المُجْتَمع العَميق وحزبُ العَدالَة والتَّنْمِية: لِمَ قتْلُ عُمَر بن جلّونْ وهو مُسْلِم؟ (1-2)

المُجْتَمع العَميق  وحزبُ العَدالَة والتَّنْمِية: لِمَ قتْلُ عُمَر بن جلّونْ وهو مُسْلِم؟ (1-2)

لحسن أوزين

كثيرة هي الاسئلة التي تناولت الدولة العميقة، دون ان تدرك تلك الاسئلة ان الدولة العميقة  ليست اكثر من تجليات السيرورة التاريخية لتشكل العبودية المختارة، سواء في شكلها التاريخي الاستبدادي القهري، او في شكلها التاريخي الديمقراطي للتراكم الرأسمالي الغربي الذي تتحايل فيه الثقافة السياسية، والسياسة الاعلامية على الانسان ذي البعد الواحد، في اخفاء مختلف ممارساتها السياسية التعسفية في تشيئ الانسان في محراب السلعة الرهيب، وانواع تدخلها الاستغلالي والعدواني في البلدان الضعيفة، وذلك بمرونة عالية في ضبط الوعي، والسيطرة على الادراك الاجتماعي الثقافي.

والعبودية المختارة هي ذلك الوجه الوحيد والأحادي، المسيطر على كافة التعبيرات والتيارات المختلفة من العمق المجتمعي، والذي تطاول في التاريخ عبر القرون، وصار حقيقة منزهة مطلقة يصعب التشكيك في حقيقتها البشرية،  لأن الفاعلين الاجتماعيين سيجوا ممارساتهم الايديولوجية في شهوة السلطة إلهيا حتى صارت وحيا مقدسا لا يترك للعقل متسعا في التفكير والنقد والرفض والاحتجاج، والا تحول الاعتراض والاختلاف إلى كفر صريح. لقد كافحوا بضراوة بدافع عشق السلطة لتشكيل المجتمع العميق، باعتباره بنيات نفسية ثقافية اجتماعية، اي ذلك اللاشعور الثقافي الاجتماعي الجمعي الذي يصعب زحزته واختراقه او تغييره، لانه يشتغل هو نفسه ضد مصلحته في التغيير كاستلاب عقائدي وهدر ذاتي، خاصة على مستوى النساء، فيقدم خدمة جليلة للتدين الفهلوي والاستبداد.

وهذا العمق المجتمعي هو ما يحاول الاستبداد والتدين الفهلوي، سواء الدعوي، أو الوحشي، معاودة انتاجه وتأبيده في علاقاته الاجتماعية المادية والرمزية، لانه يمثل البنيات المادية والنفسية، أي الارضية الموضوعية لديمومته وضمان استمراره. وغالبا ما تتقاطع مصالح الاستبداد والتدين الفهلوي في نوع من التحالف السلطوي لاستغلال واستثمار العمق المجتمعي بما يخدم مصالح ووظائف واهداف الدولة العميقة. وفي مراحل تاريخية عرفت انسدادا تاريخيا مأزوما بفعل متغيرات داخلية وخارجية حاول كل طرف من هذين القطبين المتحالفين الانفراد بملك المجتمع العميق، من خلال الغلبة والقهر الوحشي الدموي، إلى درجة انهاك طاقات وقوى هذا المجتمع العميق، وأحيانا يصل عنف الانسداد  إلى تدمير النسيج المجتمعي الثقافي لوحدة المجتمع العميق، الشيء الذي يفجر اسئلة التغيير التي تطال شرعية وقدسية ثوابت هذا المجتمع العميق.

وفي هذا السياق أيضا نشير إلى أن القوى اليسارية بمختلف مرجعياتها الفلسفية والفكرية والايديولوجية قد تعاملت مع المجتمع العميق، في ممارستها الخطابية والفكرية السياسية بنوع من التفاوت بين التيارات على مستوى الاتصال والتواصل، في الشك والتساؤل الظاهري مع القبول الضمني بمورثات العمق المجتمعي، أو في القول بضرورة  النقد والنقض بحثا عن القطيعة، وذلك للتأسيس لمجتمع بديل اكثر حضورا ومشاركة وتشاركا في ممارسة السيادة وانتاج القوانين المؤسسة للعيش المشترك السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، كمواطنين يوحدهم إطار سياسي يضمن الحرية والديمقراطية والمساواة، في فضاء مجتمعي يرحب مجاله العام والسياسي بالتنوع والتعدد والاختلاف ليس محليا فقط، بل عالميا ايضا. أو في البحث عن التوافقات القابلة بكل ترسبات المجتمع العميق، مع منحها أقنعة يسارية مستحدثة، “كتأصيل” يعتمد خلفية الشفرة الوراثية النفسية الثقافية والاجتماعية، التاريخية والانتروبولوجية…، على شاكلة “اليمين واليسار في الإسلام”، “الاشتراكية في القران”،  ” الديمقراطية في الاسلام”…

هكذا نلاحظ بان الكثير من المشكلات والقضايا المعقدة، ليس فهمها وحلولها  في متناول اليد، ولا هي مبثوثة على قارعة الطريق. لذلك فإن غياب التحليل النقدي لمفهوم المجتمع العميق، ولأطره المعرفية الاجتماعية، ولسيرورته التاريخية، ولأشكال علاقات القوة والتسلط التي انتجها وتحكمت في حياة الناس ومصير المجتمعات، يجعل كل هذا من الصعب فهم البنيات التحتية المادية والنفسية الثقافية، كرؤية للعالم والاخرين والذات، كافكار وتصورات ومعتقدات، كتقاليد وعادات، كأساليب تفكير ونمط حياة وجودي، التي يؤسسها اللاشعور النفسي الثقافي الاجتماعي الجمعي، كما لا يمكن أن نفهم السياقات المنتجة للفعل المجتمعي سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، بمعنى أن الكثير من الوقائع والاحداث التي يراد لها أن تبدو وتكون عبارة عن حقائق اجتماعية تاريخية لا مفر من قدرها، او موضوعيتها المزعومة، لكنها في حقيقتها العلمية والاجتماعية، انطلاقا من البحث المعرفي العلمي المعتمد على المقاربات والمنهجيات الحديثة، في العلوم الانسانية والاجتماعية، ليست أكثر من شكل محدد من العلاقة الاجتماعية في منطلقاتها والياتها الفكرية والسياسية مع المجتمع العميق.

إن الرؤية السياسية الفكرية والمعرفية الابستمولوجية العاجزة عن الاحاطة بالمجتمع العميق بحثا ودراسة، وفق ضرورة  منطق حركة التغيير في سيرورتها التاريخية، أي في اشتغالها كاستراتيجية تستهدف في أفق ممارستها الوصول الى حق الاستفادة من تقاسم العيش المشترك الانساني الذي افرزته الحضارة الحديثة كمنتج انساني ساهمت في صنعه كل الشعوب والحضارات، تقف تلك الرؤية مصدومة وعاجزة عن فهم نجاح سطوة التدين الفهلوي في سرقة الثورات، واكتساح المجال العام، ليس قصد بنائه وتطويره، بل رغبة في سحقه وتدميره، لانه يهدد سيطرتها على العمق المجتمعي الذي تستغله في الوجود والاستمرار. كما تقف مذهولة امام سيطرة قوى هذا التدين على ديمقراطية صناديق الانتخابات.

وفي محاولة لإزالة الكثير من الالتباسات التي تنتجها الممارسة الايديولوجية  لقوى التدين والاستبداد  وهي تحاول التستر على الخلفيات الحقيقية التي تقف وراء اغلب الوقائع الاجتماعية، الاقتصادية، والاحداث السياسية التي يعيشها اليوم المواطن العربي والمسلم، بنوع من الرعب والارهاب والذهول، وهو لا يصدق عينيه  التي تفضحه في تساؤلها العريض والعميق المنبعث من الاعماق: كيف يستطيع الاستبداد الديني تجديد نفسه؟ وما الذي يجعل سطوة التدين الفهلوي، والوحشي الدموي شرا لا بد منه، وفوق إرادة الدولة والمجتمع، وتطلع الشعوب للتحرر والتغيير؟ وهل يمكن حقا لبحث ودراسة المجتمع العميق أن يكون قادرا إلى هذا الحد على فك أغلب الألغاز والأسرار في الصد النفسي والسياسي والاجتماعي والثقافي التحرري التنويري؟

أولا في محاولة تعريف وتحديد ما نقصده بالمجتمع العميق..

أ- محاولة في التعريف

لا نعتقد اطلاقا بإمكانية تقديم تعريف جوهراني لأي عمق اجتماعي على مستوى المجتمعات البشرية، لذلك فان ما سنقدمه ليس اكثر من محاولة في التوصيف القابلة للنقد والحذف والاغناء والمراجعة المستمرة، ايمانا منا بالنسبية والتاريخ، وضرورة تعدد المقاربات التحليلية النقدية التي بإمكانها ان تلم بجميع الوجوه والابعاد.

 المجتمع العميق هو كل الموروث الفكري والثقافي، ومنه بشكل خاص الفكر الديني والممارسات الاجتماعية الثقافية والتدينية، وما يكتنفها من تمثلات وتصورات ومعتقدات، وطقوس وشعائر وتقاليد وعادات، ومنطق في التفكير والتحليل، بمنطلقاته  والياته النفسية والفكرية والذهنية، اي كل ما يشكل الرؤية للعالم والذات والاخرين، وما يحدد العلاقات الاجتماعية في انتصارها لثقافة قدسية عبودية الطاعة للاب والزعيم، مع الخنوع والخضوع  والولاء للجماعة والاستبداد رغبة في الحماية والغنيمة، وما يؤطر الفعل ورد الفعل في سياقات ثقافية اجتماعية ملموسة في الواقع الحي. والاساس الديني لعلاقات القوة والغلبة والقهر والعنف الابوي الذكوري في السلطة السياسية، في القبيلة والمذهب والطائفة، وفي الحارة والعائلة والاسرة. مع العلم ان التيار التديني الفهلوي المسيطر على المجتمع العميق يسيد تصور امتلاكه الحقيقة المطلقة النهائية والناجزة، التي بامكانها وحدها ان تجعله سيدا على العالم، من منطلق تميزه وتمييزه عن سائر الخلق، بفضل منظومته الاعتقادية الدينية. وباختصار نقول انه اللاشعور النفسي المعرفي والثقافي الاجتماعي الجمعي القابل للتعديل والاضافة في سيرورته التاريخية.

أشرنا في هذا التعريف الى الصورة العامة المسيطرة والحاضرة بقوة في الحقل الثقافي الاجتماعي التاريخي، لكننا نرى ضرورة الإشارة إلى الوجه الخفي والمغيب، بقوة الإكراه والإقصاء والإرهاب، أي أن المجتمع العميق ليس كلا واحدا، متشابها ومتجانسا، بل يؤسسه ويحكمه مبدأ التناقض في كل مستوياته السياسية والاقتصادية والايديولوجية، سواء في علاقات التحدد البنيوي المادي لهذه المستويات او في علاقات تفاوتها التطوري كصراع اجتماعي سياسي تاريخي بين المكونات والفئات المختلفة التي تشكل العمق المجتمعي. نفهم من هذا ان المجتمع  العميق ليس خنوعا وخضوعا فقط، بل فيه ايضا عناصر ومكونات الرفض والاحتجاج والثورات التي يتحكم في سقفها التحرري جدل التناقض بين طرفي المجتمع العميق، الخانع والثائر، وميزان القوى بين سيطرة وحضور التدين الفهلوي والاستبداد، وخضوع وغياب أغلب الفئات المجتمعية في كل ديناميات وتفاعلات البنية الاجتماعية الشاملة.

ب إضاءات لأقلام التنوير العربي

لقد كانت اقلام رواد عصر النهضة سباقة إلى الانتباه إلى ضرورة زلزلة الكثير من البنيات الاجتماعية والثقافية التقليدية والتقليدانية، أي غير القادرة على الالمام بظروف وشروط المرحلة التاريخية، وما تستلزمه من اجابات موضوعية تستجيب للتحدي الغربي الكولونيالي، والحداثي. لذلك تم الاعتراف بجرأة نقدية  بما يثقل الذات من تعفنات وعوائق، في الدين والدنيا بالدعوة الى الاصلاح الديني، وفي التنظيم الاجتماعي الانساني، والمؤسسات الاجتماعية والثقافية المتخلفة، والبعيدة عن مستوى المؤسسات الاجتماعية والسياسية والثقافية الحديثة، وفي رفع الوصاية والابوية عن العقل والإبداع والمرأة…

وعمقت الهزائم المتوالية، أمام المشروع الصهيوني والامبريالي والاستبداد المحلي، السؤال النقدي، وإن تلبسته الايديولوجيات من كل جانب، وكان ذلك طبيعيا ازاء طبيعة المرحلة التاريخية محليا وعالميا، حيث ابتلع الايديولوجي السياسي كل شيء، فقد فرضت السياقات الثقافية والاجتماعية السياسية للمجتمعات العربية والاسلامية، في المرحلة الكولونيالية وما بعدها، على المثقف أن يكون سياسيا ايديولوجيا في الشعر والقصة والرواية والمقالة الاجتماعية والفكرية والثقافية، وفي تناول كل القضايا بما في ذلك الاصلاح الديني… حيث كان المثقف في إنتاجه الإبداعي والفكري النقدي محاصرا من قبل الجميع بسؤال واحد: أين هو الواقع فيما تكتب؟

ورغم كل هذا يمكن القول إن الكثير من المثقفين والمفكرين الباحثين أدركوا منذ البداية ان عوائق النهضة والتحرر كامنة في الالتباسات المظلمة التي تحيط من كل جانب بالمجتمع العميق وتمنع عنه أضواء التاريخ، والتنوير النفسي والنقدي التاريخي والسوسيولوجي، ومختلف الاشعة الضوئية التي انتجتها المنهجيات الحديثة للعلوم الانسانية والاجتماعية. ولهذا الهدف النبيل قدم الكثير منهم حياته في سبيل الحفر في هذا المجتمع العميق، لزحزحة تراكم طباقاته المتطاولة عبر القرون بالقهر والتسلط والانحطاط الشامل للحياة المجتمعية ماديا ورمزيا وروحيا. لقد قضى محمد اركون حياته في التنقيب والبحث والدراسة والتدريس لتعرية ما يخبئه المجتمع العميق من جهل مقدس ومؤسس شوه القيمة الروحية الثقافية للانسان العربي والمسلم بعنف الاكراه التديني لفقهاء السلطة، كما عمل ايضا على الكشف عن امكانيات انسانية في قاع المجتمع العميق خصبة وثرية أقصيت بلغة الفرقة الناجية الدوغمائية المغلقة، لا فكر، ولا حجة، ولا منطق عقلاني برهاني تمتلكه، لذلك لجأت الى  القمع والحرق والهدر للفكر والحياة. والشيء نفسه قام به محمد عابد الجابري هذا المفكر العظيم الذي بحث عن التغيير الحقيقي من خلال الجهاد المعرفي العلمي للوقوف على اسرار الممانعة الانحطاطية المترسبة في بنيات المجتمع العميق التي تؤبد تخلفه وعبوديته وانهيار كيانه الشامل، ولذلك اتجه صوب نقد العقل العربي باحثا عما يتستر عليه المجتمع العميق، المقنع بقناع الطائفية المذهبية، من سياقات ومسارات وسيرورات تاريخية أدت الى اغتيال العقل العربي الاسلامي الذي استطاع ان يثبت قوته وقدرته المعرفية والعلمية والحضارية في مراحل تاريخية عرف فيها أوجه وازدهاره. ولا ننسى في هذا السياق الكفاحي المعرفي والعلمي ما انجزه كل من هشام شرابي الذي امضى حياته ناقدا وباحثا في بنيات المجتمع العميق عن التشكلات التاريخية للمجتمع الابوي الذكوري الاستبدادي المتخلف والمتسلط. وعلى المسار نفسه ناضلت فاطمة المرنيسي منتصرة لانسانية المرأة، مسلطة الضوء على مراحل تاريخية اثبتت فيها النساء قدرتهن على الندية والكفاءة وحق الحرية والكرامة والمساواة في الانتظام الاجتماعي الانساني، وفي التسيير والابداع والانتاج والحكم. ولنا ايضا تراكم معرفي فكري في تجربة محمود طه وفرج فودة ونصر حامد ابوزيد الذين قدموا حياتهم في سبيل كشف الغطاء الثقافي الاجتماعي الايديولوجي، لوحدانية التسلط للايمان المذهبي الانغلاقي للفرقة الناجية، الذي سيج به التدين الفهلوي الصمائم الاولية للمجتمع العميق واقصى بذلك امكانية بناء سرديات جديدة للحضارة العربية الاسلامية انطلاقا من تنوع وتعدد واختلاف غني وخصب انتجته واحتضنته الحضارة في اوج ازدهارها وتفاعلاتها مع الكثير من الثقافات و الديانات والحضارات والشعوب.

وإلى جانب هؤلاء نذكر ايضا هاشم صالح الذي بذل مجهودا جبارا لتنوير اللغة والمقولات والمفاهيم العربية قصد تغيير الاساليب اللغوية و الصور النمطية للانغلاق التديني للفرقة الأرثوذكسية المهيمنة على المجتمع العميق، بعين أحادية اطلاقية قاتلة للتنوع والتعدد والاختلاف. مشروع الأنسنة الكبير الذي ضحى من اجله اركون أرق بشكل مهول هاشم صالح الشيء الذي جعله يعلن مرارا” بان العملية ليست مضمونة ولا مؤكدة من الضربة الاولى. فهي من الخطورة والوعورة والتعقيدات والمفاجآت غير المتوقعة  بحيث اننا قد نمضي كل عمرنا، كل عمر جيلنا، في الحفر عن شيء ضائع او قعر لا اسفل له. وعندئذ لا خيار امامنا إلا ان نعمق الحفر اكثر فأكثر حتى نصل الى اعمق طبقة ، الى اعمق قشرة إنبنت عليها ذاتنا الطرية طيلة القرون التاليات. عندئذ نصل الى اللحظة التي انعقدت فيها عقدة التاريخ. عندئذ نقف امام الباب الموصد خائفين مرتجفين… من يستطيع أن يواجه ذاته عارية من كل قناع، من كل حماية؟ من يستطيع ان يدخل مع داخليته الحميمة في حرب على المكشوف؟”

وكما قلت هناك الكثير من المفكرين والباحثين في المشرق والمغرب وبلغات مختلفة: العربية والفرنسية والانجليزية أنتجوا اعمالا رائدة، كما أنتجوا اطارا نظري وأدوات بحثية ومفاهيم معرفية علمية، وهم يحاولون مقاربة الواقع الاجتماعي التاريخي للمجتمع العميق العربي والاسلامي.

 نشير الى بعضهم على سبيل الذكر : علي حرب، حسين مروة، عبد الكبير الخطيبي، مصطفى صفوان، فتحي بن سلامة، عدنان حب الله، مصطفى حجازي…، هؤلاء وغيرهم قاربوا المجتمع العميق من زوايا مختلفة. فقد تطلب الامر مثلا من مصطفى حجازي ثلاثية رائعة ” الانسان المقهور، والانسان المهدور، واطلاق الطاقات” لسبر اغوار المجتمع العميق، أي البحث في تلك البنيات الفوقية النفسية التي تضمن معاودة انتاج الشروط والظروف المادية للتسلط والاعتباط والقهر والهدر، و التي تعمل على خلق حالة مستمرة من القهر والرضوخ والتسلط والهدر في وجه التحرر والتنمية والتغيير. وقد أضاء هذا المفكر زوايا مظلمة من المجتمع العميق لم تأخذها المقاربات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بعين الاعتبار. “إن البنية الفوقية النفسية التي تتلخص في خلق انماط البشر وانماط من الوجود متميزة بطابع التسلط والرضوخ، تشكل مصدرا هاما لمقاومة التغيير. وليس من باب المبالغة في شيء، أن نقرر أن ذوي المصلحة في التغيير، في الخروج من هوة التخلف، يشكلون في مرحلة ما احدى العقبات الأساسية أمام هذا التغيير، بعد ما تعرضوا له من استلاب لإنسانيتهم. المثل الافصح على ذلك هو المرأة،  التي يقع عليها عادة الغرم الاكبر ويفرض على كيانها القسم الاوفر من الاستلاب، من خلال ما تتعرض له من تسلط وما يفرض عليها من رضوخ وتبعية وانكار لوجودها وانسانيتها. هذه المرأة المستلبة اقتصاديا وجنسيا في البلدان النامية، تعاني من استلاب أخطر بكثير وهو الاستلاب العقائدي. ويقصد بالاستلاب العقائدي تبني المرأة لقيم سلوكية، ونظرة الى الوجود تتمشى مع القهر الذي فرض عليها، وتبرره جاعلة منه جزءا من طبيعة المرأة”.

 اضطررنا إلى إثبات هذا النص كي نقدمه كمثال بسيط لما يستغله التدين الفهلوي والاستبداد في المجتمع العميق من هدر ذاتي واستلاب فكري ثقافي لفرض العبودية المختارة، بصورة مرنة دون حاجة للقسر أو العنف، وهذا ما يسهل سطوتهما وسيطرتهما. وهذا المثال لا يكفي، بل على القارئ العودة الى كتابات المفكرين الذين اشرنا الى بعضهم، لتتضح له جسامة معركة التنوير، نظرا للتركة الثقيلة لعصور التخلف والانحطاط، وللموات الوحشي الراقد والراكد في دواخل المجتمع العميق.    

كدت أنسى هشام جعيط، الذي قدم الكثير في هذا الحفر العميق لكشف الالتباسات  والأساس الاجتماعي السياسي للصراعات والفتن والحروب الدينية، التي تحكمت في تشكل المجتمع العميق. لذلك امتدت هواجسه البحثية والنقدية العلمية إلى الفترة المظلمة من الاسلام المبكر من خلال ثلاثية رائعة وتستحق عناء القراءة. وما تزال اسئلة اليوم تدفع بشباب اخرين بالبحث عميقا في أدغال هذا المجتمع العميق سواء من خلال المقاربة التاريخية السوسيولوجية في الموروث الديني كما هو الشأن عند عبد اللطيف الهرماسي، او من خلال المقاربة الاناسية التي سلطت الضوء على الكثير من الجوانب المظلمة حول مثلا تاريخية تشكل الدولة الاسلامية، كما فعل محمد الحاج سالم في أطروحته الرائعة ” من الميسر الجاهلي الى الزكاة الاسلامية”، كإضافة نوعية في التراكم المعرفي العلمي المنجز، والتي لا يمكن للباحث العلمي ان يستغني عنها. قد لا اشير الى الكثير من الاسماء بسبب طبيعة المقالة التي لا تحتمل ذلك، لكن لا بد من الاشارة في الاخير الى زاوية اخرى ومنظور اخر في البحث، من اجل نشأة مستأنفة لإمكانيات متنوعة وخصبة في الفهم والقراءة والتأويل، وفي الانتظام الاجتماعي الانساني مع الذات والاخر وفق قيم التواصل والتسامح والانفتاح التفاعلي المنمي للذات والاخر، اي محاولة بناء وتأسيس سرديات جديدة، اقصد في هذا مثلا الاعمال المحترمة لناجية الوريمي بوعجيلة…

ومع كل هذا المجهود الكبير، وهذه التضحية بعمر اجيال بكاملها منذ النشأة المستأنفة في عصر النهضة لأسئلة الكتابات الجريئة للأنسة العربية الاسلامية في القرن الرابع، وربما قبله، الى اليوم، ما يزال سؤال التحدي ينتصب بغطرسة  محرفا ثورات الشعوب، وتحولات مجتمعاتنا الراغبة والحالمة بالتغيير، ساخرا من السيرورة التاريخية لحركة التنوير العربي الإسلامي التي ظلت هامشية الفعل، بعيدة عن مركز المجتمع العميق، الذي ما يزال يتعثر طريقة في أسمال الغزالي وابن تيمية…، أم أن الصورة ليست مخيفة الى هذا الحد، حيث ان الانفجارات الاجتماعية والحروب الاهلية والمآسي الفردية والجماعية، تعطي مصداقية للحس النقدي الفكري السياسي و التاريخي لفكر مهدي عامل حين قال: “تتفكك نُظُمٌ من الفكر والاقتصاد والسّياسة يصعب عليها الموت دون عنف، تتصدّى لجديد ينهض في حشرجة الحاضر، وتقاوم في أشكال تتجدّد بتجدّد ضرورة انقراضها، تنعقد بين عناصرها المتنافرة تحالفات هي فيها على موعد الموت”.

Visited 8 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي