الرسام الساخر بختي وطفولةٌ شقيّة في “عين السبع”
لحسن بختي
أتذكر وأنا طفل في قسم المتوسط الثاني في المرحلة الابتدائية، وبالتحديد بمدرسة اتحاد الحي المحمدي، والتي كنت دائما أتساءل عن القلوب التي كانت في أجساد بعض معلميها، أتذكر حين كنا نتناول الوجبة اليومية، وهي عبارة عن عشر جلدات بقوة مائة جلدة (على الأقل) لكل خطإ. والخطأ هو أن تنسى نقطة نهاية الجملة أو فاصلة بين جملتين، أو تتلعثم في استظهار الدرس للمعلم الذي يستفزك بنظراته لكي يتمكن من تصيدك، وكلما ازداد عدد الأخطاء كلما تضاعفت العقوبة حسب عدد الأخطاء.
أما درس النحو، فكان الكل ملِماًّ بقواعده، وهو الشيء الذي لا يزال يلازمنا، وحتى من توقفوا عن الدراسة في الإعدادي ليلتحقوا بمهن الشرطة أو التعليم الابتدائي أو الدرك الملكي…
والحمد لله كان لنا اختيار العقوبة: على اليدين أو أخمص القدمين، أو صفعة واحدة تنقلك إلى عالم جميل، لولا الصفارة المزعجة التي تلازمك لمدة طويلة بعد الرجوع منه.
كل هذا، حين أتذكره أحس بنعمة الحرية و(ال……) لا أعرف بم أسميها، وفي نفس الوقت أتذكر أيامها حين كنت أتراجع للوراء لكي أصبح أنا آخر من ينال العقاب، متمنيا أن يحس المعلم بالعياء بعد تدريبه الرياضي اليومي، أو أن يطل المدير لكي يرق قلبه من أجل طفل يتعرض للتعذيب، أو أن يلطف الله بزلزال أو حريق أراه أقل فظاعة وأكثر لطفا مما ينتظرني.
نعم أتذكر حين أصبح الثالث قبل السابِقَين “للتحمال”، أقول في نفسي: لو كنت من أوائل المعاقبين لكانت أطرافي قد ارتاحت شيئا ما. وبغبطة أو حسد أنظر إليهم وقد بدأت عيونهم تجف من الدمع، وبدأت وجوههم تسترجع ألوانها الأصلية.
كان من بين زملائي بالفصل تلميذ اسمه العائلي “ثقيل”، وكان الوحيد الذي يختار الصفعة عوض “التحمال”، وحين يُصفع يعود لمكانه مبتسما يتهادى في مشيته على غير عادته.
مرة، راودتني فكرة الصفعة، وأنا كالعادة، كنت الأخير من ينتظر دوره في العقاب، فبدأت أقنع نفسي، وأنا أُدرك مدى خطورتها، ومن جانب آخر أمني نفسي بابتسامة زميلي ثقيل، وخوض التجربة التي ربما تحل لي لغز الابتسامة وأجد فيها حلا لمعاناتي اليومية.
عقدت العزم وأقسمت على أن أُصفع.
شدني فتاح من يدي لكي يحملني (وفتاح هذا كان تلميذا ضخم الجثة، ولم يكن يسري عليه القانون الذي يسري على باقي التلاميذ. ربما الحصانة التي كان يتمتع بها تعود لعدم وجود ند في حجمه يستطيع تحميله).
لما شدني فتاح، رمزت له بيدي بأن أُصفع، لأن الريق الذي قد يساعدني في الكلام تبخر من شدة الخوف.
ابتسم المعلم بنسليمان لسهولة مهمته، وطلب مني أن لا أدس رأسي بين كتفي وهو يصيح في وجهي ويضربني بعنف على كتفي: (تّاهبط لمُّك كتافك). حاولت جاهداً أن أفعل ما يطلب مني، لكني لم أستطع أن أتحكم في كتفي الذين كانا يصعدان لا إراديا.
وبعد كل هذه اللكمات التي أحسست منها بآلام في عضلات عنقي، قررت أن أغمض عيني وليكن ما يكون.
لكن حينما وجه لي الصفعة فتحت عيني لجزء من الثانية، وباقي المغامرة سمعته من أخي حسين الذي كان شاهدا على عملية المقصلة (guillotine) بيد عارية.
قال لي حسين إني سقطت أرضا بالكاو وبدأ يركلني بقدمه، ولما تأكد من أني فاقد للوعي طلب من فتاح وتلميذ آخر أن يحملاني ليعيداني إلى مكاني.
وبينما هما يسيران بي وذراعاي فوق كتفيهما، بدأت في العودة إلى وعيي، وطلبت منهما أن ينصرفا لمكانيهما لأني أستطيع أن أُكمل لوحدي.
كان القسم مكونا من طاولات مزدحمة لدرجة ثلاث تلميذات وثلاث تلاميذ في كل طاولة، وعدد التلاميذ ستة وستون.
لما تركني مساعداي توقفت بقرب طاولة بنات وبدأت أدفعهن لآخذ لي مكانا بينهن.
سمعت بنسليمان يقول لي: (تّا مال امُّك علاش كاتقَلّب؟)..
وهو يتوجه نحوي. وهنا عدت لوعيي والتحقت بمكاني.