عبد السلام بنعيسي
مهما تكن الاعتبارات القانونية التي تحاول مؤسسة الرئاسة التونسية التترُّس وراءها لتفسير استقبالها لرئيس البوليساريو، ذلك الاستقبال الاستعراضي، فإنها تظل، من وجهة نظر المغاربة، اعتبارات تبريرية للتمويه على قرار سياسي اتخذه الرئيس قيس سعيد ونقل بواسطته تونس من موقعها التقليدي الذي كانت معروفة به في المنطقة المغاربية، كدولة اعتدال ووسطية وانفتاح ومحافظة على علاقات ودية وطيبة ومتوازنة مع أشقائها في المغرب وفي الجزائر، نقلها قيس سعيد إلى دولة أضحت طرفا منحازا إلى الجزائر، أقلُّه من وجهة النظر الرسمية المغربية.
ما قد يستسيغه المغاربة من كينيا أو إثيوبيا أو الصين مثلا، في قضية الصحراء، لا يمكنهم قبوله من تونس الشقيقة، في هذه القضية، لأن مقام تونس، مختلف ومتميز إيجابا في نفوس المغاربة، عن غيرها من الدول البعيدة. ولذلك فإن الاستقبال الصاخب من جانب الرئيس التونسي، لإبراهيم غالي في المطار، والسجاد الأحمر المفروش لرئيس البوليساريو، والجلوس معا في قاعة الانتظار، والتقاط الصور، ونشر الاستقبال وما رافقه من حفاوة مبالغ فيها، في وسائل الإعلام التونسية الرسمية، كل ذلك، بدا للمغاربة، أنه لا يمكن أن يكون عفويا ومجرد إجراءٍ تستدعيه آلية حضور أشغال الندوة اليابانية الإفريقية. إنها رسالة مشفرة وقع توجيهها من تونس إلى المغرب، ويتعين علينا تفكيك رموزها لقراءتها على حقيقتها.
كان لافتا أن الرسالة وصلت إلى الرباط والرئيس الفرنسي مانويل ماكرون في زيارة إلى الجزائر التي أعربت في السنتين الأخيرتين غير ما مرة عن قلقها وتوترها من تطبيع المغرب علاقاته بالدولة العبرية، وكما هو معلوم فإن فرنسا تعتبر منطقة المغرب العربي حديقتها الخلفية، وهي بدورها أبدت انزعاجها الكبير من كون الولايات المتحدة الأمريكية دخلت على الخط بقوة في المغرب وأصبحت تؤيد مغربية الصحراء، وهي تمدُّ يديها لتسيطر بالكامل على الثروات الموجودة في المغرب وفي أقاليمه الصحراوية، وتدفعها بعيدة عن المطامع الفرنسية، وكما نعلم فإن الرئيس التونسي قيس سعيد وصل إلى السلطة وهو يرفع شعار التطبيع خيانة، ومنذ أن أصبح رئيسا للجمهورية التونسية فضّل إقامة علاقات جيدة مع الجارة الجزائر، على حساب العلاقات التي كانت تقليديا طيبة بين تونس والمغرب، فهل شكّل رفض التطبيع مدخلا، بالنسبة للجزائر، لدفع تونس صوب هذا الاستقبال الذي خُصِّص لغالي، بغرض توتير علاقاتها بالمغرب، وجرى ذلك بتغطية من باريس، ولحسابات فرنسية خاصة؟؟؟
إذا كانت هذه الفرضية صحيحة، وهي الثاوية خلف ما أقدم عليه قيس سعيد، فإن هذا يفيد بأن الرئيس التونسي بادر إلى محاولة تصحيح خطأٍ بخطأٍ أكبر منه، نحن نتفق مع فخامة الرئيس على أن التطبيع كارثة حلّت بالمنطقة المغاربية، والشعب المغربي في غالبيته العظمى يرفض التطبيع ويقاومه ويسعى لإسقاطه، ولا يوجد من يدافع عن التطبيع إلا أقلية محدودة جدا، وهي في معظمها تروج للتطبيع مقابل الريع الي تحصل عليه من السلطة، ولكن رفض التطبيع ومقاومته لا يجب أن تكون بتزكية حركة انفصالية، تريد خلق كيان ميكروسكوبي في المنطقة، لا يمتلك أي مقوم من مقومات الدولة. إسرائيل تريد تفتيت المنطقة العربية كلها، وتحويلها إلى دويلات/كانتونات، لكي تظل هي الأقوى بينها، والمسيطرة عليها. وخلق كيان قزمي في المنطقة المغاربية لا يقلُّ خطرا عن التطبيع الذي اقترفته الدولة المغربية مع الكيان الصهيوني. التطبيع والتفتيت وجهان لعملة واحدة، وهما معا يؤديان إلى ذات النتيجة التي هي إضعاف الدول العربية.
