في ذكري رحيل الشاعر الكبير محمود درويش
علي القرشي
محمود درويش هو الشاعر بآل العهدية قبل أن يكون شاعر القضية، فمن باب كونه شاعرا بالدرجة الأولى دخل إلى القضية وأدمجها في عالمه الشعري، فصار شعره والقضية صنوين لا يفترقان.
محمود درويش شاعر علامة يستحيل اختزالها في كلمة أو مقالة أو كتاب أو حتى في مجلدات، إنه شاعر الغيض الذي لا يحد لا زمانا ولا مكانا، إن استحالة هذا الانحداد متأتية من احتضان شعره لقضية شعبه ووطنه، فالبعد الكوني والإنساني لمحمود درويش ينطلق من هذا الاحتضان الحميمي أو لنقل الشعري والجمالي للقضية الفلسطينية، فلولا احتضان هذه القضية، بكل أبعادها السياسية والثقافية والتاريخية شعريا لما صار للقضية هذا البعد الكوني والإنساني.
محمود درويش شاعر الهوية الفلسطينية، وهنا يجب التمييز بين مستويين من التعبير عن الهوية: مستوى تعبير شعر محمود درويش عن الهوية الوطنية الفلسطينية في مواجهة سياسة الاقتلاع وطمس معالم الهوية من طرف الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين. وهو مستوى يمكن اعتباره وجوديا بالمعنى الفلسفي وليس بالمعنى السياسي والتاريخي فقط، ومستوى التعبير عن هوية الشعر الفلسطيني المعاصر بإزاء بقية روافد الشعر العربي المعاصر. إن هذا المستوى من التعبير هو الذي ارتقى بشعر محمود درويش إلى ذرى فنية وجمالية لا تضاهى.
إن خروج محمود درويش من الأرض المحتلة أوائل السبعينيات لم يكن أبدا هروبا أو تنصلا من مستلزمات قضية شعبه ووطنه، بدليل أن هاته القضية ظلت تسكنه في الحل والترحال، وكانت شاغل تفكيره وهاجس شعره على مدى مسيرته الإبداعية الطويلة التي قاربت نصف قرن من الزمن، بل وعلى العكس من ذلك فإن هذا الخروج القسري كان تشوفا نحو أفق أرحب للارتقاء بشعره من المستوى الأول إلى المستوى الثاني، مع أن هذين المستويين يتكاملان باستمرار. وقد يفهم من السؤال الذي عنونت به الناقدة اللبنانية ريتا عوض مقالها الرائد في تلك المرحلة من التجربة الشعرية لدرويش: “خروج محمود درويش هل قتل الشاعر أم أحياه؟“.
أقول: قد يفهم من ذاك السؤال أن درويشا بخروجه من الأرض المحتلة في تلك اللحظة التاريخية إنما كان يبحث عن خلاص فردي بعيدا عن مأساة شعبه ووطنه، ولكن درويشا بشعره أولا، وبمواقفه ثانيا قد كذب كل التوقعات المغرضة وأثبت جدارته كشاعر ومناضل.
في رحيل درويش وغيابه عن الساحة خسارتان كبريان، قد لا تعوضان، خسارة للقضية الفلسطينية التي نذر حياته وشعره لها، فقد كان سفيرها الكوني الذي اعتمدته ربات الشعر والجمال لمدة نصف قرن الذي هو عمره الإبداعي. ولن ينقطع مدد هذا الشعر بموت الشاعر، بل سيستمر ما استمرت مفاعيل شعره، وهي مفاعيل لا تنحد بالعمر الفيزيقي للشاعر.
أما الخسارة الأكبر والأفدح فإنما هي للشعر العربي، الذي بغياب درويش يفقد أحد أعمدته السامقة، وهو، بحق، شاعر كبير وفذ، يستحيل تعويضه أو ملء الفراغ الذي تركه في المدى المنظور، ولكن مما يقلل من حجم هذه الخسارة الفادحة إنما هو الإرث الشعري والنثري الذي تركه لنا درويش، والذي شكل ويشكل زادا ثرا ومعينا لا ينضب من الأساليب والمجازات والصور والرؤى أجازف القول: بأنها جماع وحصيلة لكل ما أبدعه شعراؤنا الكبار المعاصرون، وأن محمود درويش بإبداعه الشعري والنثري قد نحت مجرى عميقا للرافد الفلسطيني ضمن نهر الحداثة بإضافات فنية وجمالية ورؤيوية وبلاغية لا تتأتى إلا لشاعر كبير وموهوب، وعميق الثقافة، وهو ما كانه درويش بامتياز.
محمود درويش أخيرا وليس آخرا هو شاعر النبؤة. الشعر والنبؤة في ثقافتنا العربية يقترنان ولا يفترقان، فقد جهد القرآن الكريم لنفي صفة الشعر عن النبي محمد “ص” بقوله: “وما هو بشاعر مجنون” ونحن لا نجد ضيرا أو حرجا في تلقيب أبي الطيب أحمد بن الحسين بـ”المتنبي”. وقد لفت انتباهي إلى هذه السمة في شعر محمود درويش قصيدته “إلى أمي” التي يغنيها الفنان مارسيل خليفة، والتي يقول فيها: أحن إلى حبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
وتكبر في الطفولة
يوما على صدر أمي
وأعشق عمري
لأني إذا مت
أخجل من دمع أمي.
فكيف تأتى للشاعر أن يخترق حجب الآتي؟ وأن أمه ستبكيه بدل أن يبكيها؟
إننا نعتقد، وليس في هذه الكلمة مجال للتوسع في هذا الأمر، أن الشاعر الذي ظل مهووسا بموضوعة الأرض متماهيا بالمرأة أما وأختا وحبيبة ربما أدرك بحدسه الشعري وفي علاقته المزدوجة بالأم والأم البدائية أن أوان الاحتضان ولحظة الوصال قد لا تتحقق في العمر المحدد للشاعر وأن دون تحقق الوصال أنهر من الدمع إن لم نقل أنهر من الدم، فهل أزفت لحظة الخلاص بعد أن قدم الشاعر حياته قربانا لحياة شعبه وخلاصه؟
شعر محمود درويش رغم ما يعتصره من ألم ورغم أن تجربة الموت احتلت الحيز الأكبر من إبداعه الشعري في المرحلة الأخيرة من حياته هو شعر يضج بالحياة وينضح بالأمل.