لماذا كانت بعض الردود على تصريح أحمد الريسوني مغالية ومجانبة للصواب؟؟؟
عبد السلام بنعيسي
أثار التصريح الأخير للعلامة أحمد الريسوني زوبعة كبيرة، ونتجت عنه ردود متعددة، ولا أظن أن الرأي العام المغربي يتفق، في عمومه، مع الأستاذ الريسوني في قوله: ((حتى وجود موريتانيا غلط… فالمغرب يجب أن يعود كما كان قبل الغزو الأوروبي، كانت موريتانيا جزءا من المغرب، الآن نحن نثبت مغربية الصحراء ببيعة أهلها للعرش الملكي، وعلماء موريتانيا وأعيان موريتانيا، أو ما يسمى ببلاد شنقيط، بيعاتهم ثابتة إلى ملوك المغرب))، فهذا كلام يناقض قول الريسوني في نفس التصريح ((لكن المغرب اعترف بموريتانيا، وتُركت للتاريخ ليقول كلمته فيها في المستقبل)). اعتراف المغرب بموريتانيا، اعتراف نهائي ولا رجعة فيه، والتاريخ لا يعود إلى الوراء، وليس من مصلحة الشعبين المغربي والموريتاني، الإدلاءُ بمثل هذه التصريحات، خصوصا عندما تصدر عن شخصيات ذات وزنٍ اعتباري كبير، من حجم رئيس هيئة علماء المسلمين، بجنسيته المغربية، وبالحساسيات الموجودة تاريخيا بين البلدين.
لكن العلامة أحمد الريسوني على حق عندما يقول: (( أما مشكلة الصحراء، فهي صناعة استعمارية، وللأسف أن تتورط دول شقيقة، دول عربية وإسلامية، في دعم بل في تبني هذه الصناعة الاستعمارية، هذا من جهة ولكن من جهة أخرى، للأسف أن معالجة قضية الصحراء تتم بمعزلٍ عن الشعب، لأن معالجة قضية الصحراء بمعزل عن الشعب هو الذي جعل بعض المسؤولين يتوهمون أن إسرائيل تنفعنا، فلنأتي بإسرائيل، لكن لو كان الاعتماد على الشعب، الشعب 35 مليون مستعد أن يجاهد بماله ونفسه، وأن يتعبأ، كما تعبأ في المسيرة الخضراء، وأن يقطع آمال الذين يفكرون في فصل الصحراء… المغرب مستعد إذا دعا جلالة الملك إلى مسيرة بالملايين، إن دعا للجهاد بأي شكل، بالمال.. نحن مستعدون، علماء المغرب، دعاة المغرب، مستعدون أن يذهبوا ويقيموا الأسابيع والشهور في الصحراء وفي تندوف، نحن لا نقيم مسيرة إلى العيون، بل مسيرة إلى تندوف، للأسف الدولة، بدل أن تعتمد على الشعب، ذهبت الآن تعتمد على إسرائيل، وستكتشف السراب… فقضية كهذه، لا بد من الرجوع فيها إلى الشعب وقواه وطاقاته التي لا نهاية لها…)).
تعمدت إدراج الفقرة بكاملها من التصريح رغم طولها لكي يتبين منها القارئ، ففي الكثير من الأحيان، تحتدُّ الانفعالات، وتكثر التعليقات على تصريح ما، ويكون الذين يعلقون ويدلون برأيهم، غير مطلعين على التصريح الذي يكتبون عنه ويناقشونه، فبقراءة متأنية لما قاله الأستاذ الريسوني، يتبين لنا أن التعليقات والردود التي تناولته ذهبت، في معظمها، إلى حواشي التصريح، ولم تتناوله في عمقه، وفي البعد الذي أملاه، ففي العمق فإن تصريح العلامة الريسوني، الهدف الرئيسي منه، هو نقد الاعتماد الرسمي المغربي على الكيان الصهيوني في تأكيد مغربية الصحراء والحفاظ على وحدته الترابية، الرجل يُنبِّهُ الرأي العام المغربي من خطورة التعويل على الكيان الصهيوني، ويعارض الطرح الذي تمليه على الشعب الأوساط المتحكمة في السلطة المغربية، والذي مفاده أن إسرائيل هي الجهة الوحيدة القادرة على دعم المغرب ومساعدته على تحصين أقاليمه الصحراوية.
الريسوني يحث على الاعتماد على قوى الشعب وطاقاته التي لا حدود لها، طبقا لتعبيره، لكي تظل الصحراء مغربية، ويحرض على تجنيد هذه الطاقات واعتمادها للدفاع عن مغربية الصحراء، ويؤكد أن الشعب المغربي قادرٌ بإمكانياته المتعددة، إن حسُن استثمارها وتعبئتها وتوظيفها التوظيف الجيد، أن يحمي وحدته الترابية ويصونها، دون الرجوع إلى إسرائيل أو أمريكا أو فرنسا. إنه يرفض الارتهان في قضية وطنية مصيرية إلى إسرائيل الدولة التي همها الرئيسي هو خلقُ البلبلة والفتنة والفوضى المدمرة في كل بقعة من بقاع العالم العربي والإسلامي، والريسوني يحذر في تصريحه من الارتهان إلى قوى الاستعمار التي عملت على في الماضي على تقسيم المغرب وتجزئته، فلا شيء يمنعها من إعادة كرّةَ التقسيم إن اقتضت مصلحتها ذلك، وإن كان المغرب مؤهلا للتقسيم، باعتماده الكلي على هذه القوى في الحفاظ على وحدته الترابية…
فهذا هو الهدف المركزي من تصريح الريسوني، والحديث عن موريتانيا وتندوف لم يكن في الواقع إلا تمهيدا يضعه الرجل كمقدمة ليصل إلى عمق الهدف من تصريحه، والذي هو التحذير من التطبيع مع الكيان الصهيوني والاعتماد عليه في أي قضية من قضايا الوطن، فإسرائيل التي تمثل الشر المطلق في المشرق العربي، لا يمكن أن تصبح بين عشية وضحاها تمثل الخير المطلق في المغرب الأقصى. من يُسوِّق لكون إسرائيل حملا وديعا، وحليفا مضمونا للمغرب، فإنه يبيع الأوهام للمغاربة، ويجعلهم يتطلعون إلى السراب متخيلين أنه ماء زلال…
عندما يتحدث الريسوني عن مسيرة لتندوف فإنه يربطها في تصريحه بدعوة موجهة من الملك في هذا الشأن، إنه لا يبادر من تلقاء ذاته إلى الدعوة إلى الزحف صوب تندوف، فالأمر من وجهة نظره، كما هو واردٌ في تصريحه، مرهونٌ بإرادة ملكية، وغني عن التذكير أن العاهل المغربي في خطابه الأخير الذي ألقاه بمناسبة عيد العرش كان قد أكد فيه للشعب الجزائري أن المغرب لا يمكن أن يكون على الإطلاق مصدرا للأذى للجزائريين، ولقد دعاهم في خطابه إلى التعاون والعمل معا، من أجل تجاوز الخلافات القائمة بين البلدين، لكن الردَّ الذي تم تخصيصه للخطاب الملكي في الصحافة الجزائرية، هو أن هذا الخطاب كان في نظرهم بمثابة: لا حدث.
الملك المغربي الممثل الأسمى لإرادة الأمة المغربية وفقا للدستور، والذي يقرر في كل شاردة وواردة في المغرب، دعا في خطابه إلى طي الخلافات وتكاثف الجهود للتغلب على المشاكل العويصة التي يعاني منها الشعبان المغربي والجزائري، فلم يقع الاهتمام بخطابه، وتمَّ تجاهله، أما تصريح الريسوني الذي لا يخصه إلا لذاته، فإن الصحافة الجزائرية اهتمت به وردّت عليه، وجعلت منه حدث الأحداث. نحن لا نحاكم النوايا، ولكن من حقنا أن نتساءل، أليس في هذا التصرف الجزائري الرسمي ما يدعو للاستغراب والدهشة؟
ليس تصريح الريسوني حول الزحف صوب تندوف تصريحا فريدا من نوعه، فلقد كان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وهو في المعارضة في عز قوته وعنفوانه، يدعو في أدبياته، الدولة المغربية إلى تصعيد الحرب من أجل الحصول على السلام في الصحراء المغربية، ولكن ظل العاهل المغربي الحسن الثاني يتحفظ من مثل هذه الدعوات، ويحثُّ على ضبط النفس، والصبر، وتغليب الحكمة لتجنيب الدولتين حربا مدمرة لن يكون فيها رابح، والأكيد أنه على نفس المنوال يتصرف العاهل المغربي محمد السادس، فهو لن يقبل الانجرار إلى نزاع مسلح بين الدولتين، ومن نفس المنطلق، أي أن الحرب بين المغرب والجزائر سيكون الطرفان خاسرين فيها.
التصريحات الحادة لبعض المغاربة من خارج السلطة صوب الجزائر، الغاية الرئيسية منها، ليست إشعال نار الحرب، وإنما التأكيد على تشبث المغاربة بصحرائهم، ورفضهم التخلي عنها مهما كانت التضحيات.
وحين انتقد الريسوني التطبيع بقوة في تصريحه، فإنه أغاض بذلك السياسيين المغاربة الساهرين على التطبيع، وبادروا لشن حملة إعلامية ضده، وكان يفترض في النخبة الجزائرية الحاكمة التي تصرح باستمرار بأنها حانقة على المغرب بسبب تطبيعه مع الكيان الصهيوني، أن تتلقف هذا التصريح، وأن ترحب به، وترى فيه تصريحا يعكس جزءا من رأي الشارع المغربي، وأن تنفتح وتبني عليه، وأن تعتبر أنه هو الجزء الممتلئ من الكأس، لكن للأسف وقع العكس، وتم التركيز من طرف صانعي الرأي العام في الجزائر على الحديث عن الزحف صوب تندوف، وكأن الريسوني يملك عصا موسى وأنه سيضرب بها الأرض، وستخرج الملايين من الجماهير المغربية وراءه، ليقودها صوب تندوف.
قد نتفق مع الريسوني حول أمورٍ معينة ونختلف معه حول أخرى، ولكن للحقيقة وللتاريخ، فإن الرجل يعارض التطبيع معارضة شرسة، وكان من الأوائل الذي عبروا عن رفضهم للتوقيع على قرار التطبيع في الرباط بتاريخ 10 ى دجنبر 2020، ويفترض أنه على هذا المستوى أقرب إلى السياسة الخارجية الجزائرية من نظيرتها المغربية، فلماذا لم تقع قراءة تصريحه من هذه الزاوية؟ لماذا الوقوف على الهامشي في التصريح الذي هو الزحف المزعوم صوب تندوف، وإهمال الأساسي والرئيسي في التصريح الذي هو رفض التطبيع ومعارضته بقوة؟ وكيف تلاقى الطرفان المتخاصمان، المغربي والجزائري، في نقطة واحدة تتمثل في الهجوم على الرجل، والعمل معا من أجل شيطنته؟؟
العلاقات بين الشعبين الشقيقين، المغربي ونظيره الجزائري، أعمق بكثير من أن تؤثر فيها المناوشات الإعلامية، فمهما حاول بعض الموتورين، سواء في الرباط أو في العاصمة الجزائر، إحداث البغضاء والقطيعة والصراع بين الشعبين، فإن الحكماء من الدولتين لن ينساقوا إلى صراع مفتوح، أو مواجهة دامية بينهما، المشاكل القائمة بين النخبة الحاكمة في البلدين، لا يمكن أن تُحلَّ إلا بالتفاوض، طال الزمن أو قصر، ومهما كانت حدة بعض التصريحات، من هنا أو هناك، فلا تُحمِّلوا تصريح الريسوني أكثر مما يحتمل، فالرجل لا يمكنه أن يحرض على الفتنة بين المغاربة وإخوانهم الجزائريين، إنه يملك ما يكفي من التعقل ليدرك أن الفتنة أشدُّ من القتل…