تكفير الكاتب المغربي مصطفى النهيري ومحاربته وتشريده!
عبد الرحيم التوراني
لا أعرف كيف احتفل بذكرى ميلاده الـ80، التي مرت الأسبوع الأخير. غالبا ما سيكون حصل ذلك في شقته الصغيرة بحي بلفيدير في الدار البيضاء، التي يعيش بها منذ سنوات وحيدا، هي ذات الشقة التي حاول مالك العمارة أن يطرده منها ويعرضه للتشريد، من خلال مؤامرة الاستيلاء على مسكنه بالرغم من أن الشقة في ملكية النهيري.
أم أنه كعادته احتفل بالذكرى متجولا في شوارع المدينة، قاصدا مركزها، وهو يدندن قصيدة حكيم الشعراء في الجاهلية زهير بن أبي سلمى:
سَئِمتُ تَكاليــــفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش *** ثَمانينَ حَولاً لا أَبـا لَكَ يَسـأَم
صار مشهد رجل يمشي في الشوارع، يحمل بيده حزمة كتب ومجلات وجرائد عربية وفرنسية، متأبطا عكازة بدل الارتكاز عليها، مشهدا مألوفا بوسط الدار البيضاء. أو جالسا في سطيحة مقهى، مثل مقهى “لاشوب” وأمامه كوب قهوة بالحليب، يتأمل “صهيل المارة حول العالم”، كما هو عنوان مجموعة قصص رائعة للأديب العراقي الكبير جليل القيسي.
في السابق، كنت أصادف النهيري في وسط مدينة الدار البيضاء، يتجول مع كلبه، من نوع الكلاب البوليسية، وغالبا ما كانت تتحلق حوله فتيات من تلميذات الثانويات.
ظل مصطفى النهيري مخلصا لوحدته، لا يمكن لك أن تراه ماشيا برفقة أحد، إلا أنه في السنوات الأخيرة أصبح يحاصر بكاميرات هواتف بعض الشبان، يلحون عليه الإدلاء برأيه حول بعض أحداث المجتمع، ويسارعون لنشر تلك التصريحات المرتجلة والغاضبة على قنوات “اليوتيوب“. كرأيه في التعريب أو الأعمال النلفزيونية أو المسألة الأمازيغية.
قبل عشر سنوات، احتفل مصطفى النهيري بعيد ميلاده السبعين ماشيا على الطريق. الصدفة وحدها جمعته مع صديقه القديم د. عبد الصمد محيي الدين المقيم بباريس. وكان اللقاء غير بعيد عن ساحة 16 نونبر المقابلة لمقهى “لاشوب”. فاحتفلا معا على طريقتهما الخاصة باللحظة السعيدة. اشترى مصطفى النهيري بالمناسبة حذاء أبيض، اختاره له عبد الصمد، وانزويا داخل مقهى صغيرة ليرتشفا القهوة السوداء والقهوة بالحليب، ثم ألفيا نفسيهما يغرقان معا في لجة من الذكريات ضربت أمواجها الصاخبة صخور نصف قرن من الزمن.
يومها أبى صديقي العزيز عبد الصمد إلا أن يشركني في الحدث، فكلمني بالهاتف وقدم لي الصديق مصطفى النهيري، جاءني صوت النهيري ممزوجا بفرح طفولي عذب، ثم انتقل صاحب “أزمة الفكر العربي” إلى لومي على مقال نشرته عنه قبل سنتين من تلك الفترة، وكان عنوانه: “كاتب من زمن آخر”، واستطرد قائلا بأنه كاتب لكل الأزمنة، ووعدني باستضافتي في بيته لتوضيح ما يجب توضيحه.
لم يكن العنوان الذي لم يعجب كاتبنا الكبير إلا بسبب غياب معلومات عنه مع صوره في محركات البحث بالانترنيت. وفي ذكرى ميلاده السبعين، ربما تكون لقطة السيلفي مع السي عبد الصمد هي أول صورة لمصطفى النهيري على الشبكة العنكبوتية استقبلها موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك.
في 2012، تساءل الصحفي محمد الأشهب على أعمدة إحدى اليوميات المغربية: وأين ذهب مصطفى النهيري؟
كانت التفاتة جميلة حدثنا فيها الأشهب عن ذكريات من زمن الصحافة المغربية، حين كانت تزينها مجموعة من الأقلام المضيئة، منهم عبد الجبار السحيمي وإدريس الخوري ومصطفى النهيري، هذا الأخير الذي وصفه الأشهب بـ”وجودي وقومي وماركسي وفوضوي وتنويري في آن واحد“.
كما أتى الأشهب على ذكر اسم صديقنا عبد الصمد محيي الدين، الذي قال عنه إن عبد الصمد محيي الدين “يجمع بين مغامرات الكتابة والحياة. يحتسي قهوته في الرباط، وسرعان ما يحدثك من مكتبه في باريس. يصبو دائما إلى الجديد، إنه من النوع الذي يتكلم فيراه الجميع“.
مرة سألت النهيري عن مشاريعه الجديدة في الكتابة فرد بسخرية وامتعاض واضحين: “لمن سأكتب؟ وعلاش؟“. وأردف: “خليها للصدفة”، ومضى ليكمل جولته المسائية بشوارع وسط المدينة، لا أحد يعرفه. لم تعد صورته والغليون بيده تظهر في “العلم” والمرحومة “الميثاق الوطني”، ولا أي جريدة أخرى.
كان النهيري في السبعينيات من القرن الماضي “يعد أسطورة أدبية”. وقد نشر أزيد من خمسة عشر كتابا على نفقته الخاصة، منها كتاب “أزمة الفكر العربي”، وكتاب “محنة العقل المبدع”. وقد استشهد بكتابات مصطفى النهيري الدكتور غالي شكري، حين أثبت عنوان كتاب “أزمة الفكر العربي” ضمن لائحة مراجع أحد مؤلفاته النقدية، كما أن المفكر طيب تيزيني يحيل في إحدى دراساته على الكاتب مصطفى النهيري.
ويعتبر آخرون مصطفى النهيري من الأسماء الوازنة في الحقلين الأدبي والفكري التي أهملت، بل حوربت. ووصف أحد النقاد مصطفى النهيري بـ “الكاتب المغبون الذي لديه في سوق الكتاب مجموعة أعمال لكن النقد لأسباب متعددة لم يوله الاهتمام الذي يستحقه“.
يقول عنه صديقه عبد الصمد محيي الدين: “بكل تواضع وبالكثير من الامتنان، أنحني أمام هذا الهرم الفكري الذي أغنى الحوار حول تلاقح الثقافات، وكان جسوراً يعلن قبل غيره عن ميلاد العولمة وعالم مابعد – الحداثة، في الوقت الذي كان فيه جل الكَتَبة يجترُّون الماركس-لينينيات الببغائية“.
يعرف الكثيرون أن مصطفى النهيري كان ينشر مقالاته بـ”العلم” و”الميثاق الوطني”، لكنه نشر أيضا بصحف غيرها، منها أسبوعية صدرت بالدار البيضاء باسم “العدالة”، وكان معه الروائي الراحل محمد الاحسايني، الذي أشار في حوار صحفي: “في منبر “العدالة” كان يكتب معنا الأستاذ مصطفى النهيري، الذي يعد ظاهرة أدبية في ذلك الوقت، وإن كان في نظري يستعمل الكثير من المفرقعات اللفظية“.
ظهرت “العدالة” لتكون ناطقة باسم حزب أريد له أن يكون “حزب الشلوح”، بإيعاز مباشر من الملك الراحل الحسن الثاني، ووضع على قيادته دهاقنة الرأسمال السوسيين، كأخنوش احماد أولحاج، وناجم باعقيل، ومولاي العربي، وأيت امزال، ومولاي مسعود. ولم يكن رجل الأعمال أحماد أولحاج غير والد رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش.
أسندت إدارة أسبوعية “العدالة” إلى عبد الصمد محيي الدين، الذي يتذكر أنه “خلال مزاولتي لإدارة جريدة “العدالة”، التي كانت تصدر كل جمعة، كنتُ ملزَماً بالحضور كل أربعاء مساءً إلى بيت سي احماد أولحاج أخنوش (الذي كان يقع بعين السبع، على بعد خطوات من المقر الحالي للقناة الثانية التلفزيونية، لأناقش محتوى العدد وأتلقى آخر التعليمات قبل الصدور. هنالك كنتُ أرى الفتى المراهق “عزيز”، الذي توزَّر فيما بعد وبلغ ذروة الحكومة اليوم”.
يقول الناقد محمد معتصم عن مصطفى النهيري: “يذكرني ببداياتي، وكيف أخذت بكتاباته الفكرية، ويذكرني بمطبعة الأندلس في شارع الفداء بالدار البيضاء، وبنوعية الكتب وقتها، وبالأسطورة الشخصية التي أسسها النهيري لذاته… كنت أراه من بعيد، وكعادتي لا أتجرأ لمصافحة الكتاب والمشاهير. لقد قدرت دائما كتاباته وسجالاته“.
أما الناقد ابراهيم الخطيب فعلَّق: “أنا بدوري كنت من قراء مقالاته، لكني أجهل حاليا كل شيء عن محتواها“.
وكتب الناقد والشاعر عبدالجبار العلمي: “كم صادفته في شوارع الدار البيضاء في السبعينيات والثمانينيات، يتجول وحده، ويحمل دائما في يده جرائد أو كتبا، وقد كان آنذاك في مرحلة شبابه. كان مثالا للكاتب الذي وهب حياته للقراءة والكتابة، لا يرافق أحدا في جولته تلك بشوارع المدينة، كأنه في حاجة إلى خلوة للتفكير فيما سيكتب. كان آنذاك مواظبا على الكتابة في جريدة “العلم”، وكنا نتابع كتاباته الفكرية والأدبية. وأذكر أنني كلما قمت بجولة في شوارع البيضاء الرئيسية إلا ورأيته في جولته المعهودة. كنت من المعجبين به كاتبا وشخصا متميزا بأناقته ومرافقته الدائمة للكتاب والصحف. تفقدته في الشوارع التي كان يرتادها منذ سنوات. لم أدر سبب غيابه، ولم أره إلا في الصورة التي تفضل بنشرها الصديق عبدالرحيم التوراني (في الفيس بوك) معلنا عن محنته الأخيرة. فقدت شوارع الدار البيضاء كثيرا من معالمها الجميلة، وكثيرا من الوجوه المحبوبة المرموقة التي كنا نصادفها فيها“.
وسط المدينة هو الفضاء الأثير عند النهيري، شوارع محمد الخامس ومولاي عبدالله، و إدريس الحريزي، وباريس، وللا الياقوت، وكل الأزقة والممرات المحيطة بهذه الشوارع، حيث المكتبات وأكشاك بيع الصحف والمجلات.
هو ما يؤكده الشاعر عبد العزيز حاجوي: “لم يتخل عن هذه العادة ، فقد رأيته منذ شهرين وقد فعل فيه الزمن ما فعل، يحمل كتابا ويخطو وحيدا قرب مقهى “لاشوب” في اتجاه ساحة النصر“.
أما الناقد السينمائي حمادي كيروم فنشر تدوينة تشبه اللقطة السينمائية، مرفقة بصور، عنونها بـ”في مديح الخراب”.. ما تبقى من معالم الدار البيضاء المركز: سينما الكوليزي وبراسري مارسيل ساردان وهذا الرجل العابر على الرصيف كأنه يبحث عن مجد مدينة كانت ولم يبق إلا ظلها.. إنه الكاتب والمثقف مصطفى النهيري“.
ويخبرنا الناقد والمترجم والسيميائي د. محمد البكري، عن أحد لقاءاته بمصطفى النهيري قائلا: لما التقيت به في أحد المساءات، رأيته وكأنه قد أتعبه إعمال الفكر وهمّ الشأن الثقافة، وهو أحد أهم رجاله، وليس العمر ولا قهر السنين. وجدته بملتقى زنقة البكري وزنقة الديوري، أمام المقهى المغلق يومه. غير بعيد عن مؤسسة “شيميكلور”. سلمت عليه. وكان بودي أن أحكي له كيف عثرت على نص قديم له في صحيفة “الاتحاد الاشتراكي“.. لكنه بادرني بالشكوى من قهر مالك العمارة التي يقطن بإحدى شققها، ورهطه. فقد حولوا حياته جحيما منذ مطلع 2018. ومن تاريخه، حسب قوله. لم يعد يستطيع دخول بيته الذي يسكنه… فمن الاستفزاز والتحرش إلى الدق بقوة، لتحويل حياته ليل نهار جحيما…”
***
ألف مصطفى النهيري أزيد من خمسة عشر كتابا، نشرها جميعها على نفقته الخاصة، منها “أزمة الفكر العربي”، و”محنة العقل”. وتمكن من نحت اسمه ضمن الأسماء الوازنة في الحقلين الأدبي والفكري. لكنه جرى إهماله، بل حورب، وقد صادرت الرقابة بعض كتبه. وأكثر من كل ذلك، سيرمى بتهمة الإلحاد ويتم تكفيره من قبل الكاتب عبد الكريم الفيلالي، في مقال طويل نشر بمجلة “دعوة الحق” التي تشرف عليها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
لكن النهيري تصدى لهذا الاتهام، وأيضا لمقال نقدي آخر نشر بمجلة “أقلام” من توقيع سالم يافوت، وجاء رده في كتاب بعنوان: “محنة العقل المبدع”، كما يشير إلى ذلك الشاعر مصطفى المعروفي.
بعد سنوات من معاناة التهميش، كونه لا ينتمي لأي حزب أو قبيلة سياسية، ولأنه أخلص دائما لمبادئه وأفكاره كمثقف حقيقي ينأى بنفسه عن السلطة ومغرياتها… ها هو اليوم الكاتب مصطفى النهيري في آخر العمر يتعرض لما هو أخطر من الإقصاء والتهميش الثقافي والسياسي، ألا وهو التشريد الاجتماعي من خلال مؤامرة الاستيلاء على مسكنه…