المغرب في عهد مولاي سليمان

المغرب في عهد مولاي سليمان

إبراهيم الخطيب

ينتمي الدكتور محمد المنصور، أستاذ التاريخ بكلية الآداب (جامعة محمد الخامس)، إلى جيل جديد من المؤرخين المغاربة الذين تلقوا دراساتهم العليا في إنجلترا أو الولايات المتحدة الأمريكية، ويتوفرون على حس تأريخي أنجلو- ساكسوني يتميز بإعادة فحص المصادر الأساسية، وقراءة حوادث التاريخ بنوع من الحيطة، وتجنب الأحكام المسبقة دون المغامرة بالتأويل، فضلا عن رؤيتهم لهذه الحوادث في نطاقها الشامل كبنية تتداخل والبنيات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والثقافية في تلاحم وثيق. وللعلم فإن الدكتور محمد المنصور تابع دراساته الجامعية بمعهد الدراسات الشرقية والإفريقية التابع لجامعة لندن، ويعتبر كتابه الذي بين أيدينا باكورة إنتاجه التاريخي.

يعالج كتاب «المغرب في عهد مولاي سليمان»، (الصادر في 248 صفحة من القطع المتوسط عن «منشورات دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بإنجلترا MENAS PRESS»، 1990) فترة دقيقة وحساسة من تاريخ بلادنا تمتد من نهاية القرن الثامن عشر وتتواصل خلال العقدين الأول والثاني من القرن التاسع عشر، بكل ما عرفته هذه الفترة من اضطرابات وأوبئة على الصعيد المحلي، وحروب وصراعات اقتصادية على الصعيد العالمي. بأن صعوبة دراسة هذه الفترة ترجع إلى ندرة المادة الوثائقية، سواء في مجموعات الوثائق المغربية أو الأوروبية، المتعلقة بالحقبة السابقة على سنة 1830، كما ترجع إلى غياب كلي لفهرسة الوثائق المغربية الموجودة أو تنظيمها، فضلا عن التشويش الذي أشاعته بعض الكتابات الفرنسية في الموضوع.

وإذا كان المؤرخون لهذه الحقبة – التي تميزت بحدوث ثورات على الحكم المركزي ونتج عنه تهديد مؤسسات الدولة، ومنع السفن المغربية، خاصة سفن القراصنة، من حمل السلاح الأمر الذي أضعف شوكة المغرب وآل به إلى الانكفاء على الذات وسط عالم يتطور بسرعة على أعتاب القرن التاسع عشر – يعتبرون الوضع برمته ناتجا عن سلوك شخصي للملك، فإن محمد المنصور يصحح هذه النظرة الجزئية مبرزا جدلية الوضع، بحيث يبين قدرة السلطان مولاي سليمان على إخماد الثورات (خاصة في سنتي 1800 و 1811) كما يبين، في نفس الوقت، عوامل الضعف الذي ينطوي عليها الرجل والتي تعود إلى انتهاجه سياسة مركزية مبالغا فيها في مواجهة سلطة القبائل والزوايا، لفرض نظام جبائي وضريبي شديد الصرامة والقسوة. غير أن ما لطف من عواقب هذه الوضعية في القسط الأعظم من عهد مولاي سليمان (الذي بويع سنة 1792) هو الظروف المناخية الجيدة التي ساهمت في إقامة ونشر رخاء اقتصادي أدرك السلطان أهميته في استقرار البلاد فبادر إلى سن سياسة لحماية السوق المحلية من أية منافسة الأمر الذي كان له انعكاس إيجابي على انخفاض الأسعار واستتباب نوع من المن الغذائي وارتفاع مداخيل الدولة من الضريبة المفروضة على القطاع الفلاحي، ومن ضريبة «المكس» التي تم فرضها على الحرفيين والتجار. غير أن هذه السياسة ستعرف تحولا دراماتيكيا منذ نهاية العقد الثاني من القرن 19، حيث أصبح المغرب مسرحا لتعاقب الأوبئة (المجاعة، الطاعون) بعد انتشار الجفاف وشيوع الفتن الأمر الذي لم يجد معه السلطان مفرا من إثقال كاهل الفلاحين والحرفيين بالضرائب، فزاد الطين بلة.

وقد عرف المغرب، في هذه الفترة، على الصعيد الثقافي الديني، قيام الدعوات الوهابية، خاصة الدعوة القائلة بنبذ كل واسطة دينية، فأعجب مولاي سليمان، الذي كان مالكيا أشعريا، بهذه الأفكار وحاول، بفطرته السياسية، استغلالها لإيقاف وإضعاف نفوذ كل تكتل ديني محتمل، وكذا لكسر شوكة الشرفاء، وأصحاب الزوايا، والطرقيين الذين سيكونون رأس رمح الفتنة التي عرفها المغرب بين سنتي 1820 و1822، سواء في فاس او في مراكش، والتي كانت بمثابة معزوفة الختام لعهد السلطان مولاي سليمان.

غير أن الازدهار الذي تميز به المغرب قبيل الفتنة لم يكن يواكبه تطوير لعلاقاته الخارجية. وفي هذا الصدد يوضح المؤلف الأسباب الموضوعية لهذه العزلة فيبرز التأثير المدمر للحرب النابايونية التي يعتبر أنها شكلت عائقا منيعا حال دون تطوير المغرب لأنشطته التجارية الخارجية، ثم سلوك إسبانيا سياسة مشينة هي التدخل في شؤون المغرب الداخلية انطلاقا من جنوبه، فضلا عن عدول فرنسا، أمام نفوذ البحرية البريطانية في المنطقة والتقارب الإنجليزي المغربي منذ مطلع القرن 19، عن تمتين مبادلاتها التجارية مع المغرب, بيد أن الأسباب المذكورة إذا كانت تفسر التوجه العام نحو الانغلاق، فإنه لا بد من القول بأن السلطان مولاي سليمان، على مستوى التفاصيل، عمل على سن سياسة شبه ليبرالية على الصعيد الضريبي، فأمر بخفض الضرائب المفروضة على الواردات، وعلى صعيد المبادلات حيث شجع على التصدير الذي كان يستعمل مداخيله لاقتناء الأسلحة بغية قمع الفتن، كما أعاد فتح ميناء الجديدة لاستقبال التجار الوافدين من كل الآفاق الأوروبية.

إنه ليس من الصعب ملاحظة أننا لم نهتم، في هذه العجالة، إلا بإبراز الخطوط العامة لهذا الكتاب الهام، والمتعلقة خاصة بالسياسة المتبعة من طرف السلطان مولاي سليمان على أصعدة الاقتصاد والسياستين الداخلية والخارجية. بيد أنه لابد من الإشارة إلى الكتاب يتناول بالتحليل أيضا الوضعية الاجتماعية والإدارية والدينية للمغرب في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر حيث يدرس الواقع القبلي، والعلاقة بين البادية والحواضر، والطبقات الاجتماعية، والجالية اليهودية ثم يعقب بفحص المؤسسات فيدرس المخزن والسلطات المخزنية، ووضعية السلطان، والسياسة الإدارية والجيش، قبل أن ينتقل لتحليل السياسة الدينية لمولاي سليمان مع الحديث عن الوضعية الاعتبارية للعلماء، والوظيفة الاجتماعية والسياسية للشرفاء، ثم الطرق الدينية. وقد اعتمد المؤلف في كل ذلك على ذخيرة لم يسبق استغلالها من الوثائق باللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وكذا على مجموعة هامة من المخطوطات باللغة العربية، وعلى مراجع مطبوعة بعدة لغات، الأمر الذي يؤكد ليس قيمة العمل فحسب، وإنما آفاق البحث الواسعة التي تفتحها طريقة معالجته أيضا.

Visited 104 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

ابراهيم الخطيب

ناقد أدبي ومترجم