قصيدتان من شعر الشتات
واحدة من الولايات المتحدة في شعر المعارضة لأحمد شوقي، والثانية من بلجيكا في الاحتفاء بكاتب متمرّد على السياسة ولاجئ في رحاب الأدب.
مرحاك
د. محمد الشرقاوي، واشنطن، 19 غشت 2022
عبّرت له عن إعجابها بأفكاره واعتزازها بمن يكون. فكتب بلغة التّرحاب أبياتا بعنوان “مرحاك” يجاري فيها قافية “مضناك” لأحمد شوقي على بحر “المتدارك”، يقول فيها:
مَرْحَاكَ فخرًا مُعَدِّدُه…. ورفعُ راياتِه مُلَوِّحُه
سخيُّ القلبِ مُقدِّرُه…. بهيُّ البسمة مناصرُه
صفيُّ الروح يجذبُه…. مالكُ القريحة مُلهمُه
يستمهل الودّ يُوقفُه…. وعبورُ الجسر مرشدُه
ويفترُ الفؤاد يسكنُه…. والمهجةُ هوًى يسحرُه
بيني في التيه وبينه…. يحتار الرّاوي كيف يكتبه!
***
تشعُّ النجماتُ تنشرُه…. وشموعُ اللّيل ترقبُه
والشطُّ رملٌ يبلعُه…. والمحيطُ حلمٌ يغرفُه
باسمُ الثُغر يُنشدُه…. مترّنمُ اللحن مُردّدُه
وطيفُ اللحظة يؤكّده…. وضِيقُ الصدر يتنهّدُه
ما بالُ البحر لا يجذبه…. ورياحُ الشرق تُبعده
ما بالُ الموج يُغرقُه…. وقبلةُ البحّار لا تُسعفه؟
***
يأتي القصيد يقتلُه…. ويُلغي العقلَ تذوقُه
يحتسي الشعرَ يُسكرُه…. يُنعش الوجدانَ توهُّجُه
ويفيض الجدولُ يسكبُه…. ويذوب الشهدُ مُعتّقُه
الوجد شعلةٌ تؤجّجه… والبعدُ متاهة تؤرّقُه
والصبابة جوًى تكبرهُ… والشغفُ بَتَلٌ يُغالبه
مرحايَ.. أجراسُ اللقاء تعلنُه…. فأينَ مرحاهُ.. أعانقُه؟
***
القلبُ ضاع موقعهُ…. والنبضُ أنت منبعُه
والزّهو زادتْ نشوتُه…. والعمرُ عنفوانٌ يوقدُه
والكفُّ حنّاء تنقشُه… والفرحةُ شمعةٌ تظلّلُه
مسدولُ القدِّ يُطربُه…. وقدودُ فخري تتغزّلُهُ
والأنس تريُّثٌ يُزهرُه… والمعصمُ لمسةٌ تأسِرُه
والصمت غريمٌ يورّطه… والسيل قوي يجرفُه!
***
العشقُ جلالٌ يكتبه…. والزّهو هارونٌ يحكمُه
والجسدُ نزارٌ يحرّره، وتمرّدٌ درويشُ يحرّضُه
والحجابُ فاطمة تنزعُه، والهوى كلثوم تصدحُه
أو فيروزُ ذوبانًا تسكُبه…. ورقصةُ التانغو تُلاعبه!
والبستانُ غيثٌ يغمرُه…. والعمر جذبةٌ تصرعُه
شراكة القتل تعذّبه…. والوريد قبلةٌ تذبحُه!
***
نايُ زرياب يهمسُه…. على وترِ عاشقةٍ تعزفُه
والأصبعُ أنتَ خاتمُه…. والمُلكُ أنتَ صولتُه
فتمنّت كلّ امرأة عقلَها…. لو جنونُه يُخرجُه
وتهيمُ كل عاشقةٍ…. وتُنطقَ شهرزادَ لوعتُه
فتحيا بلقيس تُعانقُه…. والقتلُ إسعافٌ تتلقّفُه!
فأقسمت روحُها بأنفاسه…. روحينِ أنهما مفردُه
وصياح الديك يعلنُه…. ونساءُ الحي تزغدرُه
وأحمر الوردتين ينشرُه… ربيعا سرمديا يخلّدُه!
***
حمامة المعري في محراب الشرقاوي
عبدالعزيز سارت، لوفن، بلجيكا، 19 غشت 2022
قصيدةٌ مهداةٌ إلى الأكاديمي البارز والشاعر الغرّيد والصديق العزيز الأستاذ محمد الشرقاوي.. تحيةً وتكريمًا لما يُتحفنا به من دراسات عميقة بأدوات حفريات المعرفة والتفكيك والفكر النقدي في شتى فروع العلوم والمعارف الفلسفية والسياسية والاجتماعية و الأدبية، و ما تجود به قريحته من بديع القريض ورقيق االقصيد في مشاهد شعرية زاهية و لوحات وجدانية معبرة خلابة.
فهنيئا لنا بوجود الدكتور الشرقاوي بيننا نحن الشتات المغربي، وهنيئا للمغرب بهذه الهبة الكريمة السخية التي نتمتع ونتذوق إنتاجاتها وعطائاتها، والتي سيسجلها تاريخ الفكر والابداع بالمغرب لا محالة، على صفحات النبوغ المغربي الخالدة بإمضاء توبقال الشامخ.
غنَّى حمامُ المغرب
وغرّدتْ طيورُه
وبدا أطلسُ الخلود
مُناديًا بين الجبال
بعدما نَصَتَ
قِفْ توبقال
تحيّي ألمعيًا
من صلصال صلبك
قد نَحَتَ
وحلّق يُناجي
روحَ نبوغٍ
فاضَ بفاس
ثم في العالمين انْبَعَثَ
قُمْ توبقال
تحضن عبقريًا
على درجات عُلاك
سَمَتْ مراتبُه
أخلاقًا و منزلةً
وهَدَّ بالعلم
عفنَ القولِ والعَبَثَ
واحملْهُ إلى قممٍ
كم خبرت كنوزها
وعرّج به على
ميراثِ أندلسِ ابن رشدٍ
لخير خلفٍ
وخيرِ من وَرَثَ
سعى إلى شهادةِ حقٍّ
يحملُ أوزارَ أمانتِها
بسَكينةٍ
فما تردَّدَ العزمُ يومًا
ولا صوتُه أبدا
بها خَفَتَ
من أين لك
تلك الفتوحات
يا فارسَ القرطاسِ والقلمِ
طَوّعتَ ما استعصَى
عند قومٍ
وبين يديك
ما ضاع ولا انْفَلَتَ
فيكَ عرفتُ
أنَّ للعلمِ
حياءً يُوشّحُهُ
فزادَكَ الله به
بسطةً فيه
كأنه ترعرع في حضنك
منذ أن نَبَتَ
تطوف بك العلومُ والمعارفُ
كأنك كعبتُها،
فتسعى لها معتكفًا
تفصلُ بين من زَاغَ
ومن على النهج
رأيتهَ ثَبَتَ
سلكتَ سبيلَ السلام
تطاردُ النزاعَ
اينما طلّت سحائبُه
تتأمّل فضيلةَ الوفاق
تنشرُها بين الناس
وتركتَ الناقمين
نكراتٍ جُثَثَا
وكم جاهلٍ
طال لسانُه
بسوءٍ
خاب سعيُه
فزهقَ الباطل
حتي تدلَّى لسانُه لَهَثَا
وسُحْتَ تائهًا
بين دروب القوافي
حتى نطق الوجدانُ
بما أوحى الجلالُ
وألهم الجمالُ
فشدى الكروانُ
يُرتّل حديثَ الروحِ
وما بَعَثَ
يا عذبَ القريضِ
كيف يأتيك النظمُ
موشّحةٌ قوافيه
خِلْتُهُ في أزل الخلود،
بعدما صلّى
في محراب الشعر،
به مَكَتَ
تغازله آلهةُ القصيد
فيجاريها ثَمِلًا
حتى صدحتْ مُهَجللٌ
تروي
تحت دوحة العشاق
بعد العناق الحديث والحَدَثَ
سمعتْ به حمامةُ المعري
فأتتْ إليه
تغرّدُ على كتفيه
أين غاب رهينُ المحبسين
ولماذا صَمَتَ؟
وسألتْ،
هل كان يرى دموعي
بعين السمع
أم كان يراني
بعين الفؤاد في الظلام
حين يعود
إلى ظلمته مُلْتَفِتَا
بين باريز وتبريز
همسُ الخيام في أذنه
يحكي ملحمةً
كيمياءُ نظرةٍ
شهدَ قبرُ شهريار
أنَّ وعدَها ما حَنَثَ
فخلَّدَ ذكراهَا
وأنشدها بديعُ شعره
و ما أروعَه،
وبعض الذكريات جراحٌ
وبعضها بلسمٌ نُشْفَى به
فنرمي ما الفؤاد
في أعماقه كَبَتَ
يا شاعرَ الشّتاتِ
وكاتبَ وَحْيِهِ
متي تنتهي مسيرة ذُلِّنَا،
إنْ تنكرت الرباط لوعدِها
فاشهد أنَّ الشتاتَ
لوعده ما نَكَثَ..!
شرقاويُ الملحماتِ
الخالداتْ، جئتكَ
ومغرب الشتات يدفعني
أحيِّي فيك حاملَ هَمِّ أمّةٍ
ما رأيتُه يوما تَوَارَى
ولا بَهَتَ
يحاورُ ضميرَها
كي يعالجَه
بما سطر التاريخُ لها
من نبوغ عمداء خالدين
بأمجادهم، توبقال
في الورى نَعَتَ!