كاتمُ أسراره لم يمت، وإنْ بكوْا رحيلَه في لندن!

كاتمُ أسراره لم يمت، وإنْ بكوْا رحيلَه في لندن!

د. محمد الشرقاوي

في أواخر يناير من العام الماضي، انتشر خبر حزين بين زملاء القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية BBC في لندن وعواصم أخرى حول وفاة محمد الأزرق. وقد انقطعت أخباره حتى عمن اعتقدوا أنهم كانوا “قريبين” منه خلال أيام لندن في الثمانينات والتسعينات. وتردد أنه توفي “قبل ثماني سنوات”، أي في حدود عام 2012-2013.

بكلّ أريحية ونبل إنساني، كتب عبد الله فرصطوي مدير صفحة “هنا لندن: تاريخ وذكريات” يدعو أسرة بي بي سي عربي لتأبين “الفقيد” وتخليد ذكراه كواحد ممن عملوا في هذه الإذاعة العريقة.

تأثر النّاعون، وحزن المعزّون، وكتب رفاق الدرب القدامى ما فاضت به نفوسهم الجياشة وقلوبهم الفاترة. وكنت منهم عندما نشرتُ تأبينا بعنوان “قواسم مشتركة بين لطفي بوشناق ومحمد الأزرق”، أتحدث فيها عن “حرص بوشناق المغني والأزرق المذيع على وضع يديهما قرب أذنيهما لقياس أدائهما بما يقترب من فن التجويد.”

يمر عام ونصف، ويرحل عنّا “أبو الرشد” رشاد رمضان، وأنشر في ذكراه تأملات منذ زمن المراهقة، وكيف كانت صورة له بقميص “ندوة المستمعين” مغناطيسا لي للطموح للعمل في إذاعة بي بي سي. فيسألني أحد السائلين على الصفحة عن أخبار محمد الأزرق، فأجيبه بكل عفوية “المرحوم محمد الأزرق توفي قبل عدة سنوات”.

لكن بعض العارفين من الجيران لمن يبدو أنه “ميت” حي و”غائب” حاضر صحّحوا لي الخطأ هذا الأسبوع، وغدوتُ من شهود الزور على جنازة دون جثمان. ويتعين الآن أن أغيّر حرفتي، أو هوايتي على الأقل، لكتابة رواية جديدة في أدب الأسرار العميقة والألغاز الدفينة، بما يفوق حبكة أغاثا كريستي وقدرات شرلوك هولمز.

قد يكون التّواري عن الأنظار موقفا ظرفيا، أو بحثا عن خلوة روحية، أو انقطاعا انفعاليا عن المجتمع. لكن كيف يختار المرء الاحتماء بزيف الموت من أجل الاختباء عن الأنظار بشكل مطلق؟ وقد يبلغ التشبع بالسرية والتعتيم والكتمان والضبابية وشتى الهلاميات في السلوك البشري ما يجعل تغييب الذات غاية في حد ذاتها بشكلٍ لا متناهٍ.

عدتُ إلى ما كتبه الزملاء، ومنهم كايد العبادي الذي صاغ هذه العبارة المهمة: “كان محمد الازرق كتوما.. لا يعرف أي أحد أين يسكن… رقم هاتفه… متزوج وله أبناء.. ونتيجة هذا التكتم لم نعرف نبأ وفاته إلا بعد ثماني سنوات من رحيله الى جوار ربه..”

أتذكرُ أيضا ما رواه لي أحد أقاربي عندما مرّ عليه وهو يقطع العشب في حديقته الأمامية ذات يوم في حي…. (لن أذكر المكان احتراما لحرمة الخصوصية الشخصية). وعندما حاول الاطمئنان على أحواله وأحوال أسرته، بادر “كاتم الأسرار” إلى نفي أن له اولادا وبناتا ولا أسرة بالمرة.

من المفارقات المثيرة أن جل الزملاء يجمعون على أنه شخص “واضح” في مواقفه و”شفّاف” في التعبير عنها دون تردد. يقول زملينا محمد الصالح الصيد في كلمة التأبين “كان المرحوم محمد الأزرق إذا تحمس لفكرة ما، يسعى بكل ما لديه من حنكة وخبرة وتجارب حياتية شخصية لإقناعك بوجهة نظره. وكان أحيانًا لا يكتفي بالكلمات والجمل، بل يستعين بلغة الجسد؛ تعابير الوجه وحركات اليدين، بهدف إيصال الفكرة بشكل واضح.”

معادلةٌ صعبةٌ بين الشفافية والتعتيم، وكفانا من مسرح اللامعقول في واقعية الحياة. ولا يسرني أن يظل كاتم الأسرار جامدا في مكانه يشاهد عن بعد كل ذلك الفيض الإنساني وعبارات المحبة التي يكنها الزملاء والأصدقاء وهم يودعون روحه في تأبين عبثي.

شهامة المرء أن يقدّر هذه المحبة. فهل يعود الغائب من خلف السحاب قريبا؟!

بانتظار طلتك البهية يا محمد الأزرق، شارب قهوة “إسبريسو” دفعة واحدة، على أمل أن تعود دفعة واحدة!

شارك الموضوع

د. محمد الشرقاوي

أكاديمي وكاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *