منديل للدمع وآخر للكتابة

منديل للدمع وآخر للكتابة

 أفق:  يكتبه صدوق نورالدين

     احتفت آداب أوربا الشرقية بالإنسان وقضاياه العميقة التي تمس في الجوهر كينونته ومدى تفاعله مع الوجود والحياة، وفق ما تمثل في أجناس إبداعية مختلفة. بيد أن الخصوصية التي طبعت هذا الاحتفاء ـ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار كون الغاية من الأدب عموما رسم صورة عن الإنسان،  الجرأة في/وعلى فضح الاستبداد ونزوعات الأنظمة الديكتاتورية الشمولية التي تروم الحد من الحريات، وبالتالي خنق آليات التعبير، وهو ما لم ترق إليه وتستطيعه آداب انطبعت بالمحلية مما ضيق آفاق رؤيتها لما يعد ويعتبر مشتركا إنسانيا. ولي في هذا المقام التمثيل بتجربتين، ومن خلال كتابتين. فالروائية الرومانية ” هيرتا مولر”، والتي حازت جائزة نوبل في الآداب عن العام (2009)، ألقت خطاب التتويج في استوكهولم ووسمته بـ”منديل للدمع وآخر للكتابة”. بمعنى، أنها ركزت في هذا الخطاب عن شيء لا يكاد يفارق الإنسان مادام يظل في أمس الحاجة إليه وبخاصة في سياق الأنظمة الشمولية الزاجرة.. إن المنديل يمثل مفتاح الدخول لتشخيص عوالم الاستبداد و الديكتاتورية. فشخصية الأم كانت وعلى الدوام تتوجه بالسؤال إلى ابنتها:

“هل معك منديل؟”، كلما انتبهت إلى لحظة خروجها مغادرة البيت. ومن ثم تحكي “هيرتا” عن حياتها الشخصية في العمل، حيث طردت بعد رفضها القبول بالعمل مخبرة، لتحتمي بمنديلها الذي افترشته على السلم الذي غدا مكتبها حيث تباشر عملها وإبداعها. ومثلما حوربت الابنة، اعتقلت الأم على السواء، لتصاحب في لحظة اعتقالها منديلا كبيرا انتقته من جارور خاص بالمناديل أسعفها في تزجية الوقت بالبكاء، وتنظيف المكان المغبر.

إن القيمة الأدبية لخطاب التتويج (ترجمه بمهارة فائقة الروائي المغربي أحمد الويزي) يتحدد في دقة اختيار مادة الحديث أو الخطاب، والتي هي بالضبط ” المنديل”. إذ ومن خلاله يتحقق استجلاء واقع أنظمة همها الأساس مطاردة الرأي المغاير والمختلف، مثلما القصد التعبير عن مفهوم الكتابة: “غير أن الكتابة ما بدأت عندي إلا بجنوحي للصمت، في ذلك السلم الذي يقع في المصنع، حيث اضطررت ـ وأنا منكبة على نفسي ـ أن أستقي من قراري المكين، المزيد مما لم يعد الكلام يسمح به..”.

وأما التجربة الثانية التي لا تختلف من حيث معناها عما جاءت به “هيرتا مولر”، فأوردها الروائي التشيكي “ميلان كونديرا” في مؤلفه التأملي النقدي الأول “فن الرواية”(كتب بعده تحفة رهيبة وسمها بـ: “الوصايا المغدورة”)، وبالضبط في الجزء الخامس: “في وراء ما” والذي يعد أقوى قراءة رصدت لفهم “كافكا” و”الكفكاوية” عموما، والتي تندرج الحكاية التالية في سياقها، سياق “منديل للدمع وآخر للكتابة”. فبالاستناد لرواية “جوزيف سكوفيرسكي”، يدعى مهندس من براغ إلى ندوة في لندن. إلا أنه وحال عودته يسترعي انتباهه ما كتبته جريدة الحزب الرسمية “رود ـ برافو” عنه. فلقد أوردت خبرا مؤداه أن مهندسا تشيكيا شارك في ندوة بلندن، و انتقد وطنه الاشتراكي في الصحافة الغربية، وبالتالي صمم على البقاء في الغرب. إلا أن سكرتيرته تفاجأ به وهو في مكتبه، تماما كما فوجئت بالخبر.. ومن ثم ابتدأت متاعبه حيث استحالة التكذيب وحيث الجميع يرى إليه كخائن ليجد نفسه مرغما على الهجرة.

إن الحقيقة بين التجربتين واحدة: حقيقة المنديل الذي يمسح الدمع، مثلما يستدعي الكتابة التي تتألق ـ وبقوة ـ داخل فضاءات الاضطهاد والحد من الحريات..

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

صدوق نور الدين

ناقد وروائي مغربي