رسالة مفتوحة الى جلاد معتقل درب مولاي الشريف
الرعب والحرية لا يلتقيان
صلاح الوديع
16 أبريل 1999
هذه رسالة موجهة من مواطن إلى موظف سام·
وهي صادرة عن تصور بسيط مفاده أن الدولة وجدت لتحمي أرواح الناس وممتلكاتهم وسلامتهم·
هي رسالة تتناول موضوعا لا ككل الموضوعات·
تتوجه الى موظف سام لا ككل الموظفين السامين·
وهي مكاشفة علنية متعمدة عن سبق اصرار، في موضوع طالما أثار الرعب في المغاربة حتى باتت حياتهم موسومة به مستوعبة إياه·
هي رسالة صادرة عن مواطن يعتقد مقتنعا ان الحديث في هذا الموضوع يشكل مسؤولية اخلاقية تجاه نفسه وتجاه المواطنين وتجاه الضحايا السابقين والمحتملين، وتجاه الاجيال الصاعدة وتجاه التاريخ وتجاه الدولة نفسها·
وصاحب الرسالة، فوق هذا وذاك، ينتمي الى جيل يصعب عليه أن يفهم من الديمقراطية اقل مما تعانيه أو غير ما تعنيه من سيادة للقانون وتساو للناس، كل الناس، امام سلطانه·
هي رسالة تنفلت من زاوية محددة تترجم في سؤال بسيط قوامه: هل تتآلف الحرية والرعب؟
هي رسالة تهتك الحجب وتصطف في جدول الشفافية الحارقة، ولكن الضرورية، من اجل مغرب ديمقراطي حقيقة··· لا وهما أو ادعاء·
هل يمكن لجميع تجليات الحرية كما صاغتها المواثيق الدولية التي يتبناها المغرب اليوم ان تتآلف مع إرث قريب، مليء بالرعب والخوف والظلام؟
الآن والمغرب يتلمس عتبة انتقاله الديمقراطي، هل يمكن الحديث عن الديمقراطية وبلادنا لم تصف بعد تركة مخزون الفزع الذي سكن قلوب الناس عقودا حتى اصبحت رقابة الذات على نفسها أشد سطوة وحضورا؟
هل يمكن الادعاء بأننا اصبحنا شركاء في مواطنة واحدة والمصلوبون ينوؤون بالوشم الحارق على اجسادهم والجلادون ينوؤون بكوابيسهم السوداء؟
هل يمكن لصفحة الماضي ان تطوى ونحن لا نعلم هل دخلت شبكات التعذيب والاختطاف في عرف الماضي أم أنها لاتزال بيننا ـ كما كانت في الماضي ـ قائمة على هامش القانون؟
لا ياسيدي،
لابد من مكاشفة امام الملأ، وجها لوجه، وبلا وسطاء، فالامر يهم المغاربة جميعهم، يهم مستقبلهم الذي هو مستقبل ابنائهم بمن فيهم ابنائي وابناؤك أنت كذلك···
ولعلك بدءا لاتذكرني···
سأذكرك، رغم اقتناعي بأنك تذكرني جيدا، لسبب بسيط وهو أن عملك يتطلب من صاحبه ذاكرة قوية تحفظ الاسماء والألقاب والألوان والروائح، بل ومواضع الشامات على الاجساد، بل وحتى العورات نفسها···
افترض انك تتذكر اجسادنا اكثر مما تتذكر وجوهنا، فالوجوه في حضرتك، كانت دائما ملفوفة في كفن ابيض يسمى العصَّابَة··
ستكون مصارحتي لك مؤلمة جارحة دون شك·
لكنني لا أرى حلا آخر، وعليك أن تتقبل كلامي الى نهايته··
اصارحك بأنني اتساءل باستمرار هل تستطيع ان تنام بشكل طبيعي أم تزور كوابيسك الجماجم والعظام، هل ترتعد فرائصك حين يقف على مضجعك شبح من الاشباح أو طيف من الاطياف؟
هل تستطيع الجلوس الى ابنائك عند حلول الليل لتحكي لهم عن الاميرة النائمة وعن الساحرة التي تحرق الاخضر واليابس وعن الغيلان المختبئة وراء اغصان الصبار الشائكة وعن البطل الشجاع الذي يقهر الاشرار ويوقظ الاميرة والحياة؟ هم يمسكون بك ويتشبثون ـ كما يتشبث كل اطفال الدنيا بآبائهم ـ ولا يدرون أن الرعب اقرب اليهم مما يتصورون··
اذكرك انيقا بشكل لافت، أو قل متأنقا· لا تنتقل إلا بحاشية من زبانية، تنشر على رقاب الناس جناحا اسود خيّل إليّ انك اسميته في احدى جلسات الرعب: هيبة الدولة·
هكذا كنت تتفرج على اسراك القابعين في الاقبية والدهاليز·
كنت انيقا فيما اذكر، تنتقي ملابسك وربطات عنقك، تسير الهويني كلما حضرت الى مقبرة الاحياء التي تسمى درب مولاي الشريف، فتنتشر في الجو رائحة نفاذة، هي رائحة الكولونيا·
تلك الكولونيا بالضبط·
تختلط في ذهني كولونياك بدخان التبغ الاصفر والجلد المحروق، وبرائحة اخرى هي رائحة البول··
أراك تستغرب!
