قيس سعيّد.. وسط مثلث فرنسا والجزائر وإيران
محمد البقالي
لأني أزعم أني أعرف تونس جيدا لأسباب شخصية ومهنية. وقد عشت فيها أربع سنوات كنت مطلعا فيها على داوائر صنع القرار وحين خرجت منها لم تنقطع علاقتي بها، فسأدلي ببعض الإضافات.
لابد من الاعتراف بدءا أن ما حدث في تونس من “انقلاب” كان أمرًا مفاجئا جدا. لم يتوقع أحد ان رئيسا بمواصفات قيس سعيد بدون قاعدة حزبية تسنده او خلفية عسكرية أو أمنية تدعمه وبدون امتداد خارجي معلن يرفعه، سيقدم على ما أقدم عليه بتلك الطريقة.
كان الجميع ينظر الى الرجل على أنه مجرد “مجنون” أو “أهبل”، وفي أفضل الحالات على أنه “ظاهرة صوتية” لا تؤخذ على محمل الجد، بينما بينما كان هو يطبخ خطته على نار هادئة بدعم خارجي، وبتنسيق امني مخابراتي عسكري.
حتى ان خطة الانقلاب نشرت بتفاصيلها قبل شهرين من حدوثه في موقع ميدل إيست آيز البريطاني دون أن يأخذها أحد مأخذ الجد.
إلى أن جاء يوم 25 يوليوز 2021، لتكتشف أنها أخطأت باستصغارها لقيس سعيد.
لذلك أي تعامل مع هذا الشخص بمنطق الهبل او العته ان يغير من حقيقة الواقع شيئا. وهو أن الرجل لديه مخطط واضح، وسيذهب فيه إلى النهاية. أوجه الشبه كبيرة بينه وبين القذافي، إلا أنه لا يملك ما ملك القذافي من أموال.
في علاقته مع المغرب، سيذهب خطوات أخرى في اتجاه لسببين:
أولا: الرجل يعاني من نقص في المشروعية بسبب ما حدث خلال العام الأخير. لذلك فهو يعلم يقينا أن بقاءه في السلطة رهين بموقف اللاعبين الكبار في الساحة السياسية التونسية، ومن بين أهم اللاعبين في الساحة السياسية التونسية هي الجزائر وفرنسا و… إيران.
– فرنسا توفر له الغطاء الغربي بعد أن خلصها من “حكم” الاسلاميين، وهي وإن لم تكن ترى فيه رجلها المفضل لكن لا بديل عليه الان، لأن غيابه يرفع احتمالات عودة النهضة الى السلطة باعتبارها الحزب الأكثر تنظيما. لكن فرنسا لن تفعل شيئا من أجل المغرب. بل ان مصلحتها في تأزم الأوضاع المغاربية أكثر، حتى يتسع هامش المناورة لديها للاستفادة من كل الأطراف.
– أما الجزائر فمعلوم حضورها القوي في تونس منذ الثورة . السفارة الحزائرية كان يعمل بها أكثر من 100 شخص (في وقت أرسل فيه المغرب سفيرا متقاعدا في الثمانين من عمره اسمه الدكالي ليخلف نجيب الزروالي عقب اندلاع ثورة قام بها الشباب).
– الجزائر تملك أوراق ضغط كبيرة على تونس. هذه بعضها باختصار شديد:
أمنيا:
الحدود بين البلدين تتجاوز 1000 كيلومتر، وهي حدود لا تستطيع تونس تأمينها بدون دعم جزائري وقد تحولت في مرحلة ما الى مرتع للمجموعات المسلحة. الجيش التونسي محدود العدد وضعيف العدة. وهو غير قادر على تأمين الحدود دون دعم جزائري.
اقتصاديا: هناك من جهة الغاز الجزائري، ومن جهة ثانية السياحة. أكثر من مليون سائح جزائري يدخل تونس سنويا في وقت يعرف فيه الاقتصاد التونسي وضعا كارثيا ينذر بعدم قدرة الدولة على سداد أجور الموظفين.
إعلاميا: تشكل لوبي جزائري قوي وسط النخبة الاعلامية والثقافية. والنتيجة أن العلاقة بين تونس والجزائر ليس متوازنة أبدًا. فلا تكاد تسمع نقدا لغياب هذا التوازن الا قليلا.
العلاقة مع إيران:
هناك علاقة أخرى لا يتم الحديث عنها كثيرا وهي مؤثرة بشكل مستتر، وهي علاقة تونس مع ايران. وقد تعززت مع وصول سعيد الى السلطة. الرجل لديه ود غير معلن لإيران والسفارة الايرانية اضحت لاعبا رئيسيًا مستترا في تونس وخاصة على مستوى نشاطها الثقافي.هناك من يذهب الى اتهام سعيد نفسه بالتشيع، وهناك من يتهم شقيقه نوفل سعيد. ليس هناك دليل لكن المؤكد أن النشاط الايراني قوي في البلد ومعه مد للتشيع.
ولعله من المعلوم أنه العلاقة مع ايران تدفع في اتجاه تعميق التوتر مع المغرب ولن يكون مستغربا ان تزيد تونس خطوة اخرى في اتجاه تأزيم علاقتها مع المغرب..
ثانيا : لا يغامر سعيد بأي خسارة شعبية اذا صعد ضد المغرب. وإليكم السبب.
منذ الثورة سرت في الأوساط التونسية محبة وشعبا أن المغرب “سرق” سياح تونس وشركاتها وسوقها الدولية، مستغلا أزمتها الامنية والسياسية. هذا الأمر تردد بقوة في الإعلام وفي حديث المقاهي، ويصعب أن تقنع التونسيين بغير بذاك. حتى أنه ثمة شائعة تسري بقوة، فوجئت أن زميلة ترددها،مفادها أن المغرب يقف وراء بعض العمليات الإرهابية من أجل زعزعة الاستقرار لكي يجلب الشركات الدولية والسياح.
هذه “السردية” غير قابلة للتغيير. تذكروا أن هناك”لوبي” قويا ، إعلاميا وثقافيا ، مهمته رعاية مثل هذه الصورة.
ثم جاء التطبيع، وحساسية النخب التونسية ضده كبيرة. ولكم أن تتصوروا كيف أصبحت صورة المغرب في المخيال الجماعي التونسي نخبة وشعبا. ولعل هذه أكثر كارثة حلت بصورة البلد خلال العشرين عاما الأخيرة. لا أعرف ماذا جنى المغرب منها، لكن اعرف جيدا ماذا يخسر.
لذلك أعتقد أن السيل كان جارفا ومفاجئا وكبيرا. وأشهد أن السفير حسن طارق قام بعمل ممتاز خلال وجوده في تونس. لذلك لا أرى بابا للتحامل عليه“.