الذاكرة الحية: عن الاجتياح الإسرائيلي وانتخاب بشير الجميل
نسيب شمس
منذ أربعين سنة، تحديداً عام 1982، حصل الاجتياح الإسرائيلي للبنان، والذي سبقه وصول زعيم حزب الليكود مناحيم بيغن الى سدة رئاسة الحكومة الإسرائيلية، والذي قام بتعيين إرييل شارون وزيراً للدفاع. يومذاك شعرت قيادة القوات اللبنانية منذ اجتماعها الأول مع القيادة الإسرائيلية الجديدة، بأن الإسرائيليين يُحضرون لعمل كبير في لبنان، وبالتزامن مع اجواء الاستعداد للحرب في إسرائيل، لمست القوات اللبنانية بأن هناك مشروعاً أميركياً ــــ إسرائيلياً يهدف الى تعميم نموذج كامب ديفيد على بقية الدول العربية.
يُزعم أن هذا المشروع رأى فيه بشير الجميل فرصة سانحة لتعزيز حظوظه إلى رئاسة الجمهورية، فقرر أن يكون جزءاً منه. رغم أن الإسرائيليين كانوا اقترحوا في وقت سابق على رئيس الجمهورية آنذاك الياس سركيس بواسطة طرف ثالث تمديد ولايته، لكن سركيس رفض وأقنع الأميركيين بتبني ترشيح بشير رئيساً للجمهورية.
مع اقتراب ساعة الصفر موعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بدأ القادة الإسرائيليون يضعون قيادة القوات اللبنانية في أجواء العملية العسكرية التي ينوون القيام بها على الأراضي اللبنانية ويناقشون معها بعض التفاصيل الميدانية والعملانية، لكن الإسرائيليين لم يفصحوا أمام القوات اللبنانية عن الأهداف الحقيقية لهذه العملية، وبناء على هذه المعطيات، قررت القوات اللبنانية عدم المشاركة مع الجيش الإسرائيلي في أي عملية يقوم بها على الأراضي اللبنانية.
كان قائد القوات اللبنانية آنذاك الشيخ بشير الجميل، يعتبر أن مشاركته في أي عملية عسكرية إلى جانب الجيش الإسرائيلي ستؤدي إلى التأثير على حظوظه بانتخابه رئيساً للجمهورية، خاصة أن موازين اللعبة السياسية اللبنانية لم تكن تسمح له بالوصول الى رئاسة الجمهورية من دون رضى الطرف المسلم.
ويومها رفضت قيادة القوات اللبنانية اقتراح الدكتور فؤاد ابو ناضر باحتلال بلدتي المروج وضهور الشوير في المتن الشمالي، للتقدم عن طريق ترشيش باتجاه زحلة. وجاء الرد من الشيخ بشير لا نريد أن نظهر بأننا متواطئون مع الإسرائيليين فإن ذلك من شأنه أن يضر بمشروعنا للوصول الى رئاسة الجمهورية.
كانت الثقة مفقودة بين القوات اللبنانية والإسرائيليين، رفض الجميل الإستجابة لأي طلب إسرائيلي باقتحام بيروت الغربية. ومساء 23 تموز 1982 أعلن بشير الجميل ترشيحه لانتخابات رئاسة الجمهورية، مؤكداً أن هذا الترشيح ليس للمناورة وليس للمساومة، أو التراجع عنه وطالب بخروج كل الغرباء والقوى المسلحة غير اللبنانية من أرض الوطن، موضحاً أنه لا يمانع في بقاء الوجود المدني للفلسطينيين. ومبدياً استعداده للتفاهم مع السوريين ضمن الاحترام المتبادل بالتفاوض من الند إلأى الند، رافضاً التخلي عن أي جزء من الأرض لأن ذلك يعرض الكيان كله للخطر.
وبتاريخ 18 آب 1982 أعلن كامل الأسعد، رئيس مجلس النواب اللبناني، تأجيل موعد الجلسة المقررة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في 19 آب الى 23 آب 1982، على أن تُعقد في مبنى المدرسة الحربية في الفياضية بدلاً من قصر منصور بسبب إصرار بعض القوى المسلحة الموجودة غرب المحكمة العسكرية على عدم الإنسحاب.
وفي 23 آب 1982 انتخب الشيخ بشير الجميل رئيساً للجمهورية اللبنانية في الدورة الثانية للإقتراع بأكثرية 57 صوتاً من أصل 62، ووجدت خمس أوراق بيضاء، وكان معظم النواب المسيحيين حاضرين وصوّوتوا لمصلحة بشير. ومن بين النواب المسلمين ادّى النواب الشيعة دوراً حاسماً في تأمين انتخاب الجميل، في حين ان الغالبية العظمى من النواب السّنة والدروز قاطعت الانتخابات وحضر مراقبون بريطانيون وفرنسيون. كما تمّ إحراق منازل النواب الذين صوتوا للجميل في بيروت الغربية.
وأعرب الجميل عن شكره للذين انتخبوه وللذين قطعوا الجلسة، مقترحاً وضع خط بين الماضي والحاضر وبدء طريق جديدة تتخطى فئوياتنا وحساسايتنا واعتباراتنا وأعلن أنه يمدّ يده إلى جميع اللبنانيين والعرب والأصدقاء المخلصين، متعهداً بأنه لن يكن حزبياً وفئوياً. وقال إن وحدة اللبنانيين ستكون حتمية.
لكن الرئيس المنتخب الشيخ بشير الجميل، سقط في انفجار عبوة ناسفة زُرعت في بيت الكتائب في منطقة الأشرفية، وقتل معه 20 شخصاً، منهم رئيس منطقة الاشرفية جان ناضر، وعضو المكتب السياسي الكتائبي فؤاد أبي نجم، وأصيب 60 شخصاً آخرين بجروح.
شكل اغتيال بشير الجميل اغتيالاً لمشروع القوات اللبنانية، غاب المؤسس وحامل المشروع، غيابه شكل بدء أولى الخطوات التراجعية للقوات اللبنانية.
لبنان تغيّر وما زالت التغييرات منذ أربعين سنة تتوالى، لا شك أن العصر الإسرائيلي في لبنان الذي بدأ عام 1982 قد انتهى ودخل لبنان عصور أخرى. ولا شك أن الذاكرة حُبلى بالأحداث وحكايا الأماكن والأشخاص ولا بد من التذكر. حيث يصح: تنذكر من أجل لا تُعاد ولا بد أن تبقى الذاكرة حيّة دون نبش القبور.