من فضلك تخل عن هذا القناع!
أنا اعرف لماذا تذكرني رائحة الكولونيا تلك برائحة البول وبروائح اخرى، هي مزيج من الاوساخ وبقايا البراز·
كنت تحضر دائما حصص التعذيب، بل وتوجهها· كانت الخرق الوسخة تخنق انفاس المصلوبين فيما كنت انت تلقي السؤال تلو السؤال وقد اختنق المكان نفسه برائحة الكولونيا تلك··
لاشك أنك توافقني اليوم على أن حقوق الانسان لها رؤية اخرى أقل رذالة لاستعمال البول والخرق الوسخة··
قل لي كيف تستطيع اليوم ان تنام لياليك تعج بالعظام والجماجم؟
الجماجم··
لعلك تذكر جمجمة عبد اللطيف؟
تسألني من يكون عبد اللطيف؟
عبد اللطيف زروال، ذلك الشاب المغربي الودود الذي لفظ انفاسه من جراء تعذيب وتنكيل دام سبعة ايام بلياليها تحت تراب الكهوف السوداء، الكهوف التي مصت آخر نبض من نبضات قلبه الرائع·
مات تحت ضربات سياطكم ودفن تحت اسم غريب، ثم سلمت لأبيه المفجوع وأمه المحروقة ورقة علاها الاصفرار بعد ربع قرن من الانتظار، تؤكد الوفاة وتمتنع عن بيان مكان رفاته·
تقول اسماء ابو زكريا: >اخذوا والدي وفي عمري سنتان عرفته من خلال الصور وما يحكى عنه· لم يعطوني فرصة لمعرفته في ذلك الوقت· والآن اطلب منهم فقط أن يعطوني ولو فرصة لمعرفة قبره·· اريد زيارة قبره فقط!·
تقول ام عبد الحق الرويسي: >عمري الآن سبعون سنة قضيت منها في انتظار ابني اكثر من ثلث قرن· اتمنى من الله ان تقر عيني برؤيته قبل الرحيل الاخير· فهل يصل دعائي الى السماء· أم انني لن أراه إلا في ملكوتها···<
قالت أم المانوزي تلخص حرقة الامهات جميعا: >صدقت لمدة طويلة أنه حي يرزق، قد يأتي اعمى أو مكسر الرجلين، لايهم··· أريده الى جانبي مهما كانوا قد صنعوا به· أما الآن فلم اعد انتظره، فقط، لو يدلوني على قبره<·
لاتبك يا سيدتي· أو فلنبك معا دمع الفقد والغضب· أما القبر، فقلوبنا كلنا تضم رفاة الراحلين·
وأما أنت، فلن تستطيع أبدا أن تتصور لون دمعها المدرار يا سيدي الموظف السامي، واستطيع أنا أن اتصور ان للمجرة عيونا تغرورق اللحظة بالدموع··
هل تنام أنت بعد كل هذا؟
ترى أين قبر عبد اللطيف؟ ترى هل دفن مكفنا أم بلا كفن؟ هل انتبه حفار قبره الى ابتسامته الهادئة وهو ينفض يديه من تراب قبره السري؟
في مدينة برشيد، على بعد اربعين كيلومترا من الدار البيضاء مازال الحاج زروال يرفض أن يتسلم شهادة الوفاة الغريبة لابنه حيث يشهد على الموتى بلا مثوى··· مازال يعقوب ينتظر أوبة يوسف·
هيبة الدولة!
أنظر يا سيدي ما فعلته هيبة الدولة بالبلاد:
55% من المغاربة يعانون من الامية·
30% من المغاربة يعيشون تحت عتبة الفقر·
47% من المغاربة من الممكن ان يتحولوا الى فقراء·
34% من الاطفال لايتجاوزون في عالم الاحياء سنتهم الاولى·
125 هي رتبة بلادنا ضمن 175 من الأمم·
اصبحت البلاد مضرب الامثال في استفحال الرشوة واستغلال النفوذ والترامي على الملك العام وتسريب المال المهرب من عرق الكادحين الى الابناك الخارجية، في رعونة قل نظيرها···
نزفت البلاد من دمها واستيقظت ذات يوم وقد اصابها الوهن والضياع وتمثل امام عينيها الهلاك المحقق·· وعلى مدار السنة اصبح الآلاف يركبون سواد الموج وملح الظلام هربا من ايامهم الى نصيب مؤكد من الموت او التشرد·
أما الصحة والسكن والملبس، لمن لم يهاجروا، فهي الرفاهية عينها··· الرفاهية التي لاسبيل اليها إلا كما يقبض الريح·
لاأظن أنك تدرك حقيقة ما تعنيه هذه الاشياء· الفقراء وحدهم يعرفون· نحن مغاربة، ونحن نقول >ما يعرف المزود غير المضروب به·
هكذا اذن، وفيما كانت البلاد تُساق رويدا الى مآزقها، كنت تنحت هيبة الدولة على اجساد المصلوبين···
لم تكن وحدك· تزمامارت، قلعة مكونة، الكوربيس، دار المقري·· واللائحة تطول: أوكار الرعب والفزع المنهجي المنظم كانت توثث كلها هذه الهيبة··
أمي حليمة· أم من أمهات الصبر والسنديان·
هي المرأة التي تباهي الدنيا بابنها عبد السلام·
هي كذلك لاتذكرها· لابد من التفاصيل مع ذلك·
أنت يزعجك مجرد ذكر التفاصيل· فكيف بمن عاشها زفرة زفرة!
كان عبد السلام يحلم بعالم متناسق جميل، وكان يدرك في نفس الوقت ان وراء فوضى العالم قوة المصالح· اصطف دون تردد الى جانب المستضعفين وأدرك بنفاذ بصيرته ان القعر بلا قرار· وحين وضعتم الاصفاد في يديه، استعصى عليه ان يعود في لمح البصر الى ظلمات القرون الوسطى· كان يصرخ بكل ما أوتي من إيمان· كان يحلم بمدينته الفاضلة ويرفض >الهيبة< و >العبقرية< و >الحضارة< التي تتفتق عن لعلعة السياط على ظهور المعذبين···
لم تكن الغيلان تزوره لوحده·
ميلود كذلك·
هل تذكر ميلود؟ هل تذكر ذلك الفتى البدوي السمهري النحيل الباسق الوسيم؟ طالب الاحصائيات البارز؟ قد لا تعلم انه فقد عقله· ارجوك، لاتتصنع الاسى· لقد تساقطت اسنانه واسود لونه وهزلت عظامه وارتد الى قبر أمه، الى ارحم الاحضان، لا، إنه لم يمت· فقط، في كل ليلة يحمل غطاءه ويذهب الى حيث تنام امه نومتها الابدية، يعانق قبرها ويستسلم للكرى، هربا من ذكراك!
هل تستطيع بعد هذا ان تنام؟
وهل تخاف من شيء·
الحقيقة ان مرؤوسيك كانوا يخافونك· لا ادري كيف يستطيع الجلاد أن يخاف من شيء، لكنهم كانوا يخافونك فعلا، وسيكون على البشرية ان تفهم معنى أن يخاف الكابوس من الكابوس، معنى ان يخاف الجلاد من الجلاد···
باشا
اعني أمي باشا، هل تذكرها؟
لا، أنت لاتذكرها·
انت تذكر ابنها عبد الله دون شك·
حين انتهى منه زبانيتك اضطر الى الزحف على مرفقيه وركبتيه طوال ثلاثة اشهر بأكملها وهو عبارة عن كومة من دم وضماد، هكذا كان يمضي الى المرحاض في اقبية درب مولاي الشريف، وهكذا كان يعود منه·
أمي باشا كانت في وجهها عينان تشعان بنظرة ثاقبة، طافحة بشعور غامر بالكرامة· ماتت منذ شهور، وحين ذهبت لأعودها قبل ان تسلم الروح، وجدت نفس العزة على نفس القسمات· تحسستني لحظة وكنت قد غبت عنها سنوات طوالا· قالت المحتضرة بلسان طليق وهي تصارع الموت: عرفتك! أنت ابن ثريا يرحمها الله· كلمات المحتضرة لخصت يا سيدي كل شيء···! ليرحم الله جميع الامهات، من سعدن بعناق فلذة الكبد ومن رحلن وفي حلوقهن غصة الفراق·
أنت ابن ثريا·
ثريا··
هل تذكرها هي كذلك؟
سأساعدك على ذلك ما استطعت·
ثريا والدتي؟ لاتذكرها؟ كنت تسميها بالعاهرة···
هل أنت قد تذكرت! كنت لاتذكر اسمها إلا وقرنته بالعهر والسقوط· كل امهات الاسرى كن عاهرات في عرفك، اما السجينات فحدث أيها الطاهر ولاحرج!
اسأل خلايا الكفاح من اجل استقلال المغرب، اسأل عنها وسيحدثك التاريخ عن مقامات العشق الصوفي الذي بوأك المقعد الذي منه نكلت بالابناء ولطخت اعراض الامهات وكتبت احدى اشد صفحات البلاد سوادا·
هناك صورة أحفظها لها مع محمد الخامس حين عودته من منفاه·
لا، سوف لن احدثك عنه· إنك لا تعرفه بالتأكيد، اعني لا تعرف معنى ان تلتحم بلاد بكاملها وبكل أجيالها وطبقاتها، حاكميها ومحكوميها، من اجل استرداد كرامتها، لأن كلمة >كرامة< لاتعني لك شيئا ذا بال···
كم كانت الوجوه وضاءة في تلك الصورة·
لكنك لايمكن ان تعرف·
انت تعرف الارقام فقط·
>33< هذا الرقم لاشك تذكره·
كان حراسك يصرخون به ويمططونه متندرين بتكرار التاء واللام· وكنت ادرك أن وراء كل صرخة به مأدبة من مآدبك، آتية لاريب فيها، حتى اصبح لكل شبر في جسمي ذاكرته الخاصة الحميمية، وأذكر أن ذاكرة قدمي كانت من جليد وثلج وأن ذاكرة يدي كانت من حديد وأن ذاكرة عيني كانت من ظلام· كلما صرخوا بالرقم إلا وانبجست ذاكرات جسدي كلها دفعة واحدة، من أدق خلاياه، مستقبلة الجحيم، مستنفرة كل طاقات الكينونة المهددة وكل مسام الكيان المعزول المستباح لآلة الهمجية المتسيبة الرعناء···
كم من الارقام تتابعت في سجلاتك؟ هي لم تكن تعني بالنسبة إليك اكثر من قيد وعصابة وجسد يتألم ويصرخ كل العنف المحصور في داخله كالقنبلة، والسؤال الخنجر يحفر بين اللحم والعظم فينز الدم المدرار ليسقي سواد الكهوف الرطبة···
في هذه الظروف الجهنمية، كانت تُحضّر الملفات تلو الملفات ويدفع بأفواج الشباب تلو بعضها الى قرون من سنوات السجن، يرفع سيفها على الاعناق، في ظل محاكمات توفر فيها كل شيء ما عدا العدل والانصاف·
شردت أسر وخربت آمال ودمرت احلام ومرت طاحونة القهر على طموحات اجيال كاملة بدون موجب حق··
اقرأ صفحة الماضي قبل ان تطوى أيها اللبيب·
اقرأ، هي شاهدة على كل شيء·
اقرأ، فلا شيء يضيع مهما أوهمتنا لحظة الجبروت··· لاشيء يبقى إلا الحقيقة العارية·
كنت ترطن بالفرنسية· لا تشوبها شائبة أو هكذا كان يخيل إليك، متوهما ان رطانتك هي الدليل على انتمائها لزمن متحضر ونسيت أنك انتميت الى درك بائس، الى أحط درك تستطيع البشرية ان تصله: أن تنفي كينونتها الآدمية وتغرقها في سفالة الهمجية ولا اقول الحيوانية، لأن للحيوان مع ذلك ترفعا عن السفالة ذاتها·
انت تفهم طبعا ان الرعب لايستهدف المصلوب في حد ذاته فقط· الهدف واضح: كل القوى الحية لهذا البلد·
اضرب سعدا ليخرس سعيد·! هي وصفة قديمة: يعطى المثال بالبعض، فلا يتجاوز الباقون الخطوط المرسومة، وفي ذلك >اقتصاد< للجهد والمال والوقت، مادامت الرقابة الذاتية تكفي··· كيف إذن للمبدع أن يتجرأ؟ كيف يراد للمفكر ان يحاور موضوعات زمانه الحارقة؟ كيف يراد لكل ذي حلم ان يزركش من حوله فضاء الدروب المكفهر؟ كيف يتعبأ شعب لم يُنظّر اليه إلا كجانح بالقوة في انتظار جنوح بالفعل؟ كيف يراد للبلد أن يستنشق هواء الحياة ملء الرئتين؟
مخيف يا سيدي كل هذا المكبوت في وجدان شعب بكامله، حقا إنه مخيف···
أسمع من ينادي بطي صفحات الماضي
تتقاذفني آهات المصلوبين
وتلاحقني الأيدي
تتلاطم أمواج الليل بذاكرتي
تومىء لي جمجمة الموتى
مزّق حُجب الظلمة عن أعيننا
مزق أكفان الصمت
كن أقوى من هذا الموت!
أعرف ان من الجلادين من يخجل من تاريخ يديه·
اعرف ان منهم من تقيأ حين رأى صفوف المصلوبين على محرقة الموتى·
حدث ذلك حين اتيتم بفوج جديد للحراسة فيما اذكر·
ربما أنتم لم تحضروه نفسيا بما فيه الكفاية· لم يكن المسكين يتصور ان يرى الجحيم بأم عينيه· لم يزر خياله أبدا وضع مثل ذاك، ينزلق فيه ابناء جلدته الى قعر الهمجية حيث تقضم عناكب الظلام طراوة الاعناق·
دخل المسكين فجأة، رأى وامتلأت خياشيمه برائحة الدهاليز الرطبة، مادت به الارض وتقيأ كل شيء: الطعام والشراب والبلاد و··· الحياة·
وفي المقابل، اعرف ان هناك من الجلادين من لاينتظر إلا الفرصة السانحة ليعمل انيابه في ضحاياه، تماما كما فعل الوحش بفريسته ودمها يترقرق طريا على التراب المبتل···
فمن تراك تكون اليوم بين هؤلاء؟
ومن أكون أنا· تسألني؟
أنا كما تعرفني تماما· قلبي لايزال في مكانه وأطرافي تحمل وشم ضيافتك، وأكتب الشعر·
في الدار البيضاء أقيم، وببلادي المغرب اهيم، وبه آمل أن أدفن حين يحين الرحيل·
الجديد هو ان لي الآن ثلاثة اطفال، وأحد همومي الجديدة هي ان يأكلوا كسرة خبزهم مبللة بالكرامة، وأن يتعلموا محبة بلادهم المغرب وان يستحضروا عمق انتمائهم لحضارتهم وغنى انتمائهم للبشرية، وان ينظروا الى مخاطبيهم حينما يتحدثون، وان يصافحوا الايادي وألا يطأطئوا رأسهم لجبار···
وقد تتساءل عن مصير المئات ممن اقاموا ضيوفا عندك·
انت تعلم ولاشك أن العشرات منهم مازالوا يحملون نفس الحب لهذه البلاد ويتفانون في خدمتها·
أنت تعرفهم واحدا واحدا، ولا شك ان عيونك مازالت عليهم، لأنك بكل بساطة لم تتقن غير هذا·
جنيف·
جنيف ليست عاصمة لمال العظماء ومركزا لاصطيافهم فحسب، هي كذلك مقر اللجن التابعة للأمم المتحدة والمهتمة بحقوق الانسان، ومنها لجنة مناهضة التعذيب كما لايخفي عليك·
كل هذا تعرفه طبعا·
ما اكرم هذا البلد وما اكبر شطارته!
يؤدي لك الاجر مضاعفا لتقوم على التنكيل بأبناء جلدتك، ثم يرسلك شاهدا على ألا تنكيل ولا يحزنون، كل ما في الامر حسد الحاسدين وكيد الكائدين!
أرأيت امر هذه الألمعية الفذة؟
لا ادري من أفتى بتعيينك عضوا في الوفد الرسمي المأذون له بتقديم التقرير الدوري عن التعذيب في المغرب منذ سنتين وكيف استطعت انت أن تجلس في مقر اللجنة بجنيف، في مقعدك الوثير لتشرح المقتضيات وتعلق على الحواشي وتقول بالفم المليان: أشهد ألا تعذيب في بلدي!
اي سقوط وأية سفالة!
في الواقع، أنت كثير الاشغال، ولم يكن لديك وقت للانتباه الى أن قيمة الآدمية قد شيدها البشر على مر العصور حجرا حجرا·
أنت لم تسمع صرخة البشرية بعد الحرب الكونية الثانية >يولد جميع الناس احرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق·
وهم قد وهبوا العقل والوجدان، وعليهم ان يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء·
ولم تستمع للشعر:
1- لايملك الارض غير الطيور التي حلقت فوق سطح الغناء
2- ولايملك الطير غير الفضاء المعلق فوق أعالي الشجر
ولم تستمع للفكر:
3- واضح ان كل فرد يقدم على تعذيب امرىء لكونه ليس على رأيه، هو عبارة عن وحش لم تسمع كلام العلماء:
4- هناك بشر يعاملون الناس أنكى مما يعامل الكلاب لإرهابهم والقضاء عليهم وإركاعهم وسحقهم·
لنزع كل صفات الآدمية عن معارضيهم· يجب الكفاح ضد هذا العنف الذي يذل الانسان: من يتعرض له ومن يقترفه على السواء
ولم تسمع كلام الصحابة:
5- متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا
ولا كلام التوراة:
6- من زرع الظلم يحصد السوء، وعصا حنقه تفنيه
ولم تسمع كلام الانبياء:
7- لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما
ولم تسمع أجمل الكلام وأقدسه:
8- ياعبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم، فلا تظالموا
تهج هذا الكلام حرفا حرفا·
اقرأه كلمة كلمة، وحين تحس بقشعريرة الخشوع، فربما تغتسل روحك في ثناياه·
الحقيقة انه لم يكن لديك وقت لأي شيء آخر···
حين استعيد عدد الايام التي انتزعتها من حياتي والليالي، وأتصور عدد الشواطىء التي لم استحم بها وروائع الافلام التي لم اشاهدها والكلثوميات التي لم تجد الى اذني طريقا، ومباريات الكرة التي لم ألعبها والكتب التي لم اقرأها والكلمات التي لم اقلها والحروف التي لم أكتبها والطرقات التي لم امشها والاصدقاء الذين لم اسامرهم والاشجار التي لم أتفيأ ظلها وأبيات الشعر التي لم تُغن روحي وكلمات الغزل التي لم اتهجها والجبال التي لم اتسلقها··
حين يتناهى الى سمعي صدى صراخ المصلوبين المنبعث من حناجر حفرتها اخاديد الألم وأخرسها عواء الذئاب· وحين استحضر وجوه امهات الفقد وألم النساء الجاثيات على احزانهن ونظرات الاطفال الذاهلة···
حين اتذكر عدد المرات التي علقت فيها كما يعلق الحيوان من حوافري ورائحة الخرق المبتلة بالبول التي خنقت انفاسي والسوط الذي اكل من لحمي النيء وادمى قدميّ وأبلى اظافري وأطباق القصدير التي لعقت والكاكي الذي كفنني والقيد الذي ادمى معصمي والعصابة التي شدت على عيني شهورا والكلام الساقط الذي مرغت فيها أصلي وفصلي والجلد الذي وشم ظهري···
حين استعيد كل هذا، اتساءل···
اتساءل كيف نستطيع ـ أنت وأنا ـ ان ننتمي الى نفس الوطن وان نتفيأ نفس الشجر وتلفحنا نفس الشمس ويبللنا نفس المطر ونمشي في نفس الطرقات ونتحدث نفس اللغة ونؤمن بنفس المستقبل··
ومع ذلك، فأنا لست حاقدا عليك·
وقد تفاجؤك قدرتي على الصفح والغفران·
لكنني لا استطيع ان اشارك في مسرحية عنوانها النسيان، مسرحية سمجة تهدر حقوق الضحايا وتدمر ذاكرتنا الجماعية··
لست حاقدا ولا متشفيا·
ولكنني لست مستعدا للاستخفاف بالالام، لست مستعدا لترك الباب مشرعا أو مفتوحا أو حتى مواربا لعودة الامتهان والعسف والهوان··· فأنا شاهد ولابد لي من الادلاء بالشهادة، إنصافا للتاريخ وحرصا على المستقبل الذي لانصنعه إلا بقدرما نؤمن أنه يهرب من ايدينا ويلتجىء الى اصحابه، الى الاجيال الصاعدة بكل ما في كلمة الصعود من رائع المعنى··
أرجوك ألا تتذرع بسمعة البلاد الخارجية لتعترض على هذا الكلام·
قد لا تفهم أن كلاما كهذا اقوله لك علانية اليوم هو بالضبط نفحة الهواء الذي يعطي للبلاد دفق حيوية فقدته منذ زمان····
ثم أنت لاتدرك أن مفهوم >الخارج< قد تكلفت الحياة بتغييره· فكل ما هنالك اليوم شؤون داخلية للبشرية جمعاء أو يكاد···
ها هو الزمن الذي تحدث عنه ليبنتز دون ان يعيشه، يقترب: >كل واحد مسؤول امام الجميع عن كل ما يجري·
فليقفل هذا الباب بالقفل المزلاج ثلاثا وليطوح بالمفتاح في الثلث الخالي من الدنيا·
السكوت عليك قد يصبح تواطئا·
وسبق أن نبهتك الى ان رسالتي هذه مؤلمة وموجعة·
ولكنها ـ في جميع الاحوال ـ أرحم من الصمت·
ولأنني مؤمن حقيقة بضرورة الانتقال الديمقراطي في المغرب بلادي، لابد أن أقول هذا الكلام، لأنني إن لم اجهر به
أساهم صمتا في اقبار التاريخ، وفي السكوت على اهدار كرامة الناس، وتدمير الذاكرة الجمعية، وأقر بالجبن والضعف امام جبروت الظلم والامتهان، وأضحك على نفسي وعلى الآخرين اذا اعتقدت ان طي صفحة الماضي يعني التغاضي عنك وتركك حيث أنت، في موقع المتحكم في رقاب الناس·
من موقع الحرص على الانتقال الديمقراطي في المغرب اذن، ومن اجل ارساء الثقة والامان الحقيقيين، لابد من طي صفحة الرعب الى الابد·
فباسم قوافل المصلوبين في هذه البلاد·
وباسم قيم الكرامة اللصيقة بالانسان
باسم النبض المتوهج في دماء بني البشر والذي يسمى الحرية
وباسم قيام العدالة الكونية التي بشرت بها اديان السماء واشرأبت إليها اعناق البرية
باسم حقوق الانسان كما هي متعارف عليها دوليا
علانية،
إذ أُشهد المواطنين البسطاء
وكل الديمقراطيين والمؤمنين بالمستقبل
والقضاة النزهاء
ورجال الشرطة النظيفين الاكفاء
والوزراء المؤمنين بقيم حقوق الانسان
وكل مسؤول في الدولة لم يلطخ يديه كما لطختها،
أدعوك يا سيدي الى أحد أمرين:
ان تكذّب امام الملأ بالحجة والبرهان ما جاء في رسالتي هذه، وهذا حقك المطلق، وفي هذه الحالة انا على استعداد لمواجهتك علانية بالشكل الذي تراه يبرىء ذمتك،
أو أن تقر بأن ما قلته هو عين الحقيقة،
وفي هذه الحالة، فإنني اطلب منك ان تأتي أنت ومن شاركك ومن أمرك ومن حماك ومن تستر عليك،
أن تأتي الى الناس وتطلب الصفح من ضحاياك، ثم أن تتخلى عن وظيفتك التي بواسطتها دست على القانون وامتهنت كرامة الناس·
وعند إقدامك على هذه الخطوات ستجدني بالباب أمد إليك يدي··· مساعدا إياك على استرداد انسانيتك·
يوم 26 يونيو 1999، ستخلد الاسرة الدولية، لآخر مرة في القرن العشرين، اليوم العالمي للتضامن مع ضحايا التعذيب·
أتمنى أن اصافحك يومها·
هوامش:
1) الاعلان العالمي لحقوق الانسان المادة 1·
2) محمود درويش·
3) فولتير·
4) فرانسوا جاكوب· دفاتر اللجنة الطبية ـ العدد 4 ـ 1985·
5) الصحابي الجليل عمر بن الخطاب·
6) سفر الامثال ـ 8.22 ـ العهد القديم·
7) حديث شريف.
8) حديث قدسي·