لقد سُررنا كثيرا ونحن نتابع تصريحات الرئيس قيس سعيد في حملته الانتخابية، حين كان يقرن التطبيع بالخيانة، ويعتبره مرفوضا سياسيا وأخلاقيا، وكان منتظرا منه ومن الدولة الجزائرية سنَّ قانون يجرم التطبيع في بلديهما ويعاقب عليه أشدَّ العقوبة كما فعلت الدولة العراقية الشقيقة، وكنا سنرحب ونقبل من الدولة التونسية، لو أنها نظمت حملة إعلامية في صحافتها الورقية والإلكترونية وفي قنواتها التلفزيونية تناهض التطبيع في المغرب وتحرض على رفضه، وكانت ستجد المغاربة متجاوبين مع دعواتها، وكان مفيدا لو أن الدولة التونسية حثت النشطاء السياسيين التونسيين الرافضين للتطبيع على الاتصال بأشقائهم المغاربة لتنظيم لقاءات وندوات وإلقاء محاضرات، ولِمَ عقدُ تجمعات ومسيرات وحتى اعتصامات مشتركة في دول المغرب العربي، تدعو لمناهضة التطبيع، والعمل من أجل إسقاطه، لو أن السلطة في تونس والجزائر قامتا بمبادرات من هذا القبيل، وضغطتا دبلوماسيا في هذا الاتجاه، لكانتا ستحاصران التطبيع في المغرب، وستصبح مبادراتهما في هذا الشأن فعالة، وقد تؤدي إلى نتيجة..
لكن رفض تجريم التطبيع على غرار ما قام به زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، واستقبال زعيم البوليساريو من طرف الرئيس قيس سعيد، بذريعة مناهضة التطبيع، فهذا تصرُّفٌ متناقض، ويؤدي إلى تكريس التطبيع وتزكيته في المغرب.
بعض أركان السلطة الحاكمة في الرباط دفعوها للإقدام على التطبيع مع الدولة العبرية، ليس بدافع الحفاظ على الوحدة الترابية كما تروج لذلك في إعلامها البائس، الوحدة الترابية مصانة بتضحيات أفراد الجيش المغربي الباسل، ضباطا وجنودا، الذين ضحوا بأرواحهم الطاهرة ودمائهم الزكية دفاعا عن مغربية الصحراء. الغرض من التطبيع، الحصول على الحماية الأمريكية، لتأمين عدم المساءلة في الكونغريس، ومن طرف الرأي العام الأمريكي عن أوضاع حقوق الإنسان في المغرب، ولضمان استمرار التحكم في الشعب بالاستبداد واحتكار الثروة…
والذي يريد أن يناهض التطبيع المغربي الرسمي بالتطاول على الوحدة الترابية المغربية، فإنه يقدم الذخيرة للسلطة، لكي تتمسك بالتطبيع لتمرير الاستبداد، تحت يافطة ربط التطبيع بقدسية معركة الأقاليم الصحراوية، هذه المعركة التي تعتبر، بالنسبة للمغاربة، حقا، معركة مقدسة، وهم على استعدادٍ لخوضها مهما كانت تكاليفها باهظة وعالية… فالإجماع المغربي على التمسك بوحدته الترابية ليس صناعة سلطوية، إنه إجماع نابع من إيمان المغاربة بعدالة قضيتهم، ومن إحساسهم بخطورة المشروع الانفصالي الذي يراد له أن ينشأ في المنطقة.
تونس الدولة ذات التاريخ العريق، تونس التي كانت عاصمتها في وقت من الأوقات هي مدينة قرطاجنة، وكانت تحكم منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط برمتها، وتونس التي أقام فيها العرب الأوائل مدينة القيروان، ومنها انطلقوا لنشر الإسلام والعربية في عموم شمال إفريقيا، وفي ما وراء الصحراء الكبرى، وتونس التي يوجد بها جامع الزيتونة الذي تخرج منه الآلاف من الفقهاء والعلماء المسلمين، وتونس التي أعطت للأمة العربية الشاعر الفذ أبو القاسم الشابي صاحب رائعة إذا الشعب يوما أراد الحياة، وأعطتنا المناضل النقابي الشهيد فرحات حشاد، وتونس التي احتضنت مقر منظمة التحرير الفلسطينية حين ضاقت بالفلسطينيين الأرض بما رحبت بعد خروجهم من بيروت سنة 1982، وضمت مقر الجامعة العربية لسنوات طوال، تونس هذه عزيزة علينا، ونتمنى لها أن تظل في تاريخها الزاخر، منبرا لجَمْعِ العرب والمسلمين، وجسر الهوة القائمة بين الأشقاء.
لا نتمنى لتونس أن تتحول، كما يراد لها، إلى أداة، لضرب الوحدة الترابية لدولة شقيقة أخرى لها التي هي الدولة المغربية، أو أداة في يد باريس تساوم وتضغط بها على المغرب سعيا منها للحفاظ على امتيازات فرنسا ومغانمها الطائلة من الثروات المغربية، المغاربيون في حاجة إلى أن تظل تونس خيمة يستظل بظلها أشقاؤها الجزائريون والمغاربة، وأن تصبر في مساعيها لمساعدتهم على فض خلافاتهم، وألا تيأس من الاستمرار في أداء هذه المهمة مهما كانت شاقة وعسيرة. إذا انحازت تونس إلى طرفٍ ضد الآخر، ستفقد دورها، وتفقد ذاتها التي تميزت بها طوال تاريخها، وهذا ما لا نتمناه، صادقين، لأنفسنا، ولها…
Visited 44 times, 1 visit(s) today