من أيـن تـأتـي الشـخصيات الـروائيـة..؟
شهادة عـن أوادمــي وحــواءاتي وتناصاتي الأدبية
د. برهان شاوي
بـعض الأصدقاء يناقشوني أحياناً حول هذا الحشد من الشخصيات الغريبة، في رواياتي، ويسألوني إن كانت هذه الشخصيات حقيقية أم أنها من وحي الخيال وأنا أسقط عليها أفكاري وشكوكي وأوجهها كما أريد..؟
أعتقد هذا من الأسئلة الصعبة التي يواجهها أي كاتب و كاتبة للسرد الروائي.. فهنا لايقين مطلق.. على الأقل بالنسبة لي، وأنا هنا أتحدث عن تجربتي الشخصية في الرواية لأنني أعتقد أن لكل كاتب وكاتبة خصوصيتهما في خلق شخصياتهما الروائية، وجميع الكتاب والكاتبات يختلفون في ما بينهم اختلاف بصمة الإبهام أو بصمة العين من شخص إلى آخر..
فبالنسبة لي شخصيًا أؤكد بأن الشخصية الروائية في رواياتي لا هي حقيقة وواقعية بالكامل، ولا هي من وحي الخيال في كل الأحوال. فتشكّل الشخصية الروائية عملية إبداعية معقدة جدًا.. هي تمازج بين ذاتي والذوات الأخرى.. فأية شخصية لا بد وفيها طيف ما من ملامح كاتب النص الروائي، مثلما فيها سيرة ما، غامضة، لشخص آخر في الواقع..!، بل، أحيانا، تكون سيرة الشخصية الروائية هي مزيج لشخصيات حقيقية مختلفة التقيت بها.
والحقيقة، أن العمل الإبداعي هو عملية غامضة من التقطيع والمونتاج والتكوين الجمالي الذي لا يستطيع الروائي أن يفسر سرّها، أو يكشف عن تفاصيل معادلتها النفسية والبايولوجية المعقدة.
بعض الكتاب يخططون طويلا لرواياتهم.. ويضعون قوالب فكرية أو آيديولوجية لشخصياتهم، بل ويضعون رسالة لروايتهم، ويجنسوا رواياتهم مسبقا بأنهم سيكتبون رواية سياسية أو اجتماعية أو.. أو.. وسيتناولون هذه القضية أو تلك.. ولا ضير في ذلك.. فلكل طريقته في ذلك، فالمهم هو في النهاية أن يتم الإحتكام للجمالي والفني الإبداعي..
أنا شخصيا لا أخطط لرواياتي.. ولا أضع لها أية قوالب آيديولوجية.. بل قد يستاء البعض مني إذا ما قلت إنني لستُ كاتبًا اجتماعيًا، ولستُ صاحب رسالة أدبية، فأنا لستُ واعظًا أخلاقيًا ولا مرشدًا روحيًا، ولا رسالة سياسية خاصة لدي...!
ففي لحظة الكتابة لا أفكر إلا بشخصياتي الروائية، بحيث أنسي نفسي وأتقمص شخصياتي.. فلا تعنيني نظريات الحداثة وما بعدها، ولا نظريات السرد والتلقي، ولا تحليل الخطاب وأصوله، بل حينما أكتب فأنني أكتب لنفسي وفي ذهني قارئ مثالي ربما سيقرأني، لكن من هو ؟ لا أعرف، فالكتابة الروائية حالة من التطهير الجمالي والأخلاقي أعيشها مع نفسي، أخفف من خلالها ضجيج الأسئلة التي تجر روحي إلى دوامتها العنيفة..
لكنني برغم ما تقدم لم أجب على السؤال بشكل صريح..: من أين تأتي الشخصيات الروائية.. وكيف تتشكل.. أليس كذلك..؟
طيب.. سأقول شيئاً..: إن كل شخصياتي الروائية هي شخصيات حقيقية، ومستمدة من واقع هذه الحياة.. وإنني عرفتُ وقابلتُ أو تحدثتُ مع الشخصيات الأصلية التي منها شكّلت شخصياتي الروائية، وفي الوقت نفسه هي ليست سيرة لأي من هذه الشخصيات التي قابلتها أو عرفتها أو تحدثت معها في الواقع أيضًا. أي إنني أستمع للحكايات ولقصص الناس ولبوح الأوادم والحواءات.. أتوغل فيها.. أحرر حواراتي معهم.. وأمنحها البعد الأدبي والجمالي.. وآخذ الحكاية لأضعها ضمن نسيج الحكاية التي يدور حولها السرد الروائي. وفي النهاية تكون مختلفة عن سيرة الشخصية الواقعية التي باحت لي بكل أسرارها.
فمثلاً أضع شخصية روائية معينة، في مواجهة أحداث جرت لشخص محدد أعرفه، ولا أدري إن كان هذا الشخص الذي استحضره لحظة الكتابة حيًا أو ميتًا.. وهذه الأحداث ربما جرت في زمن ما، سواء حرت معي أو لغيري..، وربما أضع هذه الشخصية الروائية نفسها في مواجهة أحداث أخرى جرت لشخص آخر أعرفه أيضاً أو ربما سمعت عنه، وهو غير الشخص الأول الذي باح لي بالحدث، أي أنني هنا منحت الشخصية الروائية خبرة وتجارب شخصين مختلفين عاشوا أحداثاً في بلدان مختلفة وفي أزمنة مختلفة..!! لكنها بالنسبة للشخصية الروائية التي اقدمها هي سيرته الشخصية الذاتية والمنسجمة في النص الروائي، ولا علاقة لها بالشخصين اللذين استحضرت ما جرى معهما، وهذا ينسحب على الشخصيات كلها من كلا الجنسين..
في بعض الأحيان أستمع لعدد من الرجال والنساء.. استمع لقصصهم الحقيقية.. أناقشهم شخصيًا وجها لوجه، أو أتواصل معهم كتابة عبر الايميل أو حتى الفيسبوك والمسنجر والواتساب.. لكني حين أشكل الشخصية الروائية فأني لا آخذ من سيرة كل واحد من هؤلاء سوى نسبة ضئيلة جداً، بل ربما أستخدم بعض حواراتي معهم في صلب النص الروائي..!
لكن أي شخص من هؤلاء الذين رووا لي حكاياتهم حين يبحث عن نفسه في رواياتي لن يجدها بسهولة، وإنما سيجد ظلالاً لها، أو إذا كانت شخصية بارزة وتأخذ مساحة من السرد فأنها تعرف نفسها بالتأكيد، وربما يأتي قارئ مجهول لا أعرفه فيجد نفسه في إحدى هذه الشخصيات..!
وأحيانا أتناص مع بعض الشخصيات الروائية في الأدب العالمي، فأشكّل شخصياتي الروائية التي تواجه مصائر متقاربة ومختلفة في آن. كما جرى في المتاهات حيث أتناص مع المتصوف عبدالجبار النفري، وناظم حكمت، وأميل برونتي في “مرتفعات وذرينغ والفيلسوف الروسوي سولفيوف، وهنري ميلر في” ربيع أسود” و”بئر الحرمان” إحسان عبد القدوس في متاهتي الأولى “متاهة آدم“، أو كما أتناص مع داريوش شايغان، ومدام بوفاري لفلوبير، وستندال، وأساطير وادي الرافدين في روايتي “متاهة حواء“، كما أتناص مع دانتي اليغيري، ودستويفسكي في روايته “الأبله” حيث أستحضر شخصية دستوبفسكي ونستاسيا فيليبوفنا والأمير ميشكين، وغوغول، وليونيد أندرييف، في متاهتي الثالثة “متاهة قابيل“، كما أتناص مع ستندال في “الأحمر والأسود”، وأتناص مع دي، هـ. لورنس في “عشيق الليدي شاترللي”، ومع قصة يوسف وزليخا التوراتية – القرآنية، في متاهتي الرابعة “متاهة الأشباح“، وأتناص مع البرتومورافيا في “الاحتقار” و”الانتباه”، ومع الأساطير الفرعونية وصراع شيت وأوزيريس، في رواية “متاهة إبليس”، ومرة أخرى أتناص مع ستندال في “الأحمر والأسود” في رواية “متاهة الأرواح المنسية“..
وأتناص مع التوراة والفكر اللاهوتي في ما يخص فكرة المخلص في رواية “متاهة العميان“، وكذا أتناص مع التوراة والقرآن في ” متاهة الأنبياء“، أما في ” متاهة العدم العظيم” فهناك استحضار لكل الفكر العالمي من دانتي أليغيري في “الجحيم” مرورًا بالقديسين بونافنتورا وتوما الأكويني، مرورا بالفيلسوف إيمانويل كانت، وهيغل، وليونيد أندرييف، وتشيخوف، والعالم الكبير ستيفن هوكينغ. ناهيك أن دانتي أليغيري و”جحيمه” مهيمنان على كل سلسلة “المتاهات“، بل هناك تناصات مع التراجيديا الإغريقية والفلسفات الهندية، الهندوسية والبوذية، بل هناك تناص مع الفن التشكيلي والموسيقي لاسيما مع تشايكوفسكي في رواية “متاهة قابيل”، ومع أغاني فيروز وعبدالوهاب، ولارا فابيان، وإديث بياف، وغيرهم. لكن تبقى الحياة هي المسرح الحقيقي للأحداث والذاكرة هي المنبع الصافي الذي ننهل منه دوماً.
لكنني هنا، وفي هذا المقام.. وأنا أتأمل متاهاتي الستع، وأتابع مصائر هذا الحشد الذي بلغ المئات من الشخصيات، من “الأوادم” و”الحواءات”؛ أجد نفسي ملزماً بأن أتوجه بالشكر لكل هؤلاء الذين حكوا لي تفاصيل حياتهم بشجاعة نادرة.
صحيح أن بعض الشخصيات كنتُ قد شكّلتها من خلال تجاربي في الحياة وتأملاتي في النفس البشرية، واستذكاري لشخصيات عرفتها ولمواقف مررتُ بي ، لكن هناك أيضاً من روى لي من النساء والرجال قصة حياته وكأنه في موضع الاعتراف والتطهير، متجاوزاَ كل الحواجز النفسية؛ والحدود الاجتماعية المتعارف عليها، ربما لاطمئنانهم بأنه لا أحد سيعرفهم شخصياً وبالاسم، كما أن ما أخذته من سيرتهم ربما نسبة قليلة مما حدثوني به، فتجلّوا في رواياتي من خلال شخصيات روائية مختلفة من دون أن يعرفهم أحد في الواقع. وقد حرصتُ جدًا على سرّية هوياتهم الشخصية.
عموما.. تشكل الشخصية الروائية عملية نفسية وجمالية وفكرية في غاية التعقيد. وليست رسما كاريكاتوريا واستنساخا من الواقع دون محسنّات جمالية وإبداعية.