حرائق الاستعجال المائي
محمد العوني
ها هي الكارثة قد حلت بعد أن نبه لها مرارا خبراء وجمعويون مغاربة وأجانب منذ بدأ الجفاف سنة 2018 بشأن الأزمة غير المسبوقة التي ستقع في الماء بالمغرب، بل هناك من صرخ بعدة أشكال محذرا من الكارثة التي تقع اليوم قبل سنوات وسنوات وطالبوا آنذاك باتخاذ الإجراءات الضرورية لتفادي وقوعها، ولا سمع ولا روح لمن تنادي؟؟ عدة أصوات دقت نواقيس الخطر، فتعرض بعضها لاستهزاء مسؤولين ووصفهم لها بالتهويل …
لامناص من الاستعداد لوضع جديد
تثبت آخرالدراسات أن حوض البحر الأبيض المتوسط من مناطق العالم الأكثر تأثرا بالتغيرات المناخية، إذ بدأ هذا التحول في محيط البحر وحتى داخله فقد سخنت مياهه لدرجة مهددة للتنوع البيولوجي في البحر وشواطئه، وانتشار أسماك وحيتان فتاكة أو مضرة قادمة من المناطق الاستوائية ليس إلا إحدى علامات ما يهدد هذا الحوض ..
خلال هذا الأسبوع أعلنت مدينة باريس حالة التأهب ضد الجفاف ومن أجل الحفاظ على الماء، واتخذت عدة إجراءات ضد سوء استعمال الماء وتبذيره، منها فرض غرامات مثلا على من يسقي حديقته الخاصة… والحالة عامة في كل فرنسا التي وزعت مناطقها حسب مستويات الأزمة تتراوح بين مناطق لليقظة والحذر إلى أن تصل لمناطق الأزمة الخطيرة، وكانت اللجنة الوزارية بدأت اجتماعاتها منذ شهور متوقعة تزايد حدة التدهور بالمقارنة مع ما وقع خلال السنة الماضية.…
وبدأ الحديث عن التعامل مع الماء وليس الماء الشروب فقط “كمادة لوكس”، أي مادة نادرة، لايمكن أن ننسى ذلك بمجرد تساقط الأمطار.…
بل إن هولاندا المشهورة ببقرها وأجبانها، وتسمى أراضي المياه، أعلنت حالة “الإجهاد المائي”، وسجلت رسميا يوم الأربعاء الماضي “شحا في المياه” بسبب الجفاف الذي يضربها منذ أسابيع عدّة، في إطار موجة الحر الجديدة التي عمت أوروبا .
وسبق للسلطات الهولندية أن فرضت قيودا على الزراعة وعلى الملاحة في بعض القنوات. وأطلقت البحث عن إجراءات جديدة للحفاظ على المياه طوال فترة الجفاف هذه؛ وقال وزير البنية التحتية وإدارة المياه “هولندا هي أرض المياه، ولكن هنا أيضا مياهنا ثمينة”.
وكل المعطيات تؤكد أن ما نعيشه اليوم ليس هو التغير المناخي بكل مستوياته… بقدر ما نحن أمام مجرد تنبيهات وعلينا الاستعداد لاكتشاف أخطر مما عشناه ونعيشه حاليا، فلامناص من الاستعداد لوضع جديد…
الوضع خطير وقلة التدخل تثير ..
فما بالنا نحن لم توقظنا بعد الكارثة، بينما ما اتخذ في فرنسا وهولاندا من قرارات كان ينبغي أن يعم المغرب ومختلف مدنه قبل سنوات طويلة منذ بدأنا نعيش ما تعيشه فرنسا اليوم …
منذ بدأت السدود تفرغ وكانت الأزمة قد انطلقت صارخة في 2018، وقبلها بسنوات بدأ جفاف فرشات مائية في أغلب أحواض المغرب، وأمست عدة مدن مهددة بالعطش، أما عن نذرة مياه الشرب في الكثير من البوادي فحدث ولا حرج… اليوم تزايد كل ذلك بما لايمكن تصوره.
اقترب المخزون المائي بمختلف مصادره وموارده اليوم من الانعدام، علما أن السدود في اتجاهها إلى الجفاف بفعل الحرارة و التبخر وبفعل أسباب أخرى كالتوحل…،عندما أعلن خلال الأيام الأخيرة بأن بعض السدود المغربية بلغت إلى نسبة 2 في المائة من حقينتها فهو يعني أنها جفت لأن السد ليس إناء فارغا، يمكن استقطار كل ما فيه.
أصبحت الكثيرمن أحداثنا اليومية على علاقة بالماء من هنا أو من هناك: حرائق الغابات، أزمة الحبوب، غلاء المواد الغذائية، الجفاف، العطش، تناقص حقينة السدود… وفرضت نفسها فرضا رغم أن تداولها ـ في العموم ـ قليلا ما يربط بعمق أسبابها وترتيب المسؤوليات المستعجل منها والمستدام…
فلماذا لم يتحرك المسؤولون، إلا لماما ومؤخرا وبتأخر وتماطل؟؟؟ والوضع في تدهور والمياه في تناقص… فنحن أمام حالة استعجال مائي حقيقي وطوارئ متعددة مرتبطة به.
ولتفادي صراع وتوترات مستعملي المياه أو الاحتقان من أجل استعمالها، لا محيد عن الحلول الجماعية والبدائل المشتركة، ومساهمة الجميع دون استثناء، ولا امتياز في تنفيذ تلك البدائل وعدم تحميل الضعفاء وحدهم آثار الخصاص الحاد…
أقر نائب عمدة أكبر مدينة بالمغرب الدار البيضاء في تصريح إذاعي صباح يوم 27 يوليوز 2022، بأن مجلس المدينة اتخذ قرارات بالعودة لمشاريع تهم الماء بالبيضاء “تعثرت” سابقا… والحال أن حالة الاستعجال تدعو إلى التوقف عند تلك “التعثرات” أو ما شابهها من توقف وإلغاء وتأجيل وتحويل لمشاريع عدة باليضاء وعلى الصعيد الوطني، مثل السدود والدراسات المتأخرة الإنجاز، وكل تأخر ذي العلاقة بمشاريع مائية كتنقية السدود وعدم فتح أو تنقية السواقي، وعدم تفعيل الشرطة المائية والتقليص من سرقة الماء والافراط في استعماله، وغيرها كثير… إذ على السلطات القضائية والسياسية تنفيذية ومنتخبة أن تفتح تحقيقات سريعة وناجعة في أسباب تلك “التعثرات ” والتخليات والاختلالات وتحديد المسؤوليات إزاءها وتقديم المسؤولين عنها وأصحاب القراربشأنها للمحاكمة العادلة …
غير خاف أن لحرائق الغابات التي تكاثرت هاته الأيام علاقة سببية مع قضايا الماء والجفاف.. كما لها نتائج مباشرة على الدورة المائية، وعلى تزايد التلوث وتفرض التخلي من الآن على نمط العيش المهلك للموارد وللطبيعة والخاضع لطغيان الاستهلاك…
الاستعجال يقتضي إجراءات مستعجلة
ومن المستعجلات ضرورة تعبئة خاصة ومكثفة إزاء هذه الحرائق التي سيستمر تهديدها خلال الأسابيع القادمة، تعبئة للحيطة والحذر ولتغيير السلوك إزاء الغابات وللوقاية من أسبابها البشرية والطبيعية؛ مثلا عبر حملة متطوعين لتنقية الغابات من الزجاج والمواد القابلة للاشتعال، وحملة توعوية تواصلية حول أسباب الحرائق…
وفي الأفق القريب تنظيم دورات تكوينية في الموضوع للفئات المعنية وللفئات الواسعة في مختلف جوانب الوقاية من الحرائق وأساليب مواجهتها…
فقوة المغرب في مجتمعه الشاب وفئاته الواعية والمواطنة، والتي ينبغي الاستفادة منها ومن قواتنا العسكرية، بشكل مواطن وبعيدا عن أساليب”ولد زروال”في التعبئة، لمواجهة كافة التحديات التي يواجهها المغرب ومنها الأمن المائي، والأمن الطاقي و الأمن الغذائي وغيرها كأجزاء من السيادة الوطنية …
لاسيما و أن البلاد أصبحت كما لو أنها موضوعة في قسم واسع من المستعجلات، إذ الكثير من القضايا مستعجلة، لدرجة أن المستعجل أصبح مطلقا وعاما، هناك استعجال مائي وطاقي واستعجال بيئي واستعجال اقتصادي، واستعجال النقص من البطالة وتوفير الشغل، واستعجال النقص من التضخم واستعجال النقص من المديونية… والنقص من التبعية وكلها استعجالات ايكولوجية واجتماعية مرتبطة بالاستعجال الديمقراطي السياسي، إذ كلما حاولت بعض الهيئات على قلة محاولاتها، وحاول بعض المسؤولين على قلة المحاولين منهم ولوج سبل الإنقاذ، يجدون أمامهم أن رأس الخيط مشدود لمعضلتي الفساد والاستبداد …
نحن أمام تدبير الأزمة والأزمة حادة وليس أمام تفادي الأزمة كما يقول مسؤولون، ومن ثمة ضرورة إعلان حالة الخطر بالنظر ـ على الأقل ـ إلى أن الاستهلاك وتناقص المياه دون بديل سيستمر لعدة أسابيع في انتظار التساقطات القادمة …
فلا مجال لتأجيل الحلول المستعجلة: توفير الماء الشروب لكافة المواطنين أينما وجدوا والحد من الحرائق، ثم الإقرار باستعجالية التهييء الجماعي للبدائل على المدى القصير وعلى المديين المتوسط والبعيد بعمل استراتيجي بكل ما تعنيه الاستراتيجية وما تستدعيه من تخطيط ونجاعة وفعالية ومشاركة لكافة الأطراف…