قراءة سريعة لرواية “نهاران” للمغربية لطيفة حليم
بديعة الطاهري
نهاران هي الرواية الثانية للروائية المغربية لطيفة حليم. وهي أستاذة بشعبة اللغة العربية بجامعة محمد الخامس بالرباط. صدرت في طبعتها الأولى سنة 2012 عن منشورات فكر، سلسلة إبداعات.
رواية، وكما يخبر العنوان، تحكي رحلة شخصية رئيسية تدعى منى خلال نهارين، نهار بموريال، ونهار بشيكاكو، يشكلان فصلين متجاورين ومتعاقبين في الرواية. ويقوم بالسرد سارد غائب غير مشارك في الأحداث، يتابع البطلة في ترحالها وحلها، تشكل له موضوع تبئير وسرد. فيكون كعين كاميرا تلازم الشخصية وتتابعها، لنقل ما تراه وما تفكر فيه، وما تحس به، وما تتفاعل معه. ويشتغل كل فصل /يوم كمتتالية وفق علاقتين: الانفصال والاتصال .
يمتلك الفصلان استقلالها وانفصالهما، بناء على معايير فضائية وحدثية وممثلية. فلكل فصل فضاء، وشخصيات، وأحداث، في تفاعلها المنفصل ينمو الفصل ويستقل عن سابقه أو لا حقه.
أما الاتصال الذي يجعل من الحكايتين تشكلان كلا واحدا، فيعتمد معيارا ممثليا هو الشخصية الرئيسة من جهة، والسارد المتباين حكائيا الذي لا يتخلف عن وضعه السردي من جهة أخرى. إذ يحضران معا في النهارين /الحكايتين، يؤمنان العبور والتلاحم بين الفصلين /النهارين .
والنهاران /الفصلان لا يشكلان لا في استقلالهما ولا في تواليهما وتقاطعهما، نصا حكائيا يتطور وينمو بشكل تصاعدي .
النهاران/المحكيان هما عبارة عن فسيفساء من الأحداث تأتي أحيانا في شكل خبر، أو حدث، أو حكاية، تستمدهم الساردة من الماضي، ومن الحياة اليومية، من التراث الشفوي والمكتوب. لكن المحكي لا يقتصر فقط على الساردة، بل يهتم بمحكيات شخصيات نسائية من أقطار عربية، وغير عربية تلتقي بها الساردة في رحلتيها تلك، أو تسمع بها. وهكذا ينتقل السارد بين شخصيات مختلفة. رغدة، مي، ليلي.. الخ، لكن الشخصية الرئيسة تظل هي المحور وهي المحفز على النقل الذي يقوم به السارد .
تجعلنا القراءة الأولى نتبين علاقة تجاور فضائي بين الأحداث، لأنها منفصلة في المكان والزمان، لا تكمل بعضها البعض، بل تخلق انتشارا سرديا لا يلحمه، كما قلنا سابقا، سوى الشخصية الرئيسية. لأن السرد ينقل لنا ما تقوم به وما تفكر فيه هذه الأخيرة .
ولا تتأسس الرواية كنص معزول همه الحكي ومتعته. ولكنها تتأسس في أفق حواري. فما يجعل الرواية تتحقق هو تشكلها من نصوص مختلفة فيها الشعر والحكاية والتاريخ المعاصروالتراث والأغنية. نصوص تندرج في النص وكأنها امتداد للحكي، وإنتاج من قبل البطلة أو باقي الشخصيات، خاصة وأن النص يغفل في كثير من الأحيان مصدر القول. وهكذا يتحقق النص الروائي باعتباره فضاء يحاور ذاكرة ثقافية متنوعة، حبلى بالأحداث التي يحاول السارد من خلال البطلة إخراجها من بعدها الواقعي. فتتخلى الرواية عن اللهاث وراء تحقيق المتعة السردية، وتدعو القارئ إلى بناء النص وتفكيكه من جديد .
ويراهن النص على هذا التراوح مابين ترسيخ الأحداث في التخييل والواقع، وينساب كأداء شعري تؤثثه قصائد للبياتي وأدونيس والمتنبي وبنيس والمجاطي وغيرهم، وحكي تجود به البطلة على لسان ساردها ترصعه أقوال وحكم وحكايات وإحالات على كتب وروايات وقصص ووقائع تاريخية مستمدة من هنا وهناك، وهي جميعها ترسم تلاوين ذات منكسرة .
