بانتظار استعادة فضيلة الفلسفة

بانتظار استعادة فضيلة الفلسفة

د. محمد الشرقاوي

كتب أحد أصدقاء فيسبوك سعيد السعدي يقول: “هرِمْنا من أجل هذه اللّحظة التاريخية. اليوم ناقشتُ بحث تخرّجي في ماستر الفلسفة الحديثة، حول الفلسفة اليهودية بعنوان “سبينوزا قارئًا لموسى بن ميمون”… هذا البحث ممتعٌ ومرهقٌ، جعلني أجدّد علاقتي بالفلسفة، جعلني أتوضّأ بصمتي وأدخل محراب التأمّل.” فكتبتُ في عبارة التّهنئة المزدوجة على نجاحه في رسالة الماجستير وانشغاله بهمّ الفلسفة أيضا قائلا: “هنيئًا على “شيخوخة” متّقدة في عالم الفلسفة، وكلّما انغمستَ فيها أضْفَتْ عليك شبابًا متجددًا. ما أروع السؤال الفلسفي عندما يزحزح شتّى الأضلاع. “

سرحتُ في تأمّلاتي بعيدا حول دور الفلسفة في الواقع العربي الراهن وعلاقتها بمعضلة التخلّف، وهل “نتفلسف” بالمعنى الإيجابي في تبنّي مواقف الشكّ والمساءلة والتقييم والتقويم بما يكفي سواء في حقبة الهزّات السيّاسية المتلاحقة منذ انتفاضات 2011، أو الأسئلة الشّاردة الرّاهنة في ظلّ تداعيات جائحة كورونا، وحرب أوكرانيا، ومشروع “الدمج” أو “التعاون” مع إسرائيل، وبقية مشاريع الاستقطاب المتواترة للدول العربية من قبل الولايات المتحدة وإيران وتركيا وروسيا والصين. هي متحوّراتٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ يجد فيها جلّ العرب أنفسهم أمامها في حيرة من أمرهم في اعتماد أيّ خيارات استراتيجية سليمة. وكما قال الكتاب الأمريكي ديفي ثورو (1817-1862) ذات مرّة: “إذا لم تستطع تغيير العالم، فلا بأس من أن تغيّر نظرتك”. 

حكمةٌ عابرةٌ للقرون

يظل سؤالُ الفلسفة سؤالًا عميقًا وجرّيئًا يسعى دوما لالتقاط ماورائيات الوجود وتجليّاته ومحرّكاته، ويُساءل مؤسّساته وأنماط تطوّرها، وتشعّب علاقاتها، وفحص بنيتها ومحتواها وطريقتها وأهدافها وآمالها منذ العصر الذهبي للفلسفة. وقديما، نادى سقراط (470-399 قبل الميلاد) بأنّ على الفلسفة أن تحقّق نتائج عملية من أجل رفاهية المجتمع. فحاول إنشاء نظام أخلاقي يقوم على العقل البشري بدلاً من العقيدة اللاهوتية. وعندما سُئل تلميذه أرسطو (284-322 قبل الميلاد)، أحد أهم مهندسي التفكير العقلاني، “ما هو الهدف النهائي للوجود البشري؟”، ألمح إلى حقيقة أن الهدف هو ما اصطلح عليه بلفظ “السّعادة”، وحدّدها بأنّها “نشاط يعبّر عن الفضيلة”.

بعد قرابة أربعة عشر قرنا، يدعو ابن رشد (1126-1198) للتمييز بين درجات السعادة من خلال تخصيصها بمقدار ما يتوافق مع القدرة الفكرية. ويختلف عن رأي أفلاطون الذي تناسى السلطة الثالثة. ويعتقد ابن رشد أن لكل شخص نصيبه من السعادة. غير أن اهتمام الفلسفة بهذه المرامي في تطور الوجود البشري تعزز بالوازع الأخلاقي، كضرورة واقعية وليس حلما أفلاطونيا في القرن الثامن عشر، ضمن أعمال كانط (1724-1804) الذي دعا لفلسفة الفضيلة أو ما جرت عليه أغلب الترجمات بعبارة “الفلسفة الأخلاقية” Moral philosophy، (وإن كانت الترجمة غير دقيقة في التمييز بين فضيلة  morality وأخلاقethics .) ويتمثل الهدف الأساسي لهذه الفلسفة في نظر فيلسوف التنوير في “البحث” عن المبدأ التأسيسي لـميتافيزيقيا الأخلاق، التي يعتبرها نظاما متكاملا من المبادئ الأخلاقية المسبقة.

فوق هذه الاعتبارات التي تعزز أهمية الأخلاق أو الفضيلة أو التحرّي في الميتافزيقا، تكمن أهمية حقيقة الفلسفة أيضا في أنها مسؤولية تأمّلية وتقويمية لجدلية الفكر والواقع، أو كما اختزلها هايديجير (1889-1976) في مفهوم الكينونة Dasein، وعلاقتها بالتجربة الحية، والحياة العادية اليومية والوجود في العالم، والوجود المتوزاي مع الكيانات الأخرى، والتعامل معها، والبعد الزماني الراهن والبنية الحاضنة.

ضمن هذه العناصر المتداخلة في كينونة الفرد أكثر من الفكرة التبسيطية التي تقوم على ثنائية الوجود بين الذات والبنية، بقيت عدة مناطق رمادية أو إشكالات مهمّشة بعد حقبة حركات التحرّر من الاستعمار في السّتينات. وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، لم تعد جل الأنظمة التسّلطية قادرة على تغييب تلك الإشكالات المهشمّة وأوجه معاناة معذبّي الأرض بتعبير فرانز فانون أو المعذبين في الأرض وفق عبارة طه حسين، أو إبعادهم خلف نقاشات المجال العام. فكانت الفلسفة الألمانية أكثر من غيرها متشبّعة بقيم الفضيلة السياسية تبعا لروافدها الأرسطية والرشدية والكانطية وغيرها. وتفرعّت منها عدة مفاهيم وقيم في صميم الحداثة السياسية المعاصرة، ومنها الحرية والحكامة والديمقراطية ودولة الرفاه Welfare state.

الفلسفة.. وهندسة الفضيلة السياسية

كانت ألمانيا تحت قيادة بسمارك في منتصف 1850 أوّل دولة كرّست مشروع دولة الرفاه، وهو تجسيد لإجابة فريدة على سؤال حول كيفية بناء نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي والحفاظ عليه متماسكا نسبيًا. ولم تكن أنظمة الضمان الاجتماعي التي أقرّها بيسمارك رائدة في التعامل مع المخاطر الاجتماعية للمجتمع الصناعي وتحسين ظروف معيشة العمال فحسب، بل وأيضا تمّ إطلاقها بشكل أساسي لخدمة الأهداف السياسية لبناء الدولة والأمة والنظام الاجتماعي. وارتبط هذا المفهوم بكتابات رئيس أساقفة يورك، ويليام تمبل William Temple، الذي استخدمه عام 1941 للمقارنة مع الدولة المثالية التي روّجت لها النازية بمفهوم “دولة الحربWarfare state “. وتطورت دولة الرفاه في أوروبا في العقود اللاحقة أساسا إلى ثلاث صيغ رئيسية: ليبرالية، واجتماعية ديمقراطية، ومحافظة، وهي ما سارت عليه الدول الاسكندنافية وبريطانيا وبقية دول القارة العجوز حتى الوقت الحاضر.

تعزّزت منطلقات الحكم في هذه الدول بالسؤال الفلسفي النقدي الذي نادت به مدرسة فرانكفورت وتردّد صداها المعرفي في جامعات السوربون وكوليج دو فرانس وشيكاغو وكولومبيا في نيويورك، خاصة في ضوء مظاهرات العمال والطلاب عام 1968. وفي الوقت ذاته، تنامى دور الحركات الاجتماعية وهيئات الدفاع والمناصرة لقضايا محدّدة في سياقها المحلّي والدّولي. وظهر عدد من فلاسفة البنيوية والتفكيك، منهم ميشيل فوكو (1926-1984) الذي ركّز في كتاباته على قضايا الهامش والأمور المنبوذة وتحوّر آليات القمع وعلاقة الجسد بالسلطة وعقوبة السجن، وأصبح “فيلسوف الهوامش”.

تولّى فوكو  أستاذ كرسي لتدريس “تاريخ أنظمة الفكر” في كوليج دو فرانس، وكتب في مؤلّفه “كيف تعمل السلطة” يقول إنّ ما حاولتُ تحقيقه منذ سنة 1970-1971 هو تحديد هذه الآليات بين مَعْلـَمين أو حدّين: 1) قواعد القوانين المحددة شكلياً للسلطة، و2) آثار الحقيقة التي تنتجها السلطة وتقودها، والتي هي بدورها وكيف أن الحقيقة ترافق السلطة. إذن هناك سؤال تقليدي في الفلسفة السياسية يمكن طرحه على النحو الآتي: كيف أن خطاب الحقيقة، أو ببساطة، كيف أن الفلسفة ترى أن خطاب الحقيقة المتميز يمكن أن يثبّت حدود وحق السلطة”.

سؤال الفلسفة في حقيقته دعوةٌ مفتوحةٌ للتفكير النقدي العميق غير التابع لمنظومات قائمة أو شمّاعات تبريرية لاستمرار الوضع القائم على علاّته ونواقصه. واليوم، يُعرِّف المجلس الوطني الأمريكي للتميز في التفكير النقدي The U.S. National Council for Excellence in Critical Thinking التفكير النقدي بأنه “عملية منضبطة فكريا لتصوّر أو تطبيق أو تحليل أو توليف أو تقييم المعلومات، التي تم جمعها من أو الناتجة عن الملاحظة أو الخبرة أو التفكير أو الاستدلال أو الاتصال، كدليل للاعتقاد والعمل”.

لا يختلف هذا المنحى النقدي في الفكر الفلسفي كثيرا عمّا كانت ترنو إليه الدروس التي كان يلقيها سقراط ويدوّنها أرسطو قبل ثلاثة وعشرين قرنا، أو ما يمكن اعتباره “أسلوب سقراط في المساءلة”. واليوم، تزداد قيمة التفكير النقدي في سائر المجالات من التعليم إلى التجارة وإدارة الشركات، ومن الاستراتيجية العسكرية إلى التنافس في مجال أبحاث الغضاء والذكاء الاصطناعي. لكن يظل التفكير النقدي والسؤال الفلسفي في منطقتنا العربية محتشما، وأحيانا غير مرحّب بهما في جلّ منصّات المجال العام، من الإعلام إلى التعليم مرورا بضعف النقاشات في البرلمان ومجالس الحكومة، وحتى داخل قاعات الجامعات حيث تتردّد وصية متداولة بين مرشّحي الدكتوراة بعدم الجدل مع أعضاء اللجنة حتى لا يجازفوا بما قد يعرقل وصولهم إلى اللقب. وعلى هذا المنوال، تقترب أجيال جديدة من عضوية نادي البحث العلمي وإنتاج المعرفة برصيد نظري هائل في أغلب اللحظات، دون إرادة حقيقة للتفكير النقدي الصارم. 

ما يزيد في تحديات السؤال الفلسفي في الواقع العربي حاليا تنامي موجات الشعبوية وبدع التفاهة وتقديس الأسطورة وانتشار السلفيات الجديدة وفزاعة الإرهاب، وكيف تستثمره بعض مراكز القوة في تجنب السؤال المركزي الذي تناوله فوكو ضمن علاقة القانون والسيادة والطاعة، أو ما أسماه “مشكلة الهيمنة والإخضاع”. ويتوخّى في ذلك بعض “الاحتياطات المنهجية”، ومنها أن الأمر لا يتعلق “بتحليل الأشكال الناظمة والشرعية للسـلطة انطلاقا من مركزها ومن آليتها وآثارها الإجمالية، وإنما يتعلق الأمر بالعكس بتحديد السلطة من أطرافها وملامحها الأخيرة وحيث تصبح دقيقة وهشّة، أي تحليل فلسفة السلطة انطلاقاً من أشكالها ومؤسساتها المحلية أو الجهوية، حيث تتجاوز قواعد القانون المنظمة والمحددة لها، حيث تمتد خارج قواعدها، وحيث تكون داخل مؤسسات ومندمجة في تقنيات ومالكة لوسائل التدخل المادي التي يمكن أن تكون عنيفة.”

هل العرب في الزمن الفلسفي؟

يكثر السجال حول “خريف” الفلسفة في الواقع العربي بين الفينة والأخرى. وهناك من ارتأى وجود “أزمة” أو “مأزق” الفلسفة في السياقين العربي والإسلامي كمعضلة تجتمع فيها أسباب ذاتية وأخرى خارجية. وهي مشكلة الباب الدوار التي تظل عالقة دون حل. ولا أجاري بعض الآراء في اتّهام المثقف العربي اليوم بتهمة “الانفصام”، أو أن المفكر العربي يكون “أسيــرا للماضي مبهــورا بمـا كـان فيه من تقدم وإنجاز، و إما نجــده يحاول القفــز على حضارة العصر، و هذا ما صـعب الأمـر عليـه مـن أن يحيـا عصـره الفلسفـي، وأن يشارك فيه مشاركة إيجابية مما أدّى إلى عزله عن الفكر العالمي،” كما جادل الأستاذ نور الدين بن قدرو في دراسته النقدية “واقع الفلسفة في الواقع العربي المعاصر: عوائق وأزمة في الإبداع”.

ثمة مفارقة سلبية تكمن في التردد في استعادة الزمن الفلسفي عربيا وإسلاميا، وتدفع بعض الباحثين إلى منطق الاستصغار لنصيبنا من الفلاسفة المحليين، أو أنّ “مفكّري العرب الحديثين لا يمكن نعتهم بالفلاسفة لأن أيا منهم لم ينتج مذهبا فلسفيا يعتد به”، أو أن أسماء بارزة مثل محمد عابر الجابري ومحمد أركون “مجرّد باحثين في التراث وليسوا فلاسفة.” هذه تجليات إحباط وانتقاص من الذات العربية بسبب التخاذل عن الدفاع عن القضية المحورية: ما هي المكانة التي ينبغي الدفاع عنها للفلسفة في الواقع العربي المحتدم والعالق في معارك التنمية والاشتباك المستدام بين قوى التسلط والاستبداد والمظاهرات المتكررة والسخط الشعبي من الرباط إلى بغداد، وشتى الحركات الاجتماعية التي تدعو للحداثة والحرية وتأسيس دولة الرّفاه.

تتراكم الأسئلة الملحّة بشأن مآل هذا الاشتباك السياسي والثقافي الممتد حتى منتصف القرن الحالي على أقل تقدير. وكلّما استدام الواقع العربي هذه المرحلة الانتقالية بين اللايقين وانعدام الاستقرار حاليا وآفاق التعددية وتأسيس ثقافة التوافق بين مكونات المجتمع مستقبلا، ليس في ليبيا وسوريا واليمن والعراق ولبنان فحسب، بل وأيضا في أرض “ثورة الياسمين” حيث أطلّت اللحظة التاريخية التي هرم التونسيون من أجلها، وسارعت في الرحيل. ويمكن تعميم حالة اللايقين على بقية المنطقة العربي سواء معيشيا بوجود فزاعة المجاعة المحتملة بعد توقف صادرات القمح الأوكرانية والروسية، وإن كان اتفاق استنبول سيفرج عن خمسة وعشرين مليون طن منها في ميناء أوديسا عبر البحر الأسود، وأيضا قلق عواصم الخليج من احتمال انحدار قيمة النفط واستبداله بمصادر الطاقة البديلة والمتجددة في أفق عام 2040.

أعود إلى المربّع الأول بسؤال حيوّي: إلى متى سيبقى السؤال الفلسفي في نظر أغلب النخب الحاكمة وشبكات المصالح المالية في العواصم العربية مجرّد ترف أكاديمي، أو سفسفطة عابرة، بمقولة “ما لي أسمع جعجعةً ولا أرى طحناً؟” وقد يتناسى البعض أن تفوق أوروبا وأمريكا وبقية الغرب لم يحدث إلاّ بفضل التوصل إلى هندسة برغماتية السياسة، وبرغماتية المصالح، وبرغماتية المرامي الاستراتيجية طويلة الأمد.

هي مقوماتُ القوة والتموقع في العالم استمدت بوصلتها من السؤال الفلسفي النقدي التراكمي منذ قرنين على الأقل بعدما تبنّت قيم الحداثة والحرية والديمقراطي ودولة الرفاه. هي أيضا لازمة معرفية لا مناص منها في تطوير مدارسنا وجامعاتنا، ومختبراتنا العلمية، ومراكز أبحاثنا، ووزاراتنا، وسفاراتنا، وقصورنا. وهي قيمة السؤال الفلسفي في تشريح تحديات الحاضر، والتخطيط لرؤى المستقبل، بل قانون طبيعي في تطور الدولة وتنمية المجتمع، ورصد الرأسمال السياسي بين القمة والقاعدة. فمتى نستعيد بصيرتنا في الزمن الفلسفي؟ 

Visited 21 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد الشرقاوي

أكاديمي وكاتب مغربي