أحكام شيطانيّة

أحكام شيطانيّة

نجيب علي العطار

   لم تتركِ الطعناتُ التي أصابتْ سلمان رشدي جروحًا خطيرةً في جسده وحسب، وإنّما زكَّتْ نارًا لم تزل تنادي “هل من مزيد؟”. ويُمكنُ للناظر في ردّات الفعل، تجاه حادثة طعن سلمان رشدي، التي انقسمتْ بين الإدانة والمُبارَكة، أن يُدركَ حجم الكارثة الإنسانيّة التي كُرِثَ بها العقل الإسلامي حيث أنَّ قتلَ الإنسان بسبب آراءه لم يزل، الى اليوم، قضيّةً قيدَ البحث.

   أيًّا كانت دوافعُ المُعتدي على سلمان رُشدي، لا يُمكننا تناول محاولة الإغتيال على أنّها حادثة فرديّة، وإنّما سلسلة من الجرائم تقعُ كلُّها تحت عنوان؛ صراع السيف والكلمة، أيًّا كان هذا السيف وأيًّا كانت هذه الكلمة، فرُشدي ليس أوّل من يُهدرُ دمُه بسبب أفكاره/ آراءه، وربّما لن يكون الأخير. فقضيّة رُشدي بالتالي، تتجاوز سلمان رُشدي نفسَه إذ أنّها امتدادٌ لمنهجٍ دمويٍ يعود أصلُه الى الفقه الإسلامي السلطوي الذي أنتجته أنظمة الطغيان والإستبداد التي حكمت المنطقة الإسلاميّة بعد مرحلة الخلافة الراشدة. هذا الفقه، الذي يُبرّر قتلَ المختلف عنّا لمجرّد اختلافه عنّا، هو أوّل من هدرَ دمَ سلمان رشدي ونجيب محفوظ وفرج فودة وغيرهم.

   إنّ القرآن، الذي يُفترضُ أنّه المرجع الأعلى لقياس إسلاميّة مواقف الإنسان وأحكامِه على شؤون الحياة، يُقرّرُ حريّةَ الإنسان في اختيار أفكاره ومعتقداته دون أن يؤثّر خيارُه على وجودِه الفيزيائيّ في هذه الأرض. كما يؤكّد القرآن، بوضوح لا يقبلُ التأويل، أنّه إذا كان ثمّة مسؤوليّة، أو عقابٌ ما، تترتّبُ عمّا يختارُ الفردُ أن يعتقدَه ويؤمن به، فإنّ الجهة المسؤولة عن إنزال هذه العقوبة بحق مستحقّها هي الله فقط، ولا يحقُّ، حتّى للنبيّ، أن يُحاسبَ الناس على أفكارهم ومعتقداتهم، أو يُكرهَهم على اعتناق معتقدٍ دون غيره.

   أمام هذا التقرير الصارم والصارخ لحريّة المعتقد في القرآن نرى أنّ سلطة الكهنوت الإسلاميّة لم تزل “تجتهد” في إعطاء القتل على الهويّة الفكريّة، إذا جاز التعبير، بُعدًا، أو أصلًا، إسلاميًا بحيثُ تتحوّل الجريمة، المُجرّمة قرآنيًا، ليس الى حكمٍ إسلاميٍّ وحسب، بل الى عقيدةٍ أو ركنٍ من أركان الإسلام فيكون الإسلامُ بذلك قام على ستةٍ سادسُها قتل المختلف عنّا.

   وعلى سبيل المِثال لا الحصر، تقول الآية الثامنة والعشرون من سورة غافر؛ “وقالَ رجلٌ مؤمنٌ من آلِ فرعونَ يكتمُ إيمانه أتقتلون رجلًا أن يقولَ ربّي الله؟ وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم، وإن يكُ كاذبًا فعليه كذبه”. من جهة، إنّه من غير المعقول أن يُنكرَ القرآن على جماعة “فرعون” هدرَ دمِ موسى لأنّه قال “ربّيَ الله” ثم يأمرُ بقتلِ من يقول ربيَّ ليس الله. ومن جهه أُخرى يؤكّد القرآن على مسؤوليّة الفردِ عن أفكاره على أنّ هذه المسؤوليّة الفكريّة لا توجب عقابًا فيزيائيًا، كالقتل أو السجن، أو معنويًا، كمنع الأفكار من أن تُنشر.

   على أنّ حريّة المُعتقَد لا تعني حريّة الإساءة الى أفكار الآخرين، أيًا كانت أفكارهم، وانّما تعني، فيما تعنيه، حريّة نقد أفكار الآخرين، أيًّا كانت أفكارهم. ومِن غير المقبول أبدًا أن يكون النقدُ مُرادفًا للقدح والذم، وخاليًا من المنهج العلمي الدقيق في تناول الأفكار المُنتَقَدَة. على أنّه من غير المقبول بالقدرِ نفسِه أن يكونَ الردُّ على القدح والذم، فضلًا عن النقد العلمي، هو هدرُ الدمِ والقتل.

   إنّ جعلَ قتلِ سلمان رُشدي، بسبب روايته “آيات شيطانيّة”، حُكمًا إسلاميًا، أو فتوى، يعني تحويل كل مُلتزم بهذه الفتوى الى مشروع مُجرم ينتظر اللحظة المناسبة لتطبيق الفتوى. فبعيدًا عن مضمون الأفكار التي يبثُّها سلمان رُشدي في رواياته، يبقى له، ولأفكاره، الحقُّ في الوجود الآمن والحُرّ على هذه الأرض.

Visited 9 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

نجيب علي العطار

كاتب لبناني