غير كافية، وكل برامج الإصالح التي يشرف عليها التكنوقراط باءت بالفشل، فلماذا يتم تكرار المكرر الفاشل؟ وهذا ما يذكي نظريات المؤامرة، مؤامرة قتل السياسة، مؤامرة قتل شعارات الحركة الوطنية داخل المدرسة العمومية. وهذا ما يذكي مؤامرة رفع الدولة يدها عن المدرسة العمومية كما بشر بها رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بنكيران.