رحلة استكشاف متحف كلاوديو برافو بأحواز تارودانت

رحلة استكشاف متحف كلاوديو برافو بأحواز تارودانت

   الصورة: كلاوديو برافو كاموس والامبراطورة السابقة فرح ديبا

 

علال بنور

انطلقنا صباح يوم 17 يونيو 2022 من مدينة تارودانت الى قصر/ متحف كلاوديو برافو كاموس، الذي يبعد عن المدينة بـ 8 كلمتر، في مكان يتوسط أراضٍ خالية في مجال بدوي، يحيط به سكن مشتت للسكان المحليين. يمتد القصر على مساحة 75 هكتارا.

 كان هدفنا، الوصول إلى متحف كلاوديو، الذي سحرنا من خلال ما وصلنا من معطيات، من خلال الحكي والقراءة التي أغرت فضولنا المعرفي، وللوقوف على ما سمعناه عن محتوياته، لتقديم ريبورتاج انطلاقا من المعاينة المباشرة.

 أدهشنا قصر/ متحف كلاوديو برافو بسحره العجيب برونقه وشموخه التاريخي. إنه امتداد من حيث البنيات التاريخية التي اقتناها صاحبه في طنجة، وهي عبارة عن قصر من 3 طوابق، يعود بناؤه إلى القرن 19 م، وقصر بمدينة مراكش. ومن الصدف، أن زيارتنا تزامنت مع ذكرى وفاة كلاوديو برافو كاموس.

مسار حياة:

ولد الرسام العالمي Claudio Bravo يوم 8 نونبر 1936 بالشيلي، دخل إلى المغرب 1972 وتوفي يوم 4 يونيو 2011 بالمغرب. اقتنى أرضا بأحواز تارودانت، بمساعدة صديقته فرح ديبا سنة 2001، وانتهى من بناء القصر في 2004. وضع له شخصيا تصميما هندسيا من الغرابة بما كان. وعند وفاته دفن بضريح داخل قصره.

 كان كلما اشتد عليه المرض، يرافقه إلى المستشفى خادمه محمد البوخاري، الذي سماه كلاوديو برافو بـ “مورينيو”، حسب تصريحه مع السيد بشير تابشيش، الذي كان الصديق الوفي والمرافق الدائم للرسام، وعاش معه في قصره برفقة عائلته لمدة 35 سنة. وأشار لنا مورينيو إلى المكان الذي شهد آخر أنفاس الرسام، كنبة قديمة توجد بين التحف، لا زالت في مكانها.

 يعتبر بشير تابشيش، الخادم والصديق المخلص للرسام، الذي قبل وفاته، ترك وصية إرث، منزل بطنجة لراشد ابن بشير، والقصر / المتحف لبشير، أما قصر بمراكش فللسيدة فرح ديبا، أرملة شاه إيران محمد رضا بهلوي، هي من ساعدته في شراء الأرض التي شيد عليها القصر. كما أوصى لصديقه رافائيل تيدونشا، الرسام الاسباني، بشقة في باريس.

من موطنه الأصلي الشيلي انتقل إلى اسبانيا، ومنها إلى نيويورك، التي استقر بها 1970، ومن ثم انتقل إلى طنجة 1972، ليستقر به المقام في أحواز تارودانت منذ 2001. هناك عثر على الضوء الذي يلاحقه الرسامون، ووجد الكرم السوسي. لذلك نادرا ما كان يغادر المنطقة. فشكل المغرب الوجهة المفضلة له ومستقره الأخير.

 كان كلاوديو برافو قيد حياته مولعا بالثقافة الأمازيغية التي سحرت خياله، فجسدت لوحاته تلك الثقافة مع مناخ المنطقة الأكثر ضوء على امتداد السنة. وكان يصنف نفسه أنه ينتمي إلى المدرسة السريالية، بالرغم من أن النقاد اعتبروا أعماله تنتمي إلى المدرسة الواقعية، ومن ثم كان مغرما بجمع التحف. وقد حقق في سجله التاريخي خمسين معرضا خاصا به من المعارض الدولية، كما ساهم في معارض مشتركة عديدة..

 أما عن اختياره  للعيش خارج المدينة ، فربما يعود إلى  تأثره بوالده ، الذي كان يملك مزرعة في الشيلي، أو اأن هذا الاختيار هو من طبائع الرسام الذي يبحث عن الفضاءات الشاسعة، حيث الضوء والهدوء اللذان يساعدان على الانغمار في الإبداع.

 في شبابه مارس كلاوديو برافو  الموسيقى والرقص، وفي سنة 1954، وهو في سن 17 من عمره، أقام أول معرض له بالعاصمة سانتياغو، فلقي تشجيعا من والده وأصدقائه. وفي مدريد طور من إبداعه كرسام بورتريه، وكالرسام الأشياء، أو ما يعرف بالرسوم الحية. وهكذا وجد في الوسط المدريدي،  أثناء حكم الجنرال فرانسيسكو فرانكو بإسبانيا، أن الإبداع محكوم بالسياسة اليمينية المتطرفة، فأصابه الإحباط لغياب القيم الإنسانية المتعلقة بالإبداع، فكان له في 1963 أول معرض بمدريد، المدينة  التي وجد العديد من فنانيها  يهتمون بالرسم الحي، ويجتمعون في ساحة عمومية لاستقبال هواة رسم بورتريه، ولا زالت هذه الساحة معروفة إلى اليوم بالعاصمة الاسبانية، حيث يزداد نشاطها أكثر في مواسم السياحة وفصل الصيف.

 يحكي مورينيو، أن كلاوديو برافو، عندما كان يشرع في الاشتغال على عمل، يفرض الهدوء وعدم الإزعاج، في طقوس روحانية، وفي رسمه للطرود المربوطة يلاحظ الناظر، أنها تخفي المحتوى بنظام الألوان والضوء. لذلك جاء بناء متحفه في فضاءين، فضاء داخل القصر مفتوح بأبوابه ونوافذه على أشعة الشمس، وفضاء طبيعي شاسع يحيط بالقصر.

القصر/ المتحف ومحتوياته:

أصابتنا الدهشة عند ولوجنا القصر/ المتحف، من مدخله تستقبلك التحف، ثم مكونات القصر/ المتحف، حدائق تجمع من غرائب النباتات والأشجار التي جلبها من مناطق مختلفة من القارات، ومسبح خاص بالعمال، وآخر خاص بالضيوف، وغرفة نوم مركبة خاصة بصديقته فرح ديبا، علقت على جدارها لوحة بورتريه خاصة بها من رسم كلاوديو برافو، وقد أحصينا أثناء زيارتنا للقصر، بفضل صديقي (الياس صدقي) الذي رافقنا، 8 قاعات عرض للوحات والتحف، منها الموضوعة بعناية في ممرات وأرضية القاعات، ومنها المصان بخزائن زجاجية على الجدران. صعب علينا عدها من كثرتها، وعدم معرفة أصولها، رغم الشروحات التي قدمها لنا مورينيو، هناك  قناديل من أصل عثماني تعود إلى القرن 16 م، جلبها كلاوديو برافو من تركيا، بالإضافة إلى العديد من المنحوتات والأفرشة القديمة، والكراسي والمنضدات المصنوعة من العاج والخشب النادر، والعديد من أشكال وأنواع النباتات والأشجار، منها  أشجارالنخيل الغريبة بجذوعها، جلبها، حسب ما صرح لنا به مورينيو، من مختلف القارات، بينها الهندي والافريقي والاسترالي والصيني والإيطالي والعثماني.

ينقسم المتحف إلى 8 أروقة في اتصال جمالي، تفصل بينها ممرات وحدائق مزهرة، هناك جناح عبارة عن غرفة نوم خاصة بفرح ديبا، تنفتح على مسبح، عبر أبواب ونوافذ من حجم كبير مشرعة أمام الضوء. وفي زاوية أخرى يوجد المرسم، لا زال على حاله من حيث أدوات الرسم والأصبغة مع المقعد الذي كان يستريح به. وفي جانب آخر توجد مكتبتان.

 ويتكون المتحف من طابق سفلي وآخر علوي وسطح، هذه الفضاءات الثلاث، عبارة عن قاعات عرض، تطل على الفضاء الشاسع داخل القصر، بل وتظهر من خلالها مشاهد طبيعية من خارجه. ومن اللوحات التي أثارت إعجابنا، خاصة بأصدقائه من الكتاب والرسامين، منها لوحة بابلو بيكاسو، ولوحة فرح ديبا.

وفي زاوية من الحديقة يوجد ضريح به قبر كلاوديو برافو، الذي بناه قيد حياته، مرصص بالرخام، في وسطه منحوتة من البرونز لرأس الدفين، وعلى طول جدران الضريح خزائن زجاجية، تحتوي على أشكال وأنواع الخزف المزينة برسومات، جلبها كلاوديو برافو من عدة دول، بما فيها خزف مغربي، مع وجود لوحات من الحجم الكبير، كما زينت الجدران الخارجية للضريح بآيات من القران الكريم. وبزاوية من القصر قريبا من الضريح، توجد بناية تطابق بناية منارة مراكش، بحوضها المائي الذي يحتوي على أنواع من السمك.

أكد لنا مورينيو، أن كلاوديو برافو، أشرف بنفسه على تصميم بناء القصر/المتحف بفضاءاته الطبيعية والمعمارية، التي تحتوي على مغارس ومنحوتات وهياكل عظمية حيوانية. وطبع لوحاته شخصيات وأثاث وملابس وأناس بسطاء بملابسهم التقليدية المغربية، كما رسم المنحوتات، وجمع بين التحفة والهياكل العظمية، مثل جماجم حيوانات موضوعة بعناية فائقة، وبأمكنة محددة بدقة فوق منضدات. كل تحفة تعلوها لوحة خاصة بها معلقة على الجدار. كما رسم الطرود والملابس والتحف والبلاغي بتقنية خداع البصر بالأبعاد الثلاثة. تجعل الناظر العادي يعتقد أنها حقيقية. إذ كانت لكلاوديو برافو، المهارة العالية في رسم الإنسان والأشياء والأشكال المعقدة.

 أكد لنا بشير مورينيو، أنه كان يفضل طريقة رسم الأشياء وهو يلاحظها مباشرة، بعيدا عن التخييل والتصور، الشيء الذي كان يسمح له بالتوصل إلى جوهر الشيء الذي يقوم برسمه، وأطلعنا على نموذج رسم حمار اشتراه كلاوديو بـ 1500 درهم، وحافظ عليه في الإصطبل الخاص بالخيول، وباع لوحته بـ 7.000.000 درهم. يتذكر مورنيو أن قام بشد الحمار أثناء انغمار كلاوديو في رسمه، وكان يرشه بمبيد الذباب لكي لا يتحرك. كما لاحظنا، خودات للعجلات النارية موضوعة فوق منضدة، أمامها علقت لوحة فنية خاصة بها، بنفس الشكل والألوان والتموضع فوق طاولة، مع وجود جلابيب نسائية معلقة بعناية، في مكان خاص ومتميز.

 تشكل الأجسام الحية والطرود والملابس وبعض الهياكل والأفرشة وأواني الخزف، معظم اعماله، وبذلك اعتبرت أعماله مزيجا من الثقافات الإنسانية، وشكلت مصدر حب وعشق لصاحبها كلاوديو برافو. وقد أطلق النقاد الامريكان على هذا البنيان اسم “قصر الجنة”، وسماه آخرون بمدينة أحلام كلاوديو. لذلك بعد وفاته، حافظ بشير تابشيش على ترتيب ووضع الأفرشة والتحف بعناية تامة، كما حافظ عل مكتبته وملابسه في غرفة نومه، وأدوات الحمام، وأبقى على علب الأدوية كما تركها صاحبها في مكانها.

من أعماله الخيرية:

لم تقف أعمال كلاوديو برافو عند قصره، بل ساهم في بناء جناح كبير بالمستشفى الإقليمي، المختار السوسي بمدينة تارودانت، من ماله الخاص، كما تكلف بترميم وتجهيز مدرسة عمومية مع لوازم مدرسية للتلاميذ. ومن جهة أخرى، وضع تصميما لتهيئة “ساحة 20 “، مع بناء حنفية النافورة، كما مول مهرجانا ثقافيا بنفس الساحة.

من جهة ثانية، صرح لنا مورينيو، بعد وفاة كلاوديو برافو، اتصل العديد من أغنياء العالم لشراء القصر/المتحف، مهما وصل ثمنه، وقدم بعضهم شيكا على بياض، غير أن سي بشير تابشيش رفض كل العروض إخلاصا لصديقه.

ومهما تحدثنا عن قصر/ متحف كلاوديو، فإننا لن نوفيه حقه من الوصف، سنبقى في حدود الاختزال، الذي لا يفيد المعنى الشامل. إن محتويات القصر/ المتحف وشكله الهندسي، خلق لنا الدهشة، بتجوالنا في فضاءاته، يخيل لك أنك في قصر من قصور ألف ليلة وليلة، أو في أحد قصور الخلافة العباسية، في عهد هارون الرشيد كما كتب عنها.

Visited 106 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة