أول استقصاء حول قراءة الملاحق الثقافية بالمغرب العربي
المصطفى اجماهري
تداول “العلم الثقافي”
حين كنت بصدد التحضير للحصول على دبلوم الدراسات العليا في الصحافة سنة 1991، من المعهد العالي للصحافة بالرباط، كنت قد حسمت في موضوع بحثي، ألا وهو “الصحافة الثقافية في المغرب، العلم الثقافي نموذجا” . وكان اختياري لهذا المحور نابعا من بعض إلمامي به نظرا لانخراطي في الكتابة، منذ منتصف السبعينيات، بملاحق الجرائد والمجلات، ومن متابعتي لبعض ما نشر حوله، ثم ملاحظتي للنقص الحاصل في الدراسات المتعلقة به خاصة على مستوى الأطاريح الجامعية. آنذاك لم يكن يعرف الكثير عن الموضوع، بل أذكر أنني عند إنجاز البحث، ورغم مساعدة زميلي في الدفعة الروائي المغربي محمد الهجابي والصحفي الأردني معن البياري، فلم أعثر ولو على مرجع واحد في صحافة الملحق أو في الصحافة الثقافية في المغرب. كنت، وقتها، أتوفر على بطاقة صحفي ثقافي لجريدة “العَلَم” زودني بها الصديق عبد الجبار السحيمي، المدير السابق لهذه اليومية. وكان أستاذي بمعهد الصحافة الراحل الدكتور زكي الجابر يناقشني في ما أكتب من مقالات وقصص وكذا عمودي بجريدة “العلم”، آنذاك، وعنوانه “شاطئ”. بل كان الدكتور الجابر كثيرا ما يكلفني بإيصال بعض قصائده للنشر إلى الصديق نجيب خداري مسؤول الملحق الثقافي زمنها.
في أثناء التحضير الأولي للموضوع اتصل بي الراحل أحمد تفاسكا، أستاذ مادة الصحافة المكتوبة بالمعهد، وهو لا يعلم اختياراتي ونقاشاتي هاته، واقترح علي الاشتغال تحت إشرافه على موضوع “نظام الاتصال بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة”. كان الراحل تفاسكا، المناضل اليساري السابق، واسع المعرفة وله مؤلفات في قضايا اجتماعية وسياسية، ويصدر مجلة تحت عنوان “الأرض والحياة”. وكان على علاقة جيدة بطاقم التدريس بمعهد الزراعة والبيطرة. فسر لي الأستاذ تفاسكا أن الهدف من البحث المطلوب هو معرفة إن كان نظام الاتصال المعتمد بالمعهد من شأنه تطوير العلاقة بين هذه المؤسسة التكوينية وبيئتها.
طبعا كانت فكرة الراحل بعيدة شيئا ما عن اهتماماتي، ولكن، احتراما لمكانة الأستاذ ولتاريخه النضالي، طلبت منه مهلة أسبوع للتفكير، فلم أشأ أن أزيح مقترحه من البداية دون التأمل فيه. وفعلا ذهبت لاستشارة الباحث المعروف نجيب بودربالة في مكتبه بمعهد الزراعة، فأشار علي بالبحث في موضوع أكثر أهمية، في رأيه، وهو دراسة طريقة تناول الصحافة المغربية لظاهرة الجفاف. فكرت في كل ذلك، وظهر لي حينها أنني حتما سأبتعد عن المسار الذي خططته لنفسي. فلم أجد بدا من الاعتذار للراحل تفاسكا عن الاشتغال على مقترحه، وهو ما تقبله بصدر رحب. زمنها بدا لي سواء من خلال رأي ذ. تفاسكا أو ذ. بودربالة أو زكي الجابر اهتمامهم المبكر بالبحوث المجالية المتصلة بما هو يومي ومباشر، الأمر الذي ما يزال مطروحا إلى اليوم، حيث أن هناك خصاصا وحاجة ماسة لبحوث ميدانية تتيح معرفة أكثر بالواقع والحياة.
عقدت لقاء مع الدكتور زكي الجابر بقاعة الأساتذة يوم 20 نونبر 1990. بسطت أمامه خطاطتي ومنهجيتي في تناول موضوع (الصحافة الثقافية في المغرب، “العلم الثقافي” نموذجا). وبعد نقاش وافق على الإشراف على رسالتي، بعد أن وضع أمامي بعض الشروط والتوجيهات. فقد كان رأي الدكتور الجابر أن صحافة الملحق في المغرب تفتقر للدراسة، والأهم في نظره هو دراسة جمهور “العلم الثقافي” من خلال عينة تطوعية. ذلك أن المطب الأساسي أمام المؤسسات الإعلامية، كما يرى الجابر، أنها لا تعرف جمهورها، لا تعرف ماذا يقرأ وماذا يشاهد، وكيف يقرأ، وما رأيه في المقروءات والمسموعات. بل لقد كتب الدكتور الجابر أن : “هناك عشرات الأسئلة حول المحتوى والجمهور والقناة والرسالة لم تطرحها المؤسسات الصحفية وإذا طرحتها فليس ثمة جهد ملموس للإجابة عنها، علما بأن الإجابات ستثري العمل الإعلامي وتعطيه حيوية التواصل بما ينتهي إلى تكوين المواطن المتفاعل مع أجهزة إعلامه”. وهذا بالضبط ما سبق أن ذهب إليه أيضا السوسيولوجي روبير إسكاربيت في مؤلفه “المكتوب والتواصل” الصادر سنة 1973.
وقد تأكدت صدقية رأي الدكتور الجابر، في نفس الفترة، على لسان بعض رؤساء تحرير مغاربة، مثل عبد الجبار السحيمي وطالع سعود الأطلسي اللذين اعترفا، في ندوة “الصحافة المغربية أي أفق ؟” المنظمة بفاس في يونيو 1992، بأن الصحافة المغربية “تجهل جهلا تاما هوية قرائها وخاصة منهم القراء الشباب”. وحسب علم ذ. الجابر فالاستطلاع الذي كنت بصدد إنجازه، وتحت إشرافه، كان أول استقصاء رأي في مجال قراءة الملاحق الثقافية في المغرب وربما بالمغرب العربي في ذلك الوقت.
عدا الجانبين النظري والتاريخي، طلب مني الدكتور الجابر أن أشرع في خطوات عملية ضرورية: إعداد استمارة الاستفتاء، تحديد العينة الزمنية للملحق في أربع سنوات، تحليل الوحدات والفئات بالنسبة لمواد الملحق حتى لا يكون تحليل المضمون مجرد بحث شكلي. كما ألمح علي بضرورة الاطلاع على المصادر الأجنبية في موضوع الصحافة الاختصاصية. ما زلت أحتفظ بخطاطة الموضوع كما كتبتها بخط يدي وقد أشر عليها الراحل ببعض الملاحظات. كان الدكتور الجابر يطلب من طلبته الالتزام بالدقة في الكتابة الصحفية والحرص على عدم تسرب التعابير الأدبية. هكذا مثلا حين كتبت: “يرمي هذا البحث إماطة اللثام عن..”، فقد سطر على تعبير “إماطة اللثام”. وحين كتبت : “كانت علاقة الثقافة بالصحافة علاقة وطيدة منذ بداية ظهور هذه الأخيرة” فقد سطر تحت “بداية ظهور”، طالبا مني أن أشير إلى تاريخ محدد.
يوم الرابع من دجنبر 1990 تابعت النقاش مع الدكتور الجابر الذي وافق على التصميم الأولي، كما اقترح علي توزيع استمارة الاستفتاء حول قراءة العلم الثقافي مباشرة بالملحق. كنت أتعاون مع جريدة “العلم” ولذا لقيت فكرة نشر الاستمارة مباشرة على صفحات الملحق استحسان الشاعر نجيب خداري المشرف على الإصدار. كما اعتبر عبد الجبار السحيمي، رئيس التحرير إبانها، بأن مساعدة الجريدة في هذا الجانب من البحث ستكون مفيدة أيضا بالنسبة للجريدة، ما دامت ستوفر لها معطيات كافية لمعرفة بروفايل قارئ الملحق.
كانت لي تجربة سابقة بإعداد استبيانات القراءة، وهو ما أفادني كثيرا فقد سبق أن أنجزت استفتاءين: الأول “ماذا يقرأ الموظفون المغاربة ؟”، نشر بالمجلة اللبنانية “دراسات عربية” (عدد 3-1988)، والثاني “القراءة لدى الكتاب المغاربة” نشر في مجلة “على الأقل” (عدد 1- 1991) والتي كان يصدرها الكاتب عبد القادر الشاوي. كما استأنست بدراسات أخرى في مضمار بحوث القراءة، من بينها بحث “قراءات الطلبة الجامعيين” للوسيل بويسف الركاب التي نشرت بمجلة “الزمان المغربي”.
ورغم حرصي على العناية باستمارة الاستفتاء إلا أن الأستاذ المشرف نصحني بأن أستشير بشأنها مع باحثين ومثقفين آخرين قصد تحسينها قدر الإمكان. كان السوسيولوجي عبد الكبير الخطيبي أول من اتصلت به في هذا الشأن. طرقت باب مكتبه بالمعهد الجامعي للبحث العلمي المجاور لمعهد الصحافة ذات 16 يناير 1991، رحب بي فعرضت عليه مشروع العمل وجدول التفريغ من سبع خانات، مكتوبا باللغة العربية. قرأه بتمعن. ثم ناقش معي الكلمات المفاتيحية التي فكرت في رصدها بأعداد الملحق الثقافي. ولاحظ الخطيبي أن هذه الكلمات ستكون قليلة في النصوص الأدبية الصادرة بالملحق. أما بخصوص اعتماد تحليل المضمون فأوصاني ألا أعتمد عليه كثيرا بطريقته الأمريكية، حيث الأفضل، بالنسبة إليه، تحليل المادة كما هي.
استفدت من الاستشارات المتتالية مع الباحثين وبعض الكتاب لتجويد الاستمارة، من بينهم السوسيولوجي عبد الفتاح الزين، الذي أشار علي بتغيير بعض مفردات الاستمارة حتى يتم استيعابها بيسر من طرف المستجوب، حتى أنني حين عرضتها على الباحث محمد نور الدين أفاية يوم 27 فبراير 1991، بمكتبه في مقر المجلس القومي للثقافة العربية بالرباط وصفها بكونها “استمارة جيدة” مقترحا علي توسيع فرص التعبير للفئة المستجوبة.
يوم 29 أبريل 1991 كنت على موعد مع الإعلامي عبد الوهاب الرامي، الأستاذ بمعهد الصحافة، لمناقشة التصميم النهائي، قبل عرضه على الأستاذ المشرف. وكان رأي الأستاذ الرامي، القادم تلك السنة من الجامعة الفرنسية، أن أوضح، في المقدمة، المراد بالمنطلقات النظرية للصحافة الثقافية، وتوضيح المنهجية المعتمدة منذ البداية. مع ضرورة أن تعكس الفصول الأبواب التي تتعلق بها. كما ناقشت معه الاختيار المنهجي الذي اعتمدت فيه ثلاث تقنيات في معالجة العناصر الاتصالية في الصحافة الثقافية، وهي: تحليل المضمون، واستفتاء القراء والمقابلة. ذلك أن هذه المناهج اقتضتها طبيعة الدراسة، وقد أثبتت فعاليتها في استخلاص النتائج في الكثير من الدراسات الإعلامية التي طبقت فيها. وفي اعتمادي على تقنية تحليل المضمون اخترت تسع كلمات مفاتيحية (مثل “تعادلية واستقلالية ووطنية”)، وتتبعتها في العينة المعتمدة من أعداد الملحق وأحصيتها واستخرجت نسبها المائوية، وبنيت على ذلك مجموعة من النتائج.
استكملت الإحاطة بموضوع البحث في “العلم الثقافي” من خلال ثلاثة حوارات أجريتها مع مسؤولي التحرير. وقد جرت هذه المقابلات في يونيو 1991، وتمت تباعا مع نجيب خداري وعبد الجبار السحيمي وعبد الكريم غلاب. خرجت من هذه اللقاءات بمعطيات غنية عن تاريخ الملحق الذي حقق سبقا زمنيا في الصدور بالمغرب، وعن طريقة إعداد المحتوى الأسبوعي، وعن المحطات الأساسية التي مر بها هذا المنتوج الإعلامي في تاريخه، خاصة في سياق الصراع السياسي الحزبي في المغرب، وانعكاسه على الثقافي. أخبرني عبد الجبار السحيمي، الذي كان أول مشرف على الملحق، أن بعض الكتاب المنتمين لحزب معين حاولوا حصار الملحق، لكن السحيمي أفشل خطتهم بالتفتح على الجامعة المغربية وعلى اتحاد كتاب المغرب. كما بذل الراحل مجهودات مستمرة للتأقلم مع المستجدات: ففي فصل الصيف مثلا حينما يخلد الكتاب إلى العطلة يلجأ لتعويض الفراغ بنشر الترجمات. إلا أن حضور الترجمات، كما علمت وقتها، كان موضوع نقاش حاد على المستوى الحزبي. فقد زعم البعض أن الملحق انفتح أكثر مما ينبغي على الثقافة الأجنبية، من خلال الإكثار من المواد المترجمة. وكان هذا ما دفع الراحل محمد العربي المساري إلى أن طلب إعداد تقرير حول ما نشر خلال ثلاث سنوات عن الإنسية المغربية. وطبعا كان من نتائج الاستقصاء الذي قمت به (إلى جانب وثائق أخرى) أنه زود القائمين المباشرين على الإصدار بمعطيات موضوعية حول الحيز المخصص للترجمات في الملحق، والذي كان حيزا معقولا ومناسبا.
سلمت الاستبيان النهائي إلى الصديق نجيب خداري، الذي خصص له صفحة كاملة من الملحق الثقافي. وقد نشر الاستبيان مرتين متتاليتين: الأولى بتاريخ 20 يوليوز 1992، والثانية في الأسبوع الموالي 27 يوليوز 1992. ومما سهل علي أمر تجميع الأجوبة أنه طلب من القارئ المتطوع ملء الاستمارة وإرسال القصاصة مباشرة إلى عنوان جريدة “العلم” بالرباط.
توصلت بأجوبة من جميع مناطق المغرب تقريبا، ومن بينها جواب قارئ كان يقبع بالسجن، حيث قمت بتحليلها وتقديم نتائجها مع التعليق المناسب، وأدرجتها في الفصل الثاني من الدراسة تحت عنوان “مضمون العلم الثقافي وجمهوره”. ولمناقشة العمل أمام اللجنة العلمية، حدد الدكتور محمد طلال، مدير الدراسات بالمعهد العالي للصحافة، شهر يناير 1993، أي بعد الانتهاء من الدخول الجامعي. إلا أن المناقشة سوف تتأخر إلى فاتح مارس 1993، وذلك بسبب المرض المفاجئ للدكتور زكي الجابر وهو بالولايات المتحدة الأمريكية وإجرائه عملية جراحية على القلب.. تكونت لجنة المناقشة برئاسة ذ. الجابر وعضوية الأساتذة محمد طلال، وعبد الكريم غلاب وأحمد زيادي. وهو العمل الذي نوهت به اللجنة وحصل على ميزة “حسن”.