كثيرة هي الأحداث التي يجد لها القارئ إطارها الواقعي. تنقل كما تحتفظ بها ذاكرته، مثل قصة الأمريكية ذات الأصول اليهودية التي قتلتها دبابات إسرائيلية، أو الجدة التي ربت حفيدتها اليتيمة وتزوجت السلطان. ولا تتدخل سوى اللغة لإضفاء عنصر التخييل على هذه الأحداث التي تتراكم بسرعة هائلة، وكأن السارد لا هم له سوى الكلام على لسان الشخصية الرئيسية. إذ لا يتوقف عن تذكرينا بمصدر الرؤية او الكلام (منى تقول منا تفعل. منى تنظر..) إن سرعة السرد وتلهف السارد على الحكي، راجع إلى هذا الكم الهائل من الأحداث التي عاشتها البطلة واحتكت بها قراءة وفعلا، أحداث يسعى السارد إلى نثرها بين يدي القارئ الذي لا تترك له فرصة التريث لاسترجاع أنفاسه. سرعة ربما تعكس القلق الذي تعيشه البطلة. قلق ذاتي أولا: لأنها ، وكما يخبر النص لا تعرف الاستقرار بسبب عملها من جهة، وأمومتها من جهة أخرى. فهي كأستاذة ، كثيرة الترحال مابين المدن والدول لحضور محاضرات وندوات، وكأم تزور باستمرار ابنتها بكندا .
البطلة ليست امرأة عادية. إنها مثقفة تعيش هموم وطنها والعالم من حولها. لذا نجدها في تذكرها وقولها وفعلها، إما أن تقدم الحدث عاريا، بمعنى آخر خاما طريا، وإما أن تلبسه وجهة نظرها. وهي لا تعقد محكيها. إنه اليومي، كما قلنا سابقا، الذي يكون في صلبه المرأة ومعاناتها.
بالنهارين تطالعنا أحداث ترتبط بالوطن، والوطن العربي، ومدن، ودول أخرى ليصير العالم في النص قرية صغيرة ينثرها السارد بإيعاز ضمني من البطلة. أحداث تحكي معاناة تعكس أحيانا خصوصية المرأة، وأخرى هما إنسانيا يعيشه الإنسان المقهور في كل الفضاءات. تحكي عن نضال المرأة وعن حصارها وتمزقها،ومن خلال ذلك عن تمزق العالم من حولها. ولا يكون هم الحكي هو التهويل، لأن السرد وكما قلنا يأتي في كثير من الأحيان عابرا سريعا، ينقل لنا جملا وملفوظات لا رابط بينها سوى الفضاء النصي. إن هم السرد هو تجميع حالات، ومنحها للتأمل من أجل خلق أفق كتابة مغايرة، تخرق العادي والمألوف من قوانين الحكي القائم على التأمل الهادئ للعالم .
الرواية حالة تعكس القلق الذي تعيشه البطلة منى المهووسة بالكتابة، مرجعيتها في ذلك إيقاع الشعر ونبضه، متخلفة عما يفترضه وضع الكتابة السردية من طول نفس وروية.
ضمير الغائب في النص قناع لضمير الكاتبة. قناع فني لا أخلاقي. وإن كانت البطلة تشير، وتنبه القارئ منذ البداية إلى الحياء الذي يطوقها، ويحول دون كتابة لحظة /قصيدة، قطعة سردية لا تعين فحواها، وإنما تومئ إليه من خلال حديث ملغزعلى لسان جدتها “سلي المغرفة من الطنجرة قبل الغلية الأولى” (الرواية ص8) حديث تجعله موضوع راوية مؤجلة قد تستفز بها القارئ لاحقا كما تخبرنا.
ضمير الغائب حيلة فنية تتيح انشطار الذات وخلق المسافة بين “الأنا و “الهو”، كما تفترض ذلك الكتابة المونولوجية.
تنظر منى إلى ذاتها، تحكي ما يقع لها وكأنها أخرى. ويفرض هذه المسافة القلق الذي تعيشه منى، إذ تحمل أكثر من هم كما قلنا، هم المطبخ الذي لا تغادره حتى وهي بموريال أو بشيكاجو. هم الكتابة التي بواسطتها تنسى هم المطبخ. تحمل هموم المجتمع ومشاكله، وتناقضاته. قلق يفسره ذاكرة البطلة منى المحملة بأكثر من مرجعية تعتمل داخلها وهي تمشي في شوارع موريال وشيكاكو، وهي بالمطبخ، أو أمام الكمبيوتر. وهي تكتب، أو تقرأ رسائل من الأصدقاء. هي عوالم تحاول البطلة ترتيبها لإخراجها سردا.
قلق لأن البطلة في حالة مخاض. وما المخاض الذي تعيشه سوى محاولة ولادة رواية مستعصية. تقول: “تجهد فكرها في كتابة قطع سردية تصف لحظة” (ص9) .
قلق الكتابة، وقلق اليومي يجعل منى تنتج سردا ينمو عبر فعلها، وكلامها وحركاتها ولقاءاتها وذكرياتها، وشرودها، تأتلف هذه العوالم لتعطينا رواية نهاران. ويتساءل القارئ هل هي رواية؟ أم تخييل ذاتي خاصة وأن هناك ما يحيل على الكاتبة الحقيقية: الإشارة إلى روايتها الأولى، عملها كأستاذة بالرباط، دراستها، أحداث كثيرة ومعلومات أخرى (إشارتها لكتاب ومبدعين وأساتذة حقيقين منهم إدوار سعيد نعيم كاتان، صالح الأشتر، الشاعرة ريتادورف وغيرهم كثيرون) ترجح العمل لاتخاذ هوية أخرى، وتدعونا إلى التفكير في مقال آخر إن شاء الله.