“عريس الموت” رواية تاريخ لم يكتب..
لحسن أوزين
“عريس الموت شعار يصرخ به جنود اللفيف الأجنبي تعبيرا عن شراستهم القتالية وحبهم للموت والقتل وإراقة الدماء”. (178)
لكن بالمقابل ألا يورطنا هذا العنوان في الأحكام المعيارية المسبقة للسوسيولوجية والانثربولوجية الكولونيالية، التي كانت وراء إنتاج متخيل تمثلات احتقارية، عنصرية واستعمارية، في تطبيع نظرة جواهرانية وماهوية للعنف والهمجية والبربرية والتخلف في حق الشعوب التي استعمرتها. ففي تراثها الاستعماري الاستشراقي سيدت ورسخت في قيمه عريس الموت: رواية تاريخ لم يكتب..
ما التراجيديا المؤلمة التي يخفيها عنوان رواية “عريس الموت” لعبد الحميد البجوقي؟ وما الباب المحظور في الحكاية الذي يقتحمه هذا البطل المأساوي، معلنا انتهاك الممنوع والمألوف والمتعارف عليه في القبول بالامر الواقع، وتحيين سردية المقموع المهمش، والمنسي المستحيل التفكير فيه. وذلك بفعل قوة وسطوة تاريخ المسيطر الأجنبي وعملائه من الحكام المحليين. وفي طيات العنوان أيضا، يلمع ما يوحي بدفع التناقضات الى أبعد حد، تخطيا للسقف المبدئي والقيمي الأخلاقي المهيمن. بما يجعل من طلب الموت فرحا كبيرا، ووجها آخر لانتصار الحياة الجديرة بأن تكون عرسا والتحاما بالسلام والحرية والقيمة الإنسانيةا الثقافية الاجتماعية، هذه النظرة غير العلمية واللاإنسانية، تجاه الشعوب التي استعمرتها. فجعلتهم شعوبا تعشق العنف والقتل، وتسعى بجنون مروع في طلب عرس الدماء ، المفعم بالبشاعة والرعب الهمجي البعيد عن المدنية والإنسانية والتحضر، وهذا ما يبرر ويسوغ استعمارها لتأهيلها حضاريا؟
وتجنبا لأية التباسات يمكن أن ينتجها خبث العلامات خلال تفاعلها الجمالي مع الموسوعة الثقافية للقارئ، لحظة بنائه فرضياته التأويلية، نقترح البعد الفكري والدلالي الذي بلورته الرواية في سيرورتها الجمالية والفنية. وهي تفكر ذاتها كرواية، كسردية لها منطقها وأدواتها الخاصة في تخييل و استحضار المنسي، وبعث المدفون الذي فرض عليه حصار الصمت وسياج الحذر والستر. وهذا يعني أن الرواية تمثيل وتدوين بآليات متخيل الكتابة الادبية لتاريخ أُريد له أن يكون مجهولا مطموسا في كهوف الذاكرة المقهورة. هكذا تكون وتطور عبر آلام تشكل الرواية، كذاكرة ظلت تعاني مخاضات الولادة من جديدة، لتاريخ مكبوت، منبوذ، من طرف قوى نظام الحقيقة والخطاب.
“التحق عمي كريمو بأبي ليواصلا معا رواية تاريخ لم يكتب، الآن تهيم روحاهما من غير حذر، في حب لاح يوما واستتر..”. (193)
عريس الجوع والجهل والتخلف
تحاول الرواية أن تبني انطلاقا من آليات اشتغال الذاكرة، والأدوات الفنية الأدبية للتخييل الروائي، سردية تاريخية مسكوت عنها، ومنسية قمعا وقهرا لمغرب القرن التاسع عشر. حيث كان ممزقا ومتشظيا بين الاستعمار الاسباني والفرنسي. حدث هذا في ظل شروط وظروف عربية إسلامية انحطاطية، وتحت حكم دولة سلطانية مفككة وضعيفة على كل المستويات. الرواية تسلط الضوء على واقع المغرب الاقتصادي الهش والمفلس، والاجتماعي المتخلف الغارق في الجوع والتجويع، والجهل، ومختلف الامراض والأوبئة، والسياسي الممزق في ظل استعمارين جشعين حاولا تصريف أزماتهما السياسية وحروبهما العسكرية، ونهبهما للثروة المحلية، واستغلال الموارد البشرية، والزج بها في حروب امبريالية لا مصلحة لها فيها. وقد انعكس هذا كله في ما عاشه الناس من عذابات في توفير لقمة العيش المستحيلة التحقق، بسبب المجاعة التي نشرت سطوتها الرهيبة، ومحن التهجير والتشتت والقهر.
وصل الشعب المغربي الى هذا المستوى من الفقر والذل والقهر والجوع ، بعد حروب مقاومة خاضها بشجاعة وبطولة ضد المستعمر الذي استباح كل شيء في القتل والسطو والنهب. ومزق أوصال البلد متلاعبا بالهوية الوطنية الموحدة حلما وطموحا وتاريخيا، وفتت المكونات السوسيولوجية والثقافية والدينية، قصد التحكم فيها. وما كان للاستعمار الاسباني أن يفرض سيطرته، إلا بعد حروب همجية ارتكب فيها جرائم بشعة مستعملا أسلحة مجرمة ومحرمة دوليا. هذا يعني أن المستعمر ارتكب جرائم حرب ضد الانسانية، من خلال استعماله للسلاح الكيماوي والغازات السامة، التي خلفت مجازر مروعة، وأمراض وعاهات لا يزال الشعب المغربي يعاني من تأثيراتها السلبية صحيا واجتماعيا وايكولوجيا.
الرواية تضعنا أمام هذا الواقع المر والصعب، واللاإنساني الذي أطر واحتضن حياة الإنسان المغربي رجالا ونساء، أطفالا وشبابا. وجعلهم في متناول المخططات القذرة للمستعمر، في ابتزازهم واستغلال ظروفهم المادية الصعبة. فقد تضافرت كل هذه العوامل التي ولدها تخلف البلد اقتصاديا واجتماعيا، وتفككه السياسي. وعمق الاستعمار هذا الخراب والانحطاط، وحال دون إمكانية النهوض والاستقلال والتحكم في زمام المصير.
والخطير في الامر أن المستعمر استغل هذه الظروف لتشكيل صورة سلبية للمغربي بوصمة سيئة، تجعله محط كراهية واحتقار. ومما زاد متخيل الصورة بشاعة وازدراء، كتمثل اجتماعي ثقافي في وعي شعب الاستعمار، هو توريط المغاربة، من الفئات الشعبية المسحوقة، دون وعي منهم بظروف وسياقات والتباسات الحرب الاهلية الاسبانية، في الحرب الفاشية التي خاضها فرانكو بشراسة وهمجية في الصراع على السلطة.
موروث القهر الديني والثقافي والسياسي
” كان يردد باستمرار كيف لهؤلاء أن يدعوا الوطنية والنضال من أجل الحرية، وهم الذين ساندوا، علنا، الجنرال فرانكو في تجنيد الأبرياء من الشباب في حرب لا ناقة للمغاربة فيها ولا جمل، وكذلك الخليفة وحكومته التي شاركت في الدعاية للجنرال وانقلابه وحربه، نعم هذه هي الحقيقة المرة، الخليفة وحكومته شاركوا وعبأوا الأبرياء ضدا على قرار السلطان الشرعي، محمد بنيوسف”. (179)
لقد لعب الدين والموروث الثقافي دورا إيجابيا في مرحلة مقاومة دخول المستعمر، بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي. لكن سطوة وتسلط هذا الموروث، جعلته في ظل الجهل قابلا لتشويه الوعي، والسقوط في فخ مصالح وأهداف الاستعمار. لذلك لعب البعد القهري والتسلطي لهذا الموروث الثقافي والديني دورا سلبيا، في خدمة الخلفية الأيديولوجية للمستعمر. حيث دعا الفقهاء الى الجهاد بجانب فرانكو حامي الملة والدين، باعتباره مشروع مسلم. الشيء الذي سهل له تحقيق أهدافه وأجندته في تكريس سيطرته الاستعمارية، وفي تأبيد الهيمنة الفاشية للنظام السياسي الاسباني الحاكم. وبالتالي الحيلولة دون التحول الديمقراطي الذي كانت تطمح اليه القوى السياسية والنقابية والثقافية اليسارية الاسبانية، التي تعرضت لهزيمة رهيبة وقاسية، شارك فيها المغاربة بوحشية في القتل والتخريب والدمار. مما ولد في أعماق الاسبان كراهية وحقدا لهؤلاء المرتزقة الذين وقفوا الى جانب فاشية فرانكو.
فقد كان لرجال الدين المسلمين دور خبيث في هذه الهزيمة، وفي تكون هذه الكراهية. بالإضافة الى مساهمة أدوات السلطة المحلية من المقدمين والشيوخ، وبعض المثقفين من الرموز في الحركة الوطنية، مفل عبد الخالف طريس، وأيضا الخليفة والأمير…، كل هؤلاء كانوا وراء الوعي المشوه والتضليل السياسي الذي تعرض له الشباب والرجال الذين تم اغراؤهم ماديا بغطاء ديني شرعي جهادي دفاعا عن الدين. حيث صورت لهم الحرب الاهلية الفاشية حربا مقدسة ضد الملحدين والكفار من اليسار الاسباني. وخيل للمغربي أنها حرب تستحق أن يرى فيها نفسه عريسا للموت، دون أن ينتبه الى تورطه في المخطط الدنيء للفاشية، في التغطية على قذارة وبشاعة جرائم المستعمر في حق الشعب الذي جوبه بالحديد والنار والغازات السامة.
هكذا شارك المغاربة في الحرب الاهلية الى جانب الديكتاتور فرانكو، فكرسوا المتخيل الكولونيالي الذي أنتجته الثقافة الاستشراقية، حول همجية وبربرية المورو، الذي يستحق أن يداس بالأقدام، ويستغل كالعبيد الذين يباعون ويشترون في أسواق النخاسة.
بلغة جميلة منسجمة مع استراتيجية الكتابة الروائية في بناء الخطاب يرتب السارد متن هذه المعطيات، من خلال الشكل الروائي الحديث في التقطيع والتناوب السردي، والتناسل الحكائي. وفي الجمع بين السيرة والرواية، وبين المتخيل والواقع. ليضعنا في الصورة الواضحة لشرعية بناء السردية التاريخية المهمشة والمسكوت عنها، والحاضرة بقوة في كهوف الذاكرة الشفوية الشعبية، مشحونة بعقدة الذنب والتأثيم، بعد أن علم المغاربة شر سذاجة التدين السطحي، والجهل السياسي بحقائق الوقائع التاريخية محليا وخارجيا. مما أسقطهم بسهولة في فخ الفاشية ومخططاتها العسكرية في الاجهاز على الجمهوريين، وتأبيد الاستعمار.
المورو صناعة استعمارية فاشية
” يسعدني أن تكتبي عن المغاربة الذين شاركوا في تلك الحرب المقيتة، وأن تشرحي للعالم حقيقة مشاركة الأبرياء من المغاربة المغرر بهم فيها”. (188)
مع سيرورة القراءة، ومن خلال سيرة عبد الرحمن الأحمر، وما ارتبط به من شخصيات، بأدوارها ووظائفها المتباينة. وبمشاربها ومرجعياتها الدينية والسياسية والعرقية، المختلفة، إلى حد التناقض والصراع. يتبين للقارئ تكون وتطور السردية التاريخية المغمورة، القابعة بسوط القمع خلف التاريخ الرسمي، و كيف تتشكل بتوسط آليات التخييل الادبي. فتأخذ هذه السردية أبعادها الفنية والجمالية والتاريخية، بعد أن كانت مجرد بياضات وفراغات خلفها صمت الذاكرة المقهورة.
فبعد أن قدمت لنا الرواية معلومات وافية، وهي موثقة تاريخيا، عن الدور الهمجي والوحشي للاستعمار الاسباني، في ممارسته للقتل على نية الاخضاع والاذلال والتطهير، الأقرب الى الإبادة. ونشر الخراب والتدمير المقصود والممنهج، وفي فرض السيطرة والتحكم الاستعماري بالحديد والنار. قامت الفاشية الاسبانية بقيادة فرانكو باستغلال الظروف الحياتية للشعب الذي أنهك واستنزف في حروب المقاومة غير المتكافئة عدة وعددا. كما استفاد هذا الطاغية من النخبة الدينية الفقهاء والزوايا، بالإضافة الى الفاعلين السياسيين، سواء الرسميون منهم كالخليفة وحاشيته الأميرية، والجهاز البيروقراطي الإداري للسلطة المحلية، أو ما يتعلق بنخبة الحركة الوطنية التي أيدت المخططات و التوجهات الحربية للفاشية.
هكذا قدمت لنا الرواية السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية محليا، وفي العلاقة مع التحكم الاستعماري بالقرار السيادي ومصير الشعب والبلد، بمباركة من أزلامه المحليين السياسيين والدينيين، من الفقهاء والزوايا. كما فتحت الرواية عيوننا على الترابطات المعقدة بين الاستعمار والمجاعات والجهل والتخلف والتفكك السياسي، والظروف التاريخية السياسية للحرب الاهلية الاسبانية.
هذا ما جعلنا ندرك السياقات التحتية الخفية التي ساهمت بتخطيط محكم في إنتاج الصورة السلبية، والسيئة في الوعي الاجتماعي السياسي، والثقافي الاسباني تجاه المورو، المغاربة. وبهذا تضع الرواية يدها الفنية والجمالية على مفاصل السردية المغيبة في التاريخ الرسمي. وتبين لنا بكل وضوح إحدى الحقائق التاريخية التي تؤكد على أن المورو المتوحش صناعة فاشية ساهمت فيها أطراف محلية. وهذا ما يضيء راهنا حقيقة الإرهاب العالمي، كصناعة غربية تحسن استغلال شر المكونات والمواد والمعطيات والظروف والسياقات المحلية الداخلية.
ضحايا لا قتلة
” كان يؤمن أن تحرير المغرب من الاستعمار قريب، لكنه لم يكن يثق في السياسيين والوطنيين الذين دعموا انقلاب الجنرال فرانكو، وساهموا في بيع الأبرياء من الفقراء والمعوزين والزج بهم في الحرب الأهلية، وكان هو أحدهم”. (179)
بهذا البناء الفني للوقائع والاحداث، ومن خلال سيرة عبد الرحمن الشخصية المركزية في الرواية، كأحد المشاركين في الحرب الفاشية التي خاضها فرانكو ضد سلطة الجمهوريين. نتعرف على حقيقة تاريخية، بكون المورو الذين شاركوا بقسوة وهمجية في الحرب الاهلية، هم مجرد ضحايا لا قتلة. وهذا ما حاولت الرواية بناءه كسردية تاريخية، تعرضت للطمس والنسيان.
ولم يكن للرواية أن تفلح في بناء هذه السردية التاريخية المنسية، إلا من خلال تجربة النقد الذاتي الذي عاشه عبد الرحمن. فقد سمح له وعيه وذكاؤه، وشجاعته ويقظته الذهنية، في التفكير والتحليل وتفكيك المعطيات الملموسة بنار الحرب وسفك الدماء، أن يعيد النظر في حقيقة الحرب الجهادية المقدسة التي ورطه فيها رجال السياسة والدين المحليين، بتخطيط محكم من طرف فاشية فرانكو. فقد رأى بأم عينه كيف كان الرهبان يمارسون القتل في حق أبناء شعبهم بدعوى أنهم كفار وملحدين. وكانت أسئلة الحرب الدينية تتناسل في أعماقه في تناقض صارخ بين الرحمة والتسامح، وقتل النساء والأطفال.
كما أن لقاءه بروصاريو أسيرة بين يديه، وهي الفتاة الجمهورية ذات التوجهات اليسارية، ساهم بشكل كبير وفعال في بلورة تخميناته وملاحظاته النقدية، لما كان يعيشه كمشارك في القوات الهمجية للطاغية فرانكو. فبفضل الوعي السياسي النقدي للفتاة روصاريو، استطاع عبد الرحمن أن يعيد النظر في التجربة العسكرية التي يخوضها. فقد أفهمته روصاريو على أنه ضحية استعمار غاشم استعمر بلده، وفكك كيانه، ونهب خيراته، وقتل الكثير من أفراد قبيلته وشعبه. كاشفة الغطاء الديني المزيف للحرب المقدسة على أنها حرب فاشية ضد تطلعات وطموحات الشعب الاسباني. وأن السلطة الفاشية لا دين لها ولا مقدسات تؤسس عليها منطلقاتها وتوجهاتها المبدئية والأخلاقية. هكذا قام عبد الرحمن بمراجعة نقدية مفعمة بعقدة الذنب، لما صدر منه من وحشية في القتل والتدمير دون شفقة ولا رحمة. فثار ضد عبد الرحمن الفاشي، في معركة الذات ضد الذات، لعله يرتاح من عبء الهمجية والوحشية التي ولدها في جوفه الحي واقع بلده المؤلم، والخنوع والامتثال للمخطط الفاشي من قبل الفاعل السياسي والديني المحلي.
“كثيرا ما كان يردد أنه عريس الموت، وكان ينتظرها في أي لحظة، بل يتمناها للتخفيف من آلام وجروح مشاركته في الحرب الاهلية”. (178)
وزاد إعجابه وميوله العاطفية تجاه روصاريو من تعميق وتجذير وعيه النقدي الى درجة صار عدوا للنظام الفاشي، ومطلوبا للقتل والاعدام. بهذا الوعي النقدي اتسعت رؤيته للحياة، وصار متسامحا ودقيقا في التحليل قبل التجرؤ في إصدار الاحكام على كل أفراد شعبه الذين تورطوا بشكل أو بآخر في التعامل مع المحتل، أو في الخضوع للمخططات العسكرية و السياسة الفاشية. هذا ما اتضح بجلاء في علاقته بابن عمه عبد الكريم والآخرين. وفهم على أن الجمهوريين والمورو المغاربة مجرد ضحايا الحرب الفاشية. وأن انتصار فرانكو يعني استمرار الاحتلال والنهب والقهر والجهل والمجاعات…
عريس السلام والحياة والحرية
“ولا يفتأ يشرح كلما ردد الشعار أنه عريس للموت من أجل السلام، من أجل الحياة ومن أجل الحرية، وكذلك كان، استشهد وهو يقاتل بطريقته من أجل ذلك”. (178)
فهذا التحول النوعي النقدي الذي عاشه عبد الرحمن، جعله ينظر الى التضحية/ الموت بشكل أكثر نبلا وإنسانية. هذا يعني أنه صار مرتبطا بقيم أخلاقية، ومبادئ فكرية تعلي من شأن وقيمة السلام والحرية والحياة الإنسانية التي تسع الجميع، دون أدنى تمييز كيف ما كانت طبيعته ومسوغاته.
لهذا واصل عبد الرحمن مشروعه التحرري في دعم المقاومة بالسلاح والتفكير والممارسة. وإذا كانت عقدة الذنب والتأثيم لا تكف عن تعذيبه الى حد اعتبار نفسه عريس الموت. وذلك طلبا لراحة الضمير من عذابات ألمه المزمن كفاشي سابق، وكمورو متوحش نالت منه الوصمة السيئة للسياسة الفاشية. ووشمته بالشر والبربرية في الذاكرة والتمثل الاسباني للمغاربة.
وضد هذه الوصمة البشعة السيئة التي مست كرامته وهويته الإنسانية، وضد العنف الأعمى للاستعمار والفاشية، التحم عبد الرحمن بنداء الحرية والسلام، منتصرا للضحايا إسبان ومغاربة. وقد أثرت وأغنت كيانه النفسي والشخصي تجربة العشق والحب والزواج التي عاشها برفقة روصاريو التي فتحت عينه على ما يستحق السلام والحرية والحياة. لذلك واصل كفاحه بوعي وفخر واعتزاز بالهوية والذات على أنه حفيد محمد بن عبد الكريم الخطابي
فقر الدم التاريخي
” يجب أن يعرف العالم حقيقة ما جرى، أن يعرفوا التاريخ الحقيقي، وليس التاريخ الذي كتبه المنتصرون”. (188)
جميلة هي الرواية في الأفق الذي تمضي إليه في كشف المستور، وإزاحة الغطاء عن المقموع، والمسكوت عنه. الرواية بذلك تنجز عملا جبارا من خلال إسهامها في التغلب على فقر الدم التاريخي. يعني أن تاريخ الحروب والعائلات والبلاطات، كثيرا ما همش تاريخ الشعوب في قهرها وهدرها واستباحتها. وألقى بالكثير من السرديات التاريخية في كهوف الذاكرة. وقد أثر ذلك ليس فقط على الشعوب في معرفة تاريخهم الحقيقي، بل أيضا على المنهجيات والمقاربات الحديثة في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وفقر الدم التاريخي هذا انعكس اليوم سلبيا في الوعي الاجتماعي والسياسي، مما جعل الكثير من الأبحاث والدراسات قاصرة ومحدودة السقف المعرفي العلمي، والرؤية الفلسفية والأيديولوجية. وهذا يصب في مصلحة تاريخ الحروب الاستعمارية والامبريالية والفاشية والاستبدادية. لأن الجهل يولد الكثير من الضحايا الذين تحصدهم الآلة الرهيبة للتاريخ الرسمي وطنيا وعالميا.
لذلك تستفز الرواية القارئ حين تجعل ضحايا الاستعمار والفاشية الفرانكوية، يترحمون اليوم على الاستعمار والطغاة بمسوغات القهر والذل والمهانة التي يرزحون تحت وطأتها القاسية والمرعبة. كما تستفزه بأسئلة الوعي الديني البعيد عن القبول والتقبل والاعتراف بالآخر في دينه وقيمه ومعتقداته.
“من قال لك أن النصارى غادروا، الذين غادروا هم المسلمون، ومن بقي هم النصارى والكفار، ألم يكونوا أرحم بنا من المسلمين الذين يشرفون اليوم على تدبير حياتنا؟… رحمة الله على النصارى، كانوا مسلمين بأفعالهم”. (183)
ألا يذكرنا اليوم هذا الوعي الديني للمعضلات الاجتماعية والسياسية، بمخططات الطغيان والفاشية التي تتقنع بالدين لتحقيق مآربها وإنجاز أهدافها الخبيثة. فهل سردية المسكوت عنه للتاريخ المهمش تستطيع نقد ونقض هذا الوعي والرؤية، أم هي لن تذهب بعيدا في إعادة إنتاجه؟
*عبد الحميد البجوقي، عريس الموت- دار الفاصلة للنشر ، ط1- س